تاريخ الاستلام: 1 اذار 2022          تاريخ القبول: 1 تموز 2022

حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية

حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف

حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)

CC BY-NC-ND 4.0 DEED

Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University

Intellectual property rights are reserved to the author

Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)

Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International

For more information, please review the rights and license

Doi 10.61279/cdc1dh93

نطاق انحسار مبدأ الشرعية الجزائية

في الظروف الاستثنائية

 (بحث تحليلي)

The scope of the regression of the principle of

criminal legality in exceptional circumstances (analytical research)

ا.م.د. محمد حميد عبد

الجامعة العراقية - كلية القانون والعلوم السياسية

Assistant Professor Mohamed Hamid Abd

Iraqi University, College of Law and Political Science  

المستخلص

تعد الظروف الاستثنائية ابرز دواعي الخروج عن نطاق الشرعية الجزائية ، كونها وبحكم الضرورة فيها تلجئ القائمين على إدارة شؤون الدولة والمؤتمنين فيها على حفظ مصالح شعبه، ان تجد من البدائل والاليات ما يكفل الإبقاء على تلك المصالح او لا اقل ، ان يصار كفالة جوهرها ايما كانت الظروف والاحوال، ونظرا لما ينماز به القانون الجنائي من أهمية وصلة كبيرتين بحقوق وحريات الافراد وكفالة المصالح الرئيسة في الدولة ، وما استقر فيه من مبادئ حاكمة ضامنة للمصالح المذكورة تلك ، وفي مقدمتها مبدأ الشرعية الجزائية، تناولنا في هذا البحث دراسة مدى تأثر ثبات هذا المبدأ في الظروف الاستثنائية ، وما اذا كان يقبل إعادة القراءة والتفسير بشكل نير يستقيم والمتغيرات التي تطرأ و ما اذا كان يمكن القول بانحسار مجال تطبيقه تحت مبررات معينة ، تندرج جلها تحت عنوان الظروف الاستثنائية، والوقوف على مجالات ذلك الانحسار والقدر الممتنع من ذلك ( الممتنع من الانحسار) ايما كانت المبررات.

Abstract

Exceptional circumstances are the most prominent reasons for deviating from the scope of penal legitimacy, as they are, by virtue of necessity, resorting to those in charge of managing state affairs and those entrusted with them to preserve the interests of their people, to find alternatives and mechanisms that guarantee the preservation of those interests, or no less, that their essence be guaranteed, whatever the circumstances. And conditions, and given the importance of the criminal law and its great link to the rights and freedoms of individuals and the guarantee of the main interests in the state, and the ruling principles that guarantee the aforementioned interests, and foremost among them the principle of penal legality, we examined in this research the extent to which the stability of this principle was affected by the circumstances Exceptionalism, and whether it accepts re-reading and interpretation in a clear and correct wayand the variables that occur, and whether it can be said that the field of its application has declined under certain justifications, most of which fall under the heading of exceptional circumstances, and standing on the areas of that decline and the amount that is prevented from that (refusing to recede). The justifications were.

المقدمة

لطالما سلمنا بان مبدا الشرعية الجزائية يعد من ركائز القوانين الجزائية ، وبما يمكن معه القول ان لاوجود لأي ضمان لحقوق وحريات الافراد ، لا بل لم ولن تستطيع الدولة ان تحفظ امنها ووجودها دونه، حيث انه ترشح نتيجة لمخاضات فكر وواقع كبيرين ، وتحصل جراء تنوير معرفي عماده ، ان السلطات ينبغي ان الا تكون مطلقة دونما ضوابط تحد من وسعها ، وتنقب جوهرها .

لم يدر في اذهان المؤسسين والمعتنقين والمؤيدين لذلك المبدأ سوى ضمان حقوق الافراد وحرياتهم من الجور والإمتهان ، لذا فانهم حينما تعرضوا له وارسوا دعائمه لم يفكروا ولم يضعوا بعين الاعتبار إمكانات تراجعه لأسباب قد تكون ضرورية ومنطقية متطلبة ، لا بل انهم رفضوا أي حديث قد تفضي نتائجه الى التفكير بوضع استثناءات او ضوابط تمس بجوهره ، لذا وصف هذا المبدأ بالجمود النظري والتطبيقي والمادية الصارمة في اسسه ومبتغاه.

ان أسس هذا المبدأ وكافة مبرراته رغم نبل توجهاتها وصدق مضامينها ، ليس لها ان تبقى خالدة ومنيعة من المراجعة والتطوير، حيث ان لا شيء في هذه الحياة ما خلا دستور الحياة ، قرآن الرحمة ، يبقى عظيم الوضع دامغ الحجج ، مانعا جامعا ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لذا ونظرا لتسارع المتغيرات الكبيرة في واقع الحياة الإنسانية وما زخر به العقل البشري من تطورات ، وما صاحبها من اهتزازات واعتلالات ، دعت الحاجة والزمت الضرورة ، إعادة النظر في بعض المرتكزات والثوابت ، انطلاقاً من ذات الأهداف النبيلة ، والتي تمثلت بحفظ المصالح الرئيسة ، لاسيما ما يتعلق منها بحقوق وحريات الافراد.

تعد الظروف الاستثنائية ابرز دواعي الخروج عن نطاق الشرعية الجزائية ، كونها وبحكم الضرورة فيها تلجئ القائمين على إدارة شؤون الدولة والمؤتمنين فيها على حفظ مصالح شعبه، ان تجد من البدائل والاليات ما يكفل الإبقاء على تلك المصالح او لا اقل، ان يصار كفالة جوهرها ايما كانت الظروف والاحوال.

إشكالية البحث

تدور إشكالية البحث حول تحديد ما اذا كان مبدأ الشرعية الجزائية مما يقبل قراءة جديدة تسمح بتضييق مجال تطبيقه تحت مبررات معينة ، تندرج جلها تحت عنوان الظروف الاستثنائية، والوقوف على مجالات ذلك الانحسار والقدر الممتنع من ذلك ( الممتنع من الانحسار) ايما كانت المبررات.

منهجية البحث

سنتناول في بحثنا هذا دراسة موارد انحسار نطاق تطبيق مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية وذلك بكيفية تحليلية ، مدارها الاستقراء والاستنباط المنطقيين لذلك المبدأ وما سطره الفقه والقضاء بصدده من مقولات وما اعتمده المشرعون بشأنه من توصيفات وغايات.

هيكلية البحث

سنأخذ ابتغاء الالمام بكافة حيثيات الموضوع ومتطلباته ، تقسيمه الى مطلبين ، نخصص الأول منهما للبحث في مسوغات انحسار مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية، ونبين في الثاني موارد انحسار مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية.

المطلب الأول

مسوغات انحسار مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية

قبل الخوض في أسس و مرتكزات مبدأ الشرعية الجزائية تحتم علينا أصول البحث العلمي ، بيان ماهية الظروف الاستثنائية وبالقدر الذي ينسجم ومتطلبات البحث ومراميه ، ودونما تفصيلات ، تخرج بنا عن إشكالية البحث وفلسفته المنشودة، بعد ذاك سيصار البحث في مبدأ الشرعية الجزائية بغية تحديد مسوغات انحساره في الظروف الاستثنائية.

ماهية الظروف الاستثنائية

كثيرة هي تلك الدراسات والابحاث التي عكفت على ايضاح مفهوم وماهية الظروف الاستثنائية، وماذا يقف ورائها من اصل  وفلسفة وماذا يتغيا من اقرارها واعتماد كيانها ، من اهداف ومرامي لابل ومن ذلك اكثر ، اختلف الفقه في تسميتها بين من اطلق عليها تسمية الظروف الطارئة وبين من عدها نظرية للضرورة([1]) وآخر معتبراً اياها نظرية للحرب ، وبين هذا وذاك ، نجد ان الاختلاف وان كان قد استشرى الى حد ما في الشكل الا انه استقر في الجوهر ، ذلك الجوهر الذي يضعنا قبال سؤال واحد مفاده :

هل نحن في وضع يسمح لنا بأن نتمكن من حفظ سلامة الشعب وحقوق افراده وحرياته من خلال إعمال التشريعات القانونية (لاسيما الجزائية منها) الموضوعة لظروف اعتيادية ؟

ان الاجابة بالنفي على هذا التساؤل ( والتي نجزم بصحتها ) تدعونا الى الإقرار بوقوع البلد تحت حكم ظروف لا قبل لها بمواجهتها الا بقواعد استثنائية ، لذلك فأيما كان الاختلاف حول حيثيات تلك الاحداث او الظروف فأنه لايغير من حكم الاضطرار(اضطرار اللجوء الى استثنائية بديلة ) شيء .

اختلف الفقه ( بحكم اختلاف طبيعة الحدث او الظرف ) في مسألة تحديد تلك الظروف او لا اقل ماهية صورها ؟ وهل انها تقع تحت حصر ممكن ؟ ام ان ذلك عسير

حتماً ان ذلك عسير ، فلا قدرة لشخص على حصر مظاهر تلك الظروف او التنبؤ بما هو خفي منها ، الا ان الاختلاف حول صور تلك الظروف بدا بيناً ، وكان في جله يدور حول مفهوم الحالات الاتية :

حالة الطوارىء

الاحكام العرفية

الازمات الاقتصادية

الضرورة

القوة القاهرة

نكرر جازمين ان مدار الصور اعلاه هو وجود ما يستدعي الاجراءات العاجلة والكافية للمواجهة ، الا اننا نبدي تحفظنا على اعتبار كلاً من الحرب وحالة الطوارئ والاحكام العرفية والضرورة من صور الظروف الاستثنائية ، فهذا خلط مرفوض بين الظرف بعينه وبين الاجراء المتطلب بعد قيامه ، ذلك ان اعلان حالة الحرب او الطوارىء او حتى الاحكام العرفية هي بمثابة تصريح كاشف عن وجود ظرف استثنائي معين يستلزم تدابير عاجلة فهي اجراءات بحقيقتها  وليست هي الظرف ذاته ، فعندما تقع الدولة تحت وطأة الحرب فيتم اللجوء الى قواعد استثنائية لهذا السبب ، فلا يمكن القول بإعلان حالة الحرب ، فالأخيرة لا تعلن وانما يكشف عن وقوعها ، ويصح عند ذاك اعلان حالة الطوارىء نتيجة ذلك الظرف الاستثنائي ( الحرب ) او اعلان العمل بالأحكام العرفية،او حتى اعلان حالة الطوارىء لهذا السبب ايضاً ( يختلف هذا الموضوع حسب التنظيم الدستوري او التشريعي للدولة المعنية  ) لذلك نرى ان ما جاء به دستور جمهورية العراق لسنة 2005 لم يكن من الدقة بشيء حيث انه وبموجب احكام البند تاسعاً من المادة الحادية والستون وفي سياق التعرض لاختصاصات السلطة التشريعية نص على الآتي :

تاسعا : - أ- الموافقة على اعلان الحرب وحالة الطوارئ باغلبية الثلثين، بناءا على طلبٍ مشترك من رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء .

ب- تُعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يوما قابلة للتمديد، وبموافقةٍ عليها في كل مرة .

ج- يخول رئيس مجلس الوزراء الصلاحيات اللازمة التي تمكّنه من ادارة شؤون البلاد في اثناء مدة اعلان الحرب وحالة الطوارئ، وتنظم هذه الصلاحيات بقانون، بما لا يتعارض مع الدستور .

د- يعرض رئيس مجلس الوزراء على مجلس النواب، الاجراءات المتخذة والنتائج، في اثناء مدة اعلان الحرب وحالة الطوارئ، خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتهائها )

ان الحرب وكما بينا آنفاً لا تعلن بل تقع ، ليتم بعد ذلك العمل بقواعد تنسجم وهذا الظرف ( كما في اعلان العمل بالأحكام العرفية او العسكرية ) وذات الاعتراض يشمل الظرف الطارىء فهو لا يعلن وانما يكشف عنه باعتباره طارىء وغير متوقع الاحاطة او الحصول ، لذلك كان من الافضل لو ان المشرع الدستوري نص على الآتي (( تخويل السلطة التنفيذية بالعمل على وفق الانظمة والقوانين الاستثنائية عند وجود ظروف استثنائية تستدعي ذلك ...))

اما بشأن الضرورة فهي ليست ظرفاً بجوهرها وانما هي حالة الاضطرار التي تعد من شروط هذه الظروف ، فلا استثناء يمكن الحديث عنه دونما اضطرار ملجىء لاتخاذ اجراء عاجل .

في سياق ذي صلة ، نلاحظ ان المحكمة الاوربية لحقوق الانسان[2]، أبدت عناية كبيرة بموضوع الظروف الاستثنائية وذلك من خلا الحديث عن نطاق السلطة التقديرية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي ، حيث انتهت الى اتساع نطاق السلطة التقديرية في الظروف الاستثنائية وذلك بغية التمكين اللازم لمواجهتها وضمان حقوق وحريات الافراد والمصالح الرئيسة للدولة فيها ، حيث بينت بأن الموضوعات التي تتسع معها تلك السلطة التقديرية  للدول الاعضاء هي :

أولاً: القضايا المتعلقة بالطوارئ العامة، مثل قضية ( Brannigan & McBride vUK) في سنة 1993 التي ذكرت فيها المحكمة بأن تخلي السلطات الوطنية عن التزاماتها بموجب الاتفاقية في وقت الحرب، وفي وقت وجود طوارئ تهدد حياة الأمة، تسمح للأفراد بالتقاضي امام المحكمة الأوروبية، لكن الأخيرة تمنح سلطة تقديرية واسعة للدول الاعضاء[3]

ثانياً: القضايا المتعلقة بالأمن القومي كما في قضية ( Klass v Germany ) في عام 1978 التي منحت فيها المحكمة الأوروبية السلطات الوطنية سلطة تقديرية لوضع نظام المراقبة السرية لمكافحة الارهاب والذي عدته المحكمة ضروري في مجتمع ديمقراطي لحماية الامن القومي ومكافحة الأجرام[4]

ثالثاً: القضايا المتعلقة بحماية الاخلاق العامة، تمنح فيها الدول سلطات واسعة وذلك لاختلاف هذا المفهوم من دولة إلى أخرى.

رابعاً: القضايا التي تقييم فيها الدول التوازن بين الحقوق والمصلحة العامة[5]

خامساً: القضايا المتعلقة بتطبيق السياسية الاجتماعية والاقتصادية لدول الأعضاء[6].

لذا ومهما كان من اختلاف ، ومهما تباينت التشريعات الوطنية والدولية في تعاملها مع الأوضاع غير الاعتيادية ، نجد ان مفهوم الظروف الاستثنائية يعد الاصطلاح الجامع المانع الذي يصح اعتماده وترتيب الآثار القانونية بحوله .

مسوغات انحسار مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية

إن صح الحديث عن عظم واهمية مبدأ الشرعية الجزائية ، وماله من امتدادات تضرب في اصول التجريم والعقاب تاريخاً ونشأةً وتطوراً واستمرار[7]، الا ان ذلك لا يعدم بأي شكل من الاشكال ، علة ذلك الاحترام والتسليم ، فحيثما كانت علة ذلك تدور وجوداً مع حقوق وحريات الافراد وضمان المصالح الرئيسة في الدولة ، فلا ضير بتحول ذلك الوجود الى هيئة اخرى يجب ان تكتسي هذا المبدأ ليكون قادراً على مسايرة كافة اشكال ومظاهر التطور في مصالح الدولة والافراد ، لذا ومما تقدم نخلص الى ان مبررات ولادة هذا المبدأ في فكر المدارس العقابية ، قابلة لان تلد مفهوماً اخراً قادراً على تقبل ابداء بعض المرونة في تطبيقه امتثالاً للآتي :

فلسفة المبد[8]:

فنحن كلما استحضرنا فلسفة هذا المبدأ كان يقيناً لازماً ان تحترم هذه الفلسفة في كل حين ، اذا ان القراءة الناجعة للواقع التشريعي والمجتمعي ، يجب ان تستوعب ضمان المسايرة الحقيقية لما وراء تلك النشأة ( نشأة المبدأ ) فاذا كان ضمان حقوق وحريات الافراد لا يستقيم والإعمال  الجامد لهذا المبدأ ، فلابد لنا سوى بداء المرونة والتعقل في تطبيقه بالشكل الذي يستلهم فلسفة الاشياء

استيعاب السوابق التاريخية :

اذا كانت السوابق التاريخية تبعث الحزن والاسى عن الكيفية التي كان يتم معها التعامل مع حقوق وحريات الافراد ، وما كان يتم التضحية به منها لصالح سيادة الحاكم وادواته السياسية والقضائية والدينية ، فإن الامر يجب ان لا يبقى بهذه الخشية والقلق ، حيث ان ضمانات الحد الادنى من الاحترام اللازم لحقوق وحريات الافراد في ظل سيادة دولة القانون تكاد تبعث التطمينات الكافية ازاء تلك المخاوف ، وتجعل من مراجعة وقراءة هذا المبدأ بشكل اكثر معقولية ، امراً مقبولاً .

تجاذبات افكار المؤسسين :

ان نشأة هذا المبدأ في اصوله التاريخية العقابية ، والتي ترجع الى فكر المدرسة التقليدية وعلى رأسها الفقيه الايطالي سيزاري بيكارياً (سنة 1764) ولاسيما ما عرضه من مسوغات وقناعات بشأن حتمية التزام هذا المبدأ بالشكل الصارم  ، لم تكن ( و اقصد النشأة ) ذا افق احادي القطب ، بل تجاذبتها آفاق اخرى متعددة الاتجاهات ومختلفة القناعات ، اذ يخبرنا التاريخ ان الاعتراضات والمؤاخذات التي طرحها فقهاء المدارس العقابية الاخرى ( لاسيما فقهاء المدرسة الوضعية ) كانت تتجه في نظرها وفكرها الى ما قد يستجد من ظروف لاسيما الاستثنائية غير المتوقعة منها ، وما قد يستحيل او يصعب مواجهته مع التسليم بقداسة المبدأ وجموده المطبق ، ما ادى الى ابداء المراجعات اللازمة من ذات المؤسسين ليجعلوا منه في ظل نظرة اكثر رحابة ، قادراً على ابداء التقدير المقيد على وفق أسباب معقولة محددة ( لاسيما في ظل التسليم بعدم قدرة المشرع على التنبؤ المستقبلي بكل شيء ووجوب افساح المجال المتحفظ امام القاضي ليستطيع التنفس من اكثر من موقع  في الحالات الضرورية )

من ذلك نستنتج ان استقرار المبدأ ورصانته لم تكن بالقدر المطبق مذ نشأته وانما كانت مثار اخذ وعطاء بين مؤيد ومنتقد ، ومستشهدٍ بالماضي ، ومستشرف ، مما يدعوا معه المقام الى تفهم وتقبل الحيدة عنه لأسباب لا تضرب صفحاً عن موجبات اقراره .

المطلب الثاني

موارد انحسار مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية

استقر الفقه الجنائي على ان هنالك عدد من النتائج التي يمكن استقراؤها من التزام مبدأ الشرعية الجزائية ، وتتحدد تلك النتائج بالآتي :

السلطة التشريعية مصدر الاختصاص الوحيد في موضوعات التجريم والعقاب

عدم رجعية القوانين الجنائية

عدم جواز اللجوء الى القياس في التجريم والعقاب

تحديد اختصاص القضاء بتطبيق القانون

الاصل في المتهم البراءة .

لذا سنتناول الوقوف على طبيعة انحسار مبدأ الشرعية الجزائية في الظروف الاستثنائية في تلك الموارد وذلك على وفق الآتي :

اولاً- السلطة التشريعية مصدر الاختصاص الوحيد في موضوعات التجريم والعقاب :

ان كفاح المصلحين وتجارب المفكرين انتهت الى ان مصدر التهديد الرئيس لحقوق الافراد وحرياتهم تمثلت بسطوة الحاكم وانفراده التشريعي والتنفيذي والقضائي في ادارة الشؤون العامة ، خلافاً لمقتضيات العقد الاجتماعي ، والذي كان يلزم الحاكم بأن يضمن للأفراد العيش الكريم والامن القويم[9]،  الا ان الاخير ( الحاكم ) ما لبث ان انحرف عن هذا الالتزام وبدأ باستمالة كافة ادوات الحكم الرشيد لصالح بقائه و تعزيز استمراه ، مما اسفر عن ثورة شرعية فكرية عصفت بهذه الانحرافات وأقرت حق الشعب في ان يكون مصدراً وحيداً للسلطات ، بذلك كانت النيابة عن الشعب من خلال البرلمان ضامناً لهذا الاصل ، ما نتج عنه التلازم الوثيق غير القابل للانفكاك بين اختصاص او انفراد البرلمان بالتشريع وكفالة حقوق وحريات الافراد[10].

اذا كان ما تقدم في اعلاه ينسجم والظروف الاعتيادية المستقرة ، فإن الحال ليس بهذه الشاكلة اذا ما كنا امام ظروف استثنائية لا تسعف القائمين على ادارة الدولة او لا تسمح لمؤسسات الدولة تأدية مهامها كما هو محدد ومرسوم لها في الدستور ، واذا كان الغرض من كينونة المبدأ القائل بأن الشعب هو مصدر للسلطات ، وان النيابة البرلمانية هي التجسيد المناسب لذلك ، تكمن ( غاية المبدأ) في حماية الشعب وضمان سلامته وامنه ، فإن الالتزام الجازم والاحترام المقدس ، يجب ان يكون ملازماً لهذه العلة ( سلامة الشعب وأمنه ) اما آليات ضمان حماية هذه المصالح الرئيسة ، ونعني بها ،التمثيل النيابي وان السلطة التشريعية مصدر الاختصاص الوحيد او الاصل في التجريم والعقاب ، فهي ذا ثبات نسبي قابل للتحول الى مآلات اخرى كلما دعت مقتضيات سلامة الشعب ذلك .

بينت المحكمة الاوربية لحقوق الانسان في سياق قواعد التجريم والعقاب  في قضيتي Cantoni v. France و Kokkinakis v. Greece، ان قيمة القاعدة القانونية لا يعني بالضرورة ان يكون لها معنى ثابت ولا يتغير وذلك للحاجة المستمرة للقواعد القانونية لكي تتكيف مع مختلف التغيرات، وهذا ما يجعل الغموض عنصراً حتمياً في القواعد القانونية، وان وجود بعض الغموض في القاعدة القانونية لا يفيد عدم اتفاقها مع أحكام الاتفاقية الأوروبية[11]. فقد اكدت المحكمة على مسألة هامة في هذه القضايا وفي غيرها من القضايا، بان هنالك حاجة مستمرة للتفسير القضائي للنصوص الجنائية بل وللتكييف مع مختلف الظروف،  وبهذا فان السلطة التقديرية للدول تتقيد بمبدأي إمكانية التبنؤ وإمكانية الوصول للقاعدة القانونية حينما تجرم فعل أو تفرض العقوبة[12].

نخلص مما ذكر آنفاً الى القول بأن السلطة التشريعية مورد الاختصاص الوحيد ، ينحسر كلما دعت الضرورة الملجئة الى ذلك وكلما اقتضت سلامة الشعب وحماية امنه وكفالة حقوق افراده وحرياتهم ذلك ايضاً ، لا بل يمكن القول بأن السلطة التي تكون الضامن الفعلي لحقوق وحريات الافراد وتحقيق سلامة الشعب في صورها كافة ( بصرف النظر عما اذا كانت تلك السلطة هي التشريعية او التنفيذيةاو القضائية) هي التي يجب ان تكون مصدراً وحيداً او على الاقل ان تكون رئيساً في ذلك الاختصاص .

ان مدار بحثنا واشكالنا في هذا الشأن لا يصح ان يُرد عليه بأن المشرع الدستوري أجاز للسلطة التشريعية تخويل السلطة التنفيذية اصدار قرارات لها قوة القانون او بناء على قانون ، حيث ان ذلك مما لا شك وجدال فيه وافصحُ دليلٍ عليه ما نصت عليه المادة الأولى من قانون العقوبات العراقي ( وغير ذلك من نصوص التفويض التشريعي ) لكن ما نود بلوغه هنا هو اتاحة المجال امام السلطة التنفيذية لتتصدى لموضوعات التجريم والعقاب في كل حالات الخلل و الانحراف او القصور التشريعي الذي تتحول معه السلطة التشريعية الى هيئة مصادرة او تعطيل لحقوق الافراد وحرياتهم بشكلها وجوهرها ، بدلا من ان تكون ضامن لها، اذ نكون والحال هذه امام تفسير وتطبيق حي معقول لمبدأ الشرعية الجزائية الذي يدور وجودا وعدما مع مضمون تلك الحقوق والحريات ، ولنا ان نعتبر من استبداد السلطة التشريعية وانحرافها عن دورها واختصاصاتها الرئيسة صورة جديدة تتحقق معها نظرية الظروف الاستثنائية ، مما يتعين معه الأمر إعادة النظر(دستوريا ) في تحقيق ماهية تلك الظروف وآليات العمل التنفيذي اللازم لمواجهتها، فما جدوى هيئة نيابية الفت الانحراف في مهامها وغدت معبرة عن توجهات ومصالح فئوية محددة ؟

ثانيا: عدم رجعية القوانين الجنائية :

يعد مبدأ عدم رجعية القوانين الجنائيةالى الماضي من النتائج الراسخة عن مبدأ الشرعية الجزائية ، لابل هو اهم واخطر تطبيقاً فيه ، حيث يشكل الدعامة الاساسية في ضمانات حقوق الافراد وحرياتهم وكفالة استقرار الدولة وصيرورتها دولة قانون حاكم([13]).

لا نبغي من هذا الالتفات تسليط الضوء على اهمية هذا المبدأ بشكل تفصيلي او ايضاح مخاطر عدم التزامه ، وانما ننشد الاجابة على السؤال الآتي :

هل تعد الظروف الاستثنائية مبرراً معقولاً لرجعية القانون الجنائي ؟

ان الاجابة عن هذا التساؤل تنكشف حالما استجلينا موجبات مواجهة الظروف الاستثنائية ، هي بلا شك لا تسير بعيداً عن الحفاظ على المصالح الرئيسة في اشكالها العديدة ، وهي بهذا الوصف تلتقي مع مبدأ عدم الرجعية في ذات الطريق ، فاحدهما لا يسير في طرق مغاير للآخر ،  دام ان هدفهما كان في نهاية نفس المسار، وان اختط كل واحد منهما سبيلاً مختلفاً لبلوغه ، لذلك لا نشهد انحساراً لهذا الاصل (عدم الرجعية) أن كان الحديث عن ظروف اعتيادية او استثنائية .

ثالثا: عدم جواز اللجوء الى القياس في التجريم والعقاب في الظروف الاستثنائية

يذهب الفقه الى ان القانون هو من يحدد الجرائم ويبين العقوبات المناسبة لها فقط. ويسمى هذا المبدأ باللغة اللاتينية ما يلي (nullum crimen, nulla poena sine lege). ويعني هذا المبدأ الا نستخدم القياس في  تفسير نصوص القانونية المتعلقة بتحديد الجرائم والعقوبات، وبشكل عام يجب الا نستخدم التفسير الواسع لنصوص قانون العقوبات[14].

ان الظروف الاستثنائية وان كانت تجيز الخروج عن بعض الضوابط والاطر القانونية تماشياً وتمكيناً من المواجهة العاجلة ، إلا ان ذلك لا يعني ان نخلق من تلك الظروف مناسبة لايجاد مصادر متعددة للتجريم والعقاب، دونما تناسب او تقدير منضبط لتلك الظروف ، فاذا كانت الضرورات في تلك الظروف تبيح بعضا من المحظورات ، إلا انها يجب ان توزن بقدرها ، ولا تخرج عن مقتضاها ولا تكون سبباً في ايجاد منظومة موضوع واجراء استثنائية لا مبرر لها ويصعب مع ذلك تفادي اضرارها ومساوئها ، فالظروف الاستثنائية ما اُقرت وتم التسليم بها إلا على وفق التقديرات المنطقية لمجريات الاحداث ومآلاتها ، فلا يصح ان تتحول والحال هذه الى سبباً لازمات مستمرة تهدد( بدل ان تضمن ) سلامة الشعب وحماية حقوق وحريات افراده .

ان الظروف الاستثنائية لا تعطل التشريع الجزائي في ماهيته ومضمونه وانما تدعوا الى الخروج عن بعض آليات انفاذه ، بالتالي فلا يمكن ان يشهد مبدأ عدم جواز اللجوء الى القياس انحساراً في تلك الظروف .

رابعا : حصر اختصاص القضاء بتطبيق القانون الجنائي

يعد حصر اختصاص القضاء في الموضوعات الجزائية واحدة من اهم السوابق التي دعت الى إعمال مبدأ الشرعية الجزائية ، وذلك نظراً للممارسات غير القانونية وغير العادلة التي   اتصف بها القضاء آنذاك ، سواء في اظهار حجم نفوذه وسطوته ، او في مسايرته واستمالته من قبل الحاكم ، لذا اعلن الفقه المصلح بلسان حازم وقول جازم ، ان القضاء لم يعد يعنى سوى بتطبيق القانون ، دونما اجتهاد او تفسير منشىء ، وقد جاء ذلك الاقرار مطلقاً لا ركة فيه ولا قلق يعتريه ، وانما منتبهاً ويقضاً ، ومحتسباً ومتهيأً ، شاملاً سائر الاحوال ومختلف الظروف ، اعتيادية كانت او استثنائية .

اذاً لايملك القضاء أي اختصاص في مجال التجريم والعقاب، فلا يستطيع ان يعد فعلاً ما جريمة من دون وجود قاعدة قانونية تجرم هذا الفعل وتحدد له عقوبة. وانما يقتصر اختصاصه في التحقق من وجود أي سبب من أسباب الإباحة أو موانع العقاب والتي من شأنها ان تجعل الفعل مباحاً كما هو الحال في الدفاع الشرعي وان يتأكد من عدم وجود موانع المسؤولية مثل الجنون المطبق والتي من شأنها الا تجعل الشخص يعاقب على الفعل الذي أرتكبه[15].

ان ما ورد من تحليل سابق يسطع في انفاذه على جهة القضاء واختصاصها في تطبيق القانون دون خلقه ، ولا يقدح في هيبته ان اوكلت جهات اخرى لم تكتسي ثوب القضاء بشرطه واصوله ، ممارسة بعض الاختصاصات القضائية لظروف استثنائية حاكمة ، دام ان علة الإيكال تلك تستجيب وحماية مصالحٍ معتبرة لها وزنها وعظيم شأنها.

بغية الاستدلال الموضوعي ولتحقق الارتباط البحثي وما جاء في أعلاه ، استقرأنا ( قدر ارتباط موضوع البحث بالتشريع الجنائي العراقي ) عدداً من قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ، توكل بعض الجهات التنفيذية ( كالوزراء ) اختصاصات قضائية كالحجز والتوقيف وغير ذلك لوجود مبررات صنفتها السلطة الحكامة ضمن القائمة التي اشتملت على صور الظروف الاستثنائية كالحروب مثلاً [16]

فضلاً عن ذلك يمكن لنا ان اعتبار ما تضمنه امر الدفاع عن السلامة الوطنية ذي الرقم (1) لسنة  (2004) تطبيقاً متماشياً وذلك التحول ، حيث منح الاخير ( امر الدفاع ) رئيس الوزراء عدداً من الاختصاصات هي اصلها وطبيعتها قضائية الممارسة كالحجز والمنع عن السفر وتقييد بعضاً من حقوق وحريات الافراد لأسباب تقتضيها مصلحة البلاد[17].

ان الخروج عن نطاق التخصص القضائي في الظروف الاستثنائية لا يعد عدولاً عن مفهوم تحديد اختصاص القضاء في تطبيق القانون ، وانما يمكن اعتباره انحساراً اخراً في تطبيق المبدأ وبشكل لا يحقق عدولاً عن سوابق اقراره وانما تفسيراً حياً وقراءة منطقية للمبدأ بالكيفية التي تجعل منه قادراً على مسايرة حماية حقوق وحريات الافراد اينما ولت ، إذ ان مثل هذا الانحسار لايهدد سلامة الشعب وأمن افراده وعديد مصالحهم ، دامه محكوم بضوابط وضمانات قادرة على تصويب مواطن الخلل او الانحراف أينما طرأت.

خامساً: الاصل في المتهم البراءة :

قد لا يصنف بعض الفقه هذا المبدأ على انه مما يرتبط بمبدأ الشرعية الجزائية ، الا ان المتعمق في ماهيته والباحث عن طبيعته ، وفلسفته واسسه ، ليس له الا ان يعده من المبادىء المحاذية له ، ومن الاسس التي دعت اليه .

ان وجه الارتباط الوثيق بين الاثنين ، يظهر في ان الاصل المفترض في الانسان و الذي يحتم براءته يقتضي عدم التجريم الا استثناء من ذلك ، فحيثما كانت فطرة الانسان تقتضي حسن نيته وبراءته ما لم ينهض الدليل خلاف ذلك ،  فإن الاصل كذلك في الافعال الاباحة ، وما كان تجريمها الا استثناء وخروجاً مؤسفاً عن ذلك النمط الايجابي ، فالشرعية الجزائية حددت الكيفية المبررة عند السير خلافاً للاصل المذكوروذلك باشتراط ان يكون التجريم والعقاب بقانون ، وان ذلك الاخير يقتضي آليات معقدة لوضعه موضع التنفيذ من خلال الاثبات الجزائي، وان ذلك الاثبات المذكور يسير على هدي اصل البراءة باحثاً عن عكسها ان وجد .

ان البحث في مبدأ اصل البراءة وارتباطه الوثيق بمبدأ الشرعية الجزائية[18]، لم يصمد في الظروف الاستثنائية ، التي حتمت انقلاب ذلك الاصل لحين زوال الموجب (الظرف الاستثنائي ) وخير ما يمكن  ان نستشهد به للتدليل على صدق ذلك ، التعديل التشريعي الذي اصدره مجلس النواب في عام 2019 لقانون هيئة النزاهة ذي الرقم 30 لسنة 2011 ، حيث قام بتعديل اسم القانون ، ليعنونه بقانون هيئة النزاهة والكسب غير المشرع ، عاداً الكسب غير المشروع و الذي تناوله التعديل في البند سابعا من المادة الاولى  من القانون[19]، بانه جريمة تستوجب المساءلة الجزائية دام الفاعل لم يتمكن من اثبات مشروعية الزيادة الحاصلة في امواله ، بما يعني بكلمة اوضح ، انه قام بنقل عبء الاثبات من عاتق السلطة القضائية او الجهات المختصة الى المتهم مفترضاً فيه الشبهة والاتهام تاركاً براءته خلف ذلك بكثير.        

ان وقوع البلد تحت واقع الظروف الاستثنائية لا يعني ان تكون صورة ذلك الظرف عبارة عن حادث او حدث بعيد الصلة وعديم الارتباط بواقع البلد ومنظومته القانونية ، فهي (الظروف الاستثنائية) وان اخذت في العديد من صورها ذلك المظهر ، الا انه ليس باللزوم المؤبد ، فقد يتحول الوقع الاعتيادي الى استثنائي وذلك لتعاظم خطره وجسامة ضرره ، بان يصبح ظاهرة توازي بعض الكوارث الطبيعية او البيئية او الصحية ان حلت ( كما في جائحة كورونا ) ، فهنا ان مانعنيه بالقول هو الفساد الاداري والمالي الذي لا يختلف فيه اثنان بأنه عظيم الخطر و الضرر ، ولايقل شأنا ً عن حرب تقع على البلد او كارثة تهدد اركانها .

نتيجة لما تقدم فإن انحسار مبدأ اصل البراءة في ظل تفشي ظاهرة الفساد الإداري والمالي والتي تأخذ (بتقديرنا المتواضع) ذات حكم وضوابط الظروف الاستثنائية ، يعد ضرورة مبررة لا غنى عنها شريطة ان يلتزم القائمون على الامر حدود الاستخدام الرشيد والتقدير المتناسب بين الاسباب الموجبة والاهداف المبتغاة .

الخاتمة

ليس من السهولة بمكان ان يقحم الباحث نفسه في ثنايا مبادىء ذا اثر كبير في ارساء دعائم القانون الجنائي ، خصوصاً اذا ماعلمنا ان المخصوص بذلك هو  مبدأ الشرعية الجزائية ، الا ان صعوبة الامر لاتفيد استحالته ، لذلك كان لنا بحث تأثير الظروف الاستثنائية على هذا المبدأ، والذي انتهينا منه الى الاتي :

الاستنتاجات :

ان استقرار هذا المبدأ ودوره الرئيس في ترسيخ القانون الجنائي لا يمنع من اعادة قراءاته بالشكل الذي يحقق سلامة الشعب وكفالة حقوق افراده وحرياتهم .

تعد السلطة التشريعية صاحبة الاختصاص الرئيس في سن القوانين الجنائية ، وتبقى محتفظة بهذا الاختصاص كلما كانت قادرة على حماية المصالح الرئيسية في الدولة ، مما يعني ان سن القوانين الجنائية ينعقد لمن اهو اقدر على صون تلك المصالح

ثبات مبدأي عدم رجعية القانون الجنائي وعدم جواز اللجوء الى القياس في مسائل التجريم والعقاب ، سواء كنا في ظروف اعتيادية ام استثنائية .

اتساع نطاق اختصاص السلطة التنفيذية في التجريم والعقاب في الظروف الاستثنائية ، من خلال اللوائح او الانظمة وايما كان شكل ذلك وحسبما يقرره الدستور والتنظيم التشريعي المستقر في هذه الدولة او تلك.

ممارسة بعض الاختصاصات القضائية في مجالات تقييد حقوق وحريات الافراد في الظروف الاستثنائية من قبل اشخاص من الادارة العامة ، وبذلك كنا امام انحسار آخر لواحدة من النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية الجزائية .

انحسار مبدأ اصل البراءة في الظروف الاستثنائية ، بأن يتحول عبء الاثبات فيها على عاتق المتهم حتى يتمكن من اثبات العكس .

 

المقترحات :

ضرورة المراجعة التشريعية والفقهية لكافة التشريعات والمبادىء الجنائية بغية اعادة مداومتها وما ينسجم وعلة وجودها ، والتي تتمثل بحماية المصالح الاساسية واخص فيها بالذكر المصلحة الاكثر تقدماً على غيرها ( باعتبارها الاكثر تهديداً او الاكثر ضعفاً في دائرة الحماية الجنائية ) المتمثلة بحقوق وحريات الافراد .

ضرورة ابداء المرونة من قبل المشرع الدستوري في تعاطيه مع موضوعات القانون الجنائي لاسيما ما يتصل بمبدأ الشرعية الجزائية ، ولا نقصد بهذه المرونة التهاون في ضبط حلقات حمايتها ، وانما المرونة في فهم عللها وترجمة مبتغاها والتحرك وجوداً وعدماً على وفق هذه العلل والاهداف .

افساح المجال امام السلطة التنفيذية في مواجهة الظروف الاستثنائية بعيداً عن مخاوف الانحراف او التعسف ، دام ان ضمانات عديدة دستورية وقانونية قادرة على معالجة وتصويب هذا الانحراف وذلك ابلغ من ان تستشري هذه الظروف وتحقق اهدافها في غفلة من الوقت وفي زحمة آليات العمل التنفيذي المعقدة دستورياً ، بالشكل الذي تصادر وتنتهك معه مقتضيات جوهر الحقوق والحريات الفردية عوضاً عن الحماية والكفالة المتطلبة .

تحقيق ضمانات حماية مبدأ الشرعية الجزائية ان كان ذلك في الظروف الاعتيادية ام الاستثنائية ، وذلك من خلال الرقابة الدستورية ( رقابة المحكمة الاتحادية العليا ) والتمييزية ( محكمة التمييز الاتحادية وغيرها من المحاكم المختصة بالمراجعة التمييزية مثل محكمة الاستئناف بصفتها التميزية ) وذلك لبلوغ  التوازن المنطقي والمعقول بين مرونة التعاطي والتفسير الحي للمبدأ موضوع البحث وحماية جوهره من الشطط والافتئات.


[1] د. يحيى الجمل ، نظرية الضرورة في القانون الدستوري ، دار النهضة العربية ،  الطبعة الرابعة ، 2005 ، ص 13 وما يليها.

[2] ان المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، هي محكمة تابعة لمجلس أوروبا، ومقرها في ستراسبورغ  في فرنسا. أنشأت هذه المحكمة في العام 1959، من أجل ضمان احترام دول الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان ولضماناتها التي نصت عليها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950.

[3] Brannigan & McBride v UK, the European Court of Human Rights, Applications no. 14553/89, App No 14554/89, A/258-B, IHRL 2592, 1993.

[4] Klass v Germanythe European Court of Human Rights Applications No. 5029/71, 1978

[5] ECHR Reform, An overview of the Strasbourg Courts margin of appreciation doctrine, Open Society Justice Initiative, 2012, page 2.

[6]ibid, page 2.

[7] ينظر: د. رمسيس بهنام ، النظرية العامة للقانون الجنائي ، ط3، منشأة دار المعارف، الإسكندرية ،1997 ص7 وما يليها.

[8] Cesare  Becarriaon Crime and Punishment , translated from Italian, by, david young, Hackett Publishing company, 1986, p.7 and onwards.

[9] جان جوك روسو ، العقد الاجتماعي ( مبادئ الحقوق السياسية ) ترجمة عادل زعيتر ، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت – لبنان ، الطبعة الثانية 1995، ص 43 ومابعدها.

[10] سيزاري بيكاريا ، الجرائم والعقوبات ، الجزء الثاني ، ترجمة الدكتور يعقوب محمد علي حياتي ، جامعة الكويت ، مجلس النشر العلمي ، المجلد الثامن العدد الأول ، 1984 ، ص 220-221 .

[11] Cantoni v. Francethe European Court of Human Rights, Application no. 17862/9, 199&

Kokkinakis v. Greece, the European Court of Human Rights, Application no. 14307/88, 1993.

[12] Merita Kettunen, Legitimizing European Criminal Law Justification And Restrictions, Comparative, European & International Criminal Justice, Springer, volume 2, 2020.

[13] داحمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الرابعة، 2008، ص 113 وما بعدها.

[14] Daniel Grădinaru, The Principle of Legality, RAIS Conference Proceedings - The 11th International RAIS Conference on Social Sciences.

[15]  د. حابس الفواعرة، احترام مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات بين التشريع والقضاء، مجلة الحقوق والعلوم الإنسانية، المجلد الحادي عاشر، 354-358.

[16]  في سياق ذات صلة بما ورد في أعلاه ، تجدر الإشارة الى ان مجلس قيادة الثورة المنحل كانت له تشريعات متعددة وان كانت قد الغت معنى ومفهوم مبدأ الفصل بين السلطات ، وما كانت إلا لتعبر عن حصر جميع السلطات بيد الجهاز التنفيذي الحاكم ، إلا انه يمكن الاستشهاد بها للدلالة على ان الضرورة ( الظروف الاستثنائية - فترة الحرب العراقية الإيرانية - ايما كان مظهرها او تبريرها ) تلجئ الى تبرير انحسار بعض موارد الشرعية الجزائية ، حيث يمكن لنا ان نعتبر قراره ذي الرقم 1333 الذي صدر في عام 1984 خير معبرٍ عن ذلك حيث جاء فيه:=

=استنادا إلى أحكام الفقرة أ من المادة الثانية والأربعين من الدستور المؤقت.
قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 4/12/1984 ما يلي : 

يخول الوزراء ومن هم بدرجتهم والمحافظون كل ضمن اختصاصه سلطة حجز المقاولين العراقيين لمدة لا تزيد على أسبوعين عند ثبوت تقصيرهم في تنفيذ المشاريع أو الأعمال المحالة بعهدتهم بون عذر مشروع وحسب تقدير الجهة المختصة.

يخول السادة المذكورون كل ضمن اختصاصه سلطة حجز أي موظف أو مكلف بخدمة عامة للمدة ذاتها عند ثبوت تقصيره في أداء واجباته وإهماله في إنجاز الواجبات المناطة به

تعتبر السلطة المخولة بموجب هذا القرار شخصية ولا يجوز ممارستها من أية جهة أخرى غير مخولة بممارستها.

ينفذ هذا القرار من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

لكن تجدر الإشارة الى ان القضاء الدستوري العراقي ممثلا بالمحكمة الاتحادية العليا استقر على الغاء مثيل هذه القرارات (التي أصدرها مجلس قيادة الثورة المنحل) والتي رأى انها تهدم مبدأ الفصل بين السلطات وتصادر اختصاصات السلطة القضائية ، حيث نذكر من ذلك قرارها 8/اتحادية 2013 المنشور عبر الموقع الإلكتروني للمكتبة القانونية العراقية للحكم المحلي ضمن الرابط التالي :-

 http://www.iraq-lg-law.org/ar/webfm_send/1408.

[17] نصت المادة الثالثة من امر الدفاع عن السلامة الوطنية على الآتي:

يخول رئيس الوزراء في حالة الطوارئ وفي حدود منطقة اعلانها بالسلطات الاستثنائية المؤقتة التالية: –
اولاً – بعد استحصال مذكرة قضائية للتوقيف او التفتيش الا في حالة ملحة للغاية وضع قيود على حرية المواطنين او الاجانب في العراق ،في الجرائم المشهودة او التهم الثابتة بأدلة او قرائن كافية فما يخص الانتقال والتجوال والتجمع والتجمهر والمرور والسفر من والى العراق وحمل او استخدام الاسلحة والذخائر والمواد الخطرة ،ويمكن احتجاز المشتبه بسلوكهم وتفتيشهم او تفتيش منازلهم واماكن عملهم ،ولرئيس الوزراء تخويل هذه الصلاحيات او غيرها الى من يختاره من قياديين عسكريين او مدنيين .
ثانياً – فرض حظر التجوال لفترة قصيرة محددة على المنطقة التي تشهد تهديداً خطيراً للامن او تشهد تفجيرات او اضطرابات وعمليات مسلحة واسعة معادية ،وله عزل تلك المنطقة وتطويقها بقوات مناسبة وتفتيشها اذا ثبت او اشتبه حيازة بعض سكانها اسلحة متوسطة او ثقيلة او متفجرات او تحصن بها خارجون على القانون ،وذلك بعد استحصال مذكرة قضائية للتفتيش الا في حالات ملحة للغاية .
ثالثاً – فرض قيود على الاموال وعلى حيازة الاشياء الممنوعة ،ووضع الحجز الاحتياطي على اموال المتهمين بالتآمر والتمرد والعصيان المسلح والاضطرابات المسلحة وعمليات الاغتيال والتفجير ،وعلى اموال من يشترك او يتعاون معهم بأية كيفية كانت على ارتكاب هذه الجرائم او يحرضهم على ارتكابها وتقع بناءً على ذلك التحريض ،او من يقدم لهم مساكن او محلات يأوون اليها او يجتمعون فيها مع علمهم التام بنواياهم ،وله توقيف المتهمين بهذه الجرائم ممن توفرت ادلة كافية قانوناً لإتهامه .
رابعاً – اتخاذ اجراءات احترازية على الطرود والرسائل البريدية والبرقيات ووسائل واجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية كافة ،اذا ثبت استخدامها في الجرائم المشار اليها اعلاه ،ويمكن فرض المراقبة على هذه الوسائل والاجهزة وتفتيشها وضبطها اذا كان ذلك يفضي الى كشف الجرائم المذكورة او يمنع وقوعها وذلك بعد استحصال مذكرة من الجهات القضائية المعنية لفترة زمنية محددة .
خامساً – فرض قيود على وسائل النقل والمواصلات البرية والجوية والمائية في مناطق محددة ولفترة محددة .
سادساً – فرض قيود على المحال العامة والتجارية والنوادي والجمعيات والنقابات والشركات والمؤسسات والدوائر ،بحيث تحدد مواعيد فتحها وغلقها ومراقبة اعمالها ووضع الحراسة عليها بعد استحصال قرار قضائي ،وحلها او ايقافها مؤقتاً اذا ثبتت صلتها بالجرائم المذكورة في الفقرة ( اولاً ) من المادة (7)

سابعاً – ايقاف العمل مؤقتاً او بصورة دائمة بإجازات الاسلحة والذخيرة والمواد الخطيرة والمفرقعة والمتفجرة والاتجار بها ،اذا ثبت استخدامها او محاولة استخدامها في الجرائم المذكورة في اعلاه ،او اذا كانت تمثل تهديداً للامن والاستقرار في المنطقة او كانت حيازتها غير جائزة قانونياً .
ثامناً – اتخاذ قرارات واجراءات عسكرية وامنية سريعة تكون محدودة ومناسبة في المناطق التي اعلنت فيها حالة الطوارئ بالتنسيق مع وزيري الدفاع والداخلية او أي وزير آخر ومستشار الامن الوطني او أي جهة ذات اختصاص .

[18] لتفاصيل اكثر حول ذلك ، ينظر، د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ،ط1، دار الشروق ، القاهرة  ،1999، ص 816 وما بعدها.

[19] بين تعديل قانون هيئة النزاهة المشار اليه في أعلاه بأن الكسب غير المشروع هو (كل زيادة تزيد على (٢٠% ) سنوياً في أموال المكلف أو أموال زوجه أو أولاده لا تتناسب مع مواردهم الاعتيادية ولم يثبت المكلف سبباً مشروعاً لهذه الزيادة ويعد كسباً غير مشروع الأموال التي يثبت حصول الشخص الطبيعي عليها بالاشتراك مع المكلف بقرار قضائي بات) كما خصص الفصل الرابع منه ( المواد من 16 الى 20) لباقي الاحكام المرتبطة به.