تاريخ الاستلام: 1 آب 2022            تاريخ القبول: 1 تشرين الأول 2022

حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية

حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف

حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)

CC BY-NC-ND 4.0 DEED

Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University

Intellectual property rights are reserved to the author

Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)

Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International

For more information, please review the rights and license

Doi 10.61279/2ekvf890

إنفاذ المعاهدات الدولية في

النظام القانوني الوطني واثره على سيادة الدولة

The enforcement of international treaties in the

national legal system and its impact on state sovereignty

م.د. باسم غناوي علوان

جامعة ديالى - كلية القانون والعلوم السياسية

Dr.Basim Ghanawi Alwan

Diyala  UniversityCollage of Law and Political Science                       

Basim_khnawe@uodiyala.edu.iq

المستخلص

وضعت قواعد القانون الدولي على اساس احترام سيادة الدول، سواء على المستوى الدولي ام الوطني، الا ان هذه السيادة  لم تعد مطلقة كما كانت في السابق، بل اصبحت مقيدة بضرورة احترام قواعد القانون الدولي العام، ورغم سعي الدول بشكل مضطرد الى حماية قانونها الوطني والتمسك به كون ذلك يعد مظهراً من مظاهر سيادتها، نجد ان غالبية الدول تسعى في ذلك الى موائمة تشريعاتها الداخلية مع قواعد القانون الدولي، والامر لا اشكال فيه ما لم يكن هناك تعارض بين هذه التشريعات، وفي هذه الحالة نجد ان الدول تختلف فيما بينها في معالجة هذه المسالة، فبعض الدول تجعل من المعاهدات الدولية في مرتبة اسمى من تشريعاتها الوطنية، بينما تذهب دول اخرى الى جعل  المعاهدات الدولية في مرتبة اسمى من دستور البلاد نفسه وليس تشريعاتها الوطنية فحسب، وغالبية الدول تجعل من قواعد المعاهدات الدولية في مرتبة مساوية لمرتبة التشريع الداخلي. وهذا الامر يثير مشكلة العلاقة بين المعاهدات الدولية والقانون الوطني. والمرجع في ذلك هو دستور الدولة ذاته والذي غالباً ما يحدد القيمة القانونية للمعاهدات الدولية ازاء التشريعات الوطنية.

Abstract

The rules of international law were established on the basis of respect for the sovereignty of states, whether at the international or national level, but this sovereignty is no longer absolute, So it became restricted by the need to respect the rules of public international law, Although countries are striving steadily to protect and adhere to their national law Since this is a manifestation of their sovereignty, we find that the majority of countries seek to harmonize their internal legislation with the rules of international law, the matter is no problem unless there is a conflict between these legislations, so we find that countries differ among themselves in dealing with this issue. Some countries make international treaties a higher rank than their national legislation, while other countries go to make international treaties a higher rank than the countrys constitution itself, and the majority of countries make the rules of international treaties equal to the rank of internal legislation. This raises the problem of the relationship between international treaties and national law. The reference in this is the states constitution itself, which often determines the legal value of international treaties in the face of  national legislation.

المقدمة

موضوع الدراسة

وضعت قواعد القانون الدولي على اساس احترام سيادة الدول، سواء على المستوى الدولي ام الوطني، اذ يتمثل الاول بقيام الدولة بما تشاء من تصرفات ومنها ابرام المعاهدات الدولية بما يخدم مصالحها دون اكراه او املاء من احد، اما سيادتها على الصعيد الداخلي فيتمثل بالقيام بتشريع القوانين بما يتلاءم وطبيعة وثقافة افراد الدولة ومراعاة الاعراف والتقاليد التي نشأت عليها. الا ان سيادة الدولة على الصعيد الداخلي والتي عادةً ما تكون مطلقة، قد تصطدم بسيادتها على الصعيد الدولي والتي تكون عادةً مقيدة. لذا نجد الكثير من الدول تحاول ان تلائم بين تشريعاتها الداخلية وقواعد القانون الدولي. بيد ان الدول تسعى بشكل مضطرد الى حماية قانونها الوطني وتتمسك به كون ذلك يعد مظهراً من مظاهر سيادتها، والامر لا اشكال فيه ما لم يكن هناك تعارض بين هذه التشريعات وقواعد القانون الدولي، وفي هذه الحالة نجد ان الدول تختلف فيما بينها في معالجة هذه المسالة، ففي الوقت الذي تجعل بعض الدول من المعاهدات الدولية في مرتبة اسمى من تشريعاتها الوطنية، نجد دولاً اخرى تذهب الى ابعد من ذلك، اذ تجعل من المعاهدات الدولية في مرتبة اسمى من دستور البلاد نفسه وليس تشريعاتها الوطنية فحسب، بينما تجعل غالبية الدول من قواعد المعاهدات الدولية في مرتبة مساوية لمرتبة التشريع الداخلي. كما تختلف الدول ايضا في كيفية تطبيق المعاهدات الدولية داخل الدول، ففي الوقت الذي تستلزم بعض الدول ضرورة اتخاذ اجراءات داخلية قبيل انفاذ المعاهدات داخل الدولة، نجد البعض الاخر من الدول تسمح بانفاذها داخل الدولة مباشرةً ودون اتخاذ أي اجراء يذكر، ولعل دستور الدولة هو المرجع في ذلك وان سكتت بعض الدساتير عن هذه المسالة.

اهمية الدراسة

تكمن اهمية الدراسة في توضيح وسائل انفاذ المعاهدات الدولية في التشريعات الوطنية والجهة المختصة بتحديد الية هذا الانفاذ، وتحديد مدى سمو احكام المعاهدات الدولية عن التشريعات الوطنية. مع الاخذ بنظر الاعتبار ان انفاذ هذه المعاهدات في التشريعات الوطنية لا يمنع من وجوب توافر الشروط الموضوعية والشكلية اللازمة لإبرام المعاهدات الدولية، وبغير ذلك لا يمكن تطبيق المعاهدات الدولية او الاعتداد بها، لا على المستوى الدولي ولا الوطني.

اهداف الدراسة

تهدف دراسة موضوع انفاذ المعاهدات الدولية في النظام القانوني الوطني واثره على سيادة الدولة الى تحقيق جملة من الاهداف تمثلت فيما يلي:

تحديد طبيعة العلاقة بين المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية من ناحية الفقه الدولي والتشريعات الداخلية وموقف القضاء الدولي والوطني منها.

بيان اهمية قواعد القانون الدولي في التشريعات الداخلية ومدى سمو احداهما على الاخرى.

بيان الشروط اللازم توافرها في قواعد القانون الدولي ومنها المعاهدات الدولية لتطبيقها امام القضاء الوطني.

تحديد مشكلة التعارض بين المعاهدات الدولية وقواعد القانون الوطني والية حل هذا التعارض.

مشكلة الدراسة

تكمن مشكلة الدراسة في تحديد العلاقة بين المعاهدات الدولية والقانون الوطني. ففي الوقت الذي تكون فيه الدولة  ذات سيادة على الصعيد الدولي والوطني، نجد ان هذه السيادة مقيدة بضرورة الالتزام بقواعد القانون الدولي وبشكل خاص المعاهدات الدولية، وقد تلتزم بأحكام دولية اتفاقية لم تكن الدولة طرفاً فيها او لم تكن قد صادقت عليها، الامر الذي يظهر من الوهلة الاولى ان ذلك يعد تقييداً لسيادة الدولة. لذا يتبادر الى الذهن جملة تساؤلات: هل يعد انفاذ المعاهدات الدولية في التشريعات الداخلية مساساً بسيادة الدولة؟ ام ان الالتزام بهذه القواعد لا يخرج عن ارادة الدولة باي شكل من الاشكال؟ وماهي  القيمة القانونية للمعاهدات الدولية امام التشريعات الوطنية من جهة السمو؟ وكيف يمكن حل التعارض  بين المعاهدات الدولية والتشريع الوطني؟ وما هي الجهة والالية لحل هذا التعارض؟

منهجية الدراسة

تناول الباحث دراسة موضوع انفاذ المعاهدات الدولية في النظام القانوني الوطني واثره على سيادة الدولة اعتماداً على المنهج التحليلي عن طريق الاشارة الى اراء فقهاء القانون الدولي حول هذه المسالة وتطبيق الدول لذلك، فضلاً عن المنهج المقارن بين التشريعات الوطنية لبعض الدول حول مسالة انفاذ المعاهدات الدولية داخل الدول.

المبحث الاول

العلاقة بين المعاهدات الدولية والتشريع الداخلي

شغلت مسالة العلاقة بين القانون الدولي والداخلي فقهاء القانون الدولي، وذهبوا في ذلك الى اتجاهين: نادى الاول بوحدة القانونين وبالتالي الاعتراف بوجود صلة وثيقة بين القانونين توجب تغليب احداهما على الاخرى عند التعارض، بينما ذهب الاتجاه الاخر الى ازدواجية القانونين وبالتالي انكار أي صلة بين القانون الدولي والوطني. وكان لهذين النظريتين نتائج في الانظمة القانونية الداخلية  والتي اختلفت فيما بينها في الاخذ بإحداهما دون الاخرى. لذا كان لزاماً علينا ابتداءً توضيح العلاقة بين القانون الدولي والوطني من خلال دراسة اراء الفقهاء، ثم بيان التشريعات الدستورية في الانظمة القانونية الوطنية من هذه المسالة وذلك في مطلبين على الشكل الاتي:

المطلب الاول: موقف الفقه والقضاء من العلاقة بين القانون الدولي والتشريع الداخلي

إن تداخل العلاقات الدولية واتـساع نطاقهـا في العصر الحديث، أدى إلى تطور القانون الدولي وتقدمه بشكل أصبحت معه موضوعاته تشمل تلك التي كانت تعـد مـن صميم الاختصاص الداخلي للدولة. ولذلك فإن مسألة العلاقة بـين القـانون الـدولي والقانون الداخلي تثير عدة إشكالات قانونية، تتعلق أساسـا بتدرج القانون؛ هل القانون الدولي أسمى أو أدنى مرتبة مـن القانون الداخلي؟ وبالمقابل هل يتم التعامـل مـع القـانون الداخلي بنفس الطريقة داخل إطار النظام القانوني الدولي؟ إن هذه التساؤلات أسفرت عن وجود العديد مـن المواقف النظرية لإيجاد الحلول العملية لها.

فأصحاب النظرة الكلاسيكية التي تأخذ بفكـرة الإراديـة في وجود القانون الدولي يأخذون بمذهب الثنائية بين القـانونين الدولي والداخلي والانفصال التام بينهما[1].     فالمعاهدة حسب هذا المذهب لا تعد من مصادر القاعدة القانونية الداخلية، إذ إن تطبيق المعاهدة الدولية يتطلب اعترافاً قانونياً خاصاً من جانب الدولة حتى تأخذ صفة الإلزام والنفاذ في المجال الداخلي والذي بدونه تبقى المعاهدة الدولية خارج إطار التطبيق بالنسبة للدولة. فقواعد القانون الدولي العام مستقلة عن قواعد القانون الداخلي للدولة، وبالتالي فإنه لا مجال لتطبيق أي منهما في مجال الآخر وكأن النظامين القانونيين يسيران في خطوط متوازية، فلا مجال للالتقاء أو التعارض. كما لجأ أصحاب هذه النظرية إلى تحديد الموضوعات التي ينظمها كل من القانونين، فالقانون الداخلي ينظم قانون الجنسية والقانون الإداري والقانون الدولي الخاص. أما القانون الدولي العام، فانه ينظم حالة النزاع المسلح، والحياد والبحار، واستند أصحاب هذه النظرية إلى اختلاف كل من مصادر القانونين، والأشخاص المخاطبين، كذلك اختلاف الموضوعات التي ينظمها كل من القانونين. فمن حيث المصدر نجد أن مصدر القانون الداخلي هو الدولة وحدها، إذ إن الدولة تضع قانونها الداخلي بما يتلاءم ومصالحها الوطنية، أما قواعد القانون الدولي فتضعها إرادة مشتركة للدول وفي كلتا الحالتين فان القاعدة القانونية هي ثمرة الحياة الاجتماعية، والاختلاف هو في طريقه التعبير فقط. ومن حيث الأشخاص المخاطبون، فالقانون الداخلي يخاطب الأفراد العاديين وينظم العلاقة فيما بينهم، وكذلك بينهم وبين الدولة. أما في القانون الدولي فالمخاطبون به هم أشخاص القانون الدولي من الدول والمنظمات.

اما النظرية الثانية التي تنادي بوحدة القانونين الدولي والداخلي والتي هي نتيجة للمذهب الارادي، فتعد كل من القانونين كتلة قانونية واحدة وتفسر ذلك بان القانون الدولي العام ليس سوى جزء من النظام القانوني للدولة يختص بتنسيق علاقاتها مع الدول الاخرى، واذا كان انصار هذه النظرية يتفقون على عنصر الوحدة بين القانونين فانهم يختلفون على عنصر التفوق او السمو بين هذه القواعد. فهناك من يرى بان القانون الدولي مشتق من القانون الداخلي وهي بذلك تقر بتفوق القانون الوطني، وهناك فئة ثانية ترى عكس ذلك، اذ تقر بان قواعد القانون الداخلي مشتقة من قواعد القانون الدولي وهي بذلك تميل الى تفوق قواعد القانون الدولي على قواعد القانون الداخلي[2].

واذا اردنا النظر الى الواقع العملي من هذه المسالة نجد انه يذهب الى اعلوية القانون الدولي على القانون الوطني وذلك من اتجاهات عدة، فعلى المستوى الدولي يذهب التعامل الدبلوماسي والقضاء الدولي الى ذلك. اذ اقرت المعاهدات والمواثيق الدولية مبدأ علو القانون الدولي على القانون الداخلي، فقد قضت بروتوكولات التحكيم الفنزويلية لسنة 1903 بان يحكم المحكمون طبقاً لقواعد القانون الدولي والعدالة دون ان يتقيدوا بدقة بأحكام القانون الداخلي[3]. كما اشار القضاء الدولي لذلك في اكثر من موضع، فعلى سبيل المثال، اشارت محكمة العدل الدولية الدائمة في قرارها الصادر في 7 حزيران عام 1932 والمتعلق بالنزاع بين فرنسا وسويسرا الخاص بالمناطق الحرة من انه : « لا يمكن لفرنسا ان تحتج بتشريعها الداخلي لتحد من مدى التزاماتها الدولية»[4].

كما اشارت محكمة العدل الدولية في قرارها الصادر في 18 كانون الاول 1951 بخصوص قضية المصائد بين بريطانيا والنرويج  بان نفاذ تحديد البحر الاقليمي بالنسبة للغير انما يعود للقانون الدولي[5]. كما اشارت في قرارها الصادر في 27 اب 1952 في قضية رعايا الولايات المتحدة الامريكية في المغرب الى مخالفة المراسيم المغربية الصادر سنة 1948 للاتفاقيات السابقة المعقودة بين البلدين[6].

واذا كان ما سبق يشير الى اعلوية القانون الدولي على القانون الداخلي على الصعيد الدولي، فإننا نجد هذا الامر كذلك في القانون الداخلي، اذ تشير الكثير من التشريعات الدستورية الى هذه المسالة وان اختلفت فيما بينها بصورة او بأخرى، فبعض الدساتير اشارت الى تبني مبادئ معينة من مبادئ القانون الدولي[7]. بينما نصت دساتير اخرى الى دمج قواعد القانون الدولي بالقانون الداخلي، بينما لم تكتفي بعض الدساتير الى دمج قواعد القانون الدولي بقواعد القانون الداخلي فحسب بل اشارت فوق ذلك وبشكل صريح الى اعلوية القانون الدولي على القانون الداخلي[8].

المطلب الثاني: موقف الانظمة القانونية الوطنية من انفاذ احكام المعاهدات الدولية

ان كيفية انفاذ المعاهدات الدولية في القوانين الداخلية تختلف من دولة الى اخرى، بحسب الاخذ بمبدأ ازدواجية القانون أو وحدة القانون ومدى سمو القانون الدولي على القانون الداخلي، وبشكل عام، تشترط بعض الدول لإنفاذ المعاهدات الدولية في قانونها التصديق والنشر، بينما لا تكتفي بعض الدولة مجرد التصديق على المعاهدة ونشرها لكي تصبح نافذة في القانون الوطني، بل لابد من اصدارها بشكل قانون داخلي يتضمن احكام المعاهدة، لان ابرام المعاهدة من اختصاص السلطة التنفيذية، ولا يقع ضمن اختصاص هذه السلطة تشريع القوانين استناداً الى مبدأ الفصل بين السلطات، والذي يعد اساساً مهماً في بناء الدولة الديمقراطية. لذلك فان القاضي الوطني يطبق نصوص المعاهدة على انها تشريع داخلي وليس بوصفها معاهدة دولية، فالنصوص القانونية سواءً أكانت تشريعات داخلية او مواد تتضمنها معاهدة دولية لابد ان تكون في اطارها القانوني الرسمي والذي من خلاله يمكن للأفراد والمؤسسات والسلطات بكل انواعها معرفتها والاطلاع عليها وبالتالي الالتزام بها، وفي حال اغفال الدولة هذا الاجراء جاز للقاضي الوطني اغفال المعاهدة من التطبيق، ولا يمكن مساءلة الافراد عن عدم الالتزام بها، وهذا لا ينطبق على مسؤولية الدولة عن الاخلال بالتزاماتها بموجب المعاهدة الدولية[9].

واذا كان هذا الاصل، فان الانظمة القانونية الوطنية تختلف في كيفية تطبيق المعاهدات الدولية امام قضاءها الوطني بحسب طبيعة هذا النظام. وفي ذلك تقسم الدول الى ثلاثة فئات، الفئة الاولى تجعل من المعاهدات الدولية في مرتبة اعلى من التشريعات الوطنية بما فيها التشريعات الدستورية، والفئة الثانية تجعل من المعاهدات في مرتبة اعلى من التشريع العادي ولكنها ادنى من التشريع الدستوري، اما الفئة الثالثة فتجعل من احكام المعاهدات الدولية في مرتبة مساوية للتشريع العادي.

وتعد كل من هولندا وفرنسا من الدول التي تسمو بأحكام المعاهدات الدولية على تشريعاتها الوطنية. فالدستور الهولندي الصادر عام 1814 على سبيل المثال، اشار الى ان تطبيق المعاهدات الدولية امام القضاء الوطني او مؤسسات المملكة تستلزم نشرها لتكون ملزمة[10]. وبشأن القيمة القانونية لأحكام المعاهدات الدولية اشار الدستور الهولندي الى ان أي قواعد قانونية داخلية تكون باطلة متى ما تعارضت مع احكام المعاهدات الدولية[11]. ويشترط النظام القانوني الفرنسي لنفاذ المعاهدة في القانون الداخلي أن يتم التصديق عليها من السلطات المختصة وأن يتم نشرها في الجريدة الرسمية والهدف من إجراء النشر هو إعلام السلطات العامة والافراد داخل الدولة بالمعاهدة حتى تكون حجة كافية، واشتراط التصديق على المعاهدة ثم النشر لنفاذ المعاهدة في القانون الداخلي الفرنسي كان هو النظام المتبع في فرنسا في ظل دستور فرنسا الصادر عام 1946، وقد أخذ بهذا الحل أيضا دستور فرنسا عام 1958 الصادر في عهد الجنرال ديجول، والذي اشار ايضا الى ان احكام المعاهدات الدولية تتمتع بسمو على القوانين الوطنية[12]. فالدستور الفرنسي يجعل من المعاهدة جزءاً من القوانين النافذة داخل الإقليم الفرنسي بمجرد التصديق عليها ونشرها وفقا للأوضاع القانونية الفرنسية، ودون حاجة إلى إجراءات الإصدار، فالنشر  يقوم مقام الإصدار، وقد ذهب الدستور الفرنسي الى ابعد من ذلك، اذ اشار الى ان الالتزامات الدولية متى ما تعارضت مع دستور البلاد فانه يصار الى تعديل الدستور ليتوافق مع الالتزامات الدولية لفرنسا[13].

اما دستور الولايات المتحدة الامريكية لعام 1789، فقد نص في المادة (6) منه على ان : «هذا الدستور، وقوانين الولايات المتحدة التي تصدر تبعًا له، وجميع المعاهدات المعقودة أو التي تعقد تحت سلطة الولايات المتحدة، هو القانون الأعلى للبلاد. ويكون القضاة في جميع الولايات ملزمين به، ولا يعتد بأي نص في دستور أو قوانين أية ولاية يكون مخالفًا لذلك...». وتعد جمهورية المانيا الاتحادية من الدول التي تجعل من احكام المعاهدات الدولية في مرتبة اعلى من التشريعات العادية، فقد اشار الى ذلك دستور المانيا الاتحادي لعام 1949، والذي جعل من الالتزامات الدولية وقواعد القانون الدولي جزءا من القانون الداخلي وفي حال التعارض بينها فان قواعد القانون الدولي هي التي تسمو على غيرها من القواعد.[14]. الا ان غالبية الدول تجعل من قواعد المعاهدات الدولية في مرتبة مساوية لقواعد التشريع العادي والكثير من هذه الدول تستلزم القيام بإجراء معين قبل تنفيذ المعاهدات، وهذا يعني ان المعاهدة الدولية لا تنفذ مباشرةً داخل اقليم الدولة ولا تعد جزءاً من التشريع الداخلي الا بعد القيام بهذا الاجراء. ومن هذه الدول على سبيل المثال الدستور الكويتي الصادر عام 1962 والذي اعطى للمعاهدات الدولية قيمة قانونية مساوية للتشريع العادي[15].

اما دستور جمهورية العراق لعام 2005 فقد سكت عن بيان القيمة القانونية للمعاهدات الدولية تجاه التشريعات الداخلية واكتفى بالإشارة الى ان نفاذ المعاهدات الدولية داخل اقليم الدولة يستلزم اصدار قانون داخلي بذلك[16]. وهذا الاجراء عند سكوت المشرع عن سمو المعاهدات امام القانون العادي يجعلنا نرى ان المشرع العراقي يذهب الى ان المعاهدة الدولية ذات قيمة قانونية مساوية للتشريع العادي وليست اعلى منه. وهكذا فان الدول تختلف فيما بينها في مسالة سمو المعاهدات الدولية على قانونها الداخلي، وفي جميع الاحوال فان المعاهدات الدولية متى ما تضمنت قواعد ذات طبيعة امرة فان الدول تبقى ملتزمة بهذه القواعد سواءً كانت طرفاً في هذه المعاهدة ام لا ولا يجوز لها في أي حال من الاحوال اصدار أي تشريع او عمل تنفيذي مخالف لمثل هذا النوع من القواعد.

المطلب الثالث: تحديد تاريخ بدأ تنفيذ المعاهدات الدولية والية انفاذها في التشريع الداخلي

يمكن ان تقسم المعاهدات الدولية من ناحية تطبيقها امام القاضي الوطني الى معاهدات ذاتية النفاذ ومعاهدات غير ذاتية النفاذ، ويقصد بالأولى امكانية تطبيقها في اقليم الدولة دون حاجة الى القيام باي اجراء، اما المعاهدات غير ذاتية النفاذ فيجب القيام بإجراء معين يتمثل بتشريع قانون داخلي قبل انفاذها داخل الاقليم، وفي جميع الاحوال يجب ان تستوفي المعاهدة الدولية الشروط الشكلية اللازمة لنفاذها والتي تتمثل في التوقيع والمصادقة والنشر. فنفاذ المعاهدة الدولية يعني بأن المعاهدة أصبحت تخلق قواعـد قانونية دولية تنشأ عنها حقوق وواجبات، وبهذا المفهوم يجب أن نفرق بين نفاذ المعاهدة الدولية وبين صحتها، ففي الوقت الذي تكون فيها شروط صحة المعاهدة الدولية محددة بموجب قواعد القانون الدولي ومثبتة على وجه الخصوص في اتفاقية فينا لقانون المعاهدات الدولية العام 1969 فان نفاذ المعاهـدة يرتبط في أغلب الأحوال بإرادة المشاركين في المعاهدة نفسها وهم الذين يحددون نظام ووقت دخول المعاهدة حيز التنفيذ وفترة نفاذها ووسائل ايقافها أو انهائها، وهي الشروط التي تحدد الاطار التوقيتي لنفاذ المعاهدة الدولية ، أي نفاذها من حيث الزمان. وفي هـذا الاطار يتم عادة تطبيق المعاهدة الدولية الذي يفهم منه تحقيق ما تنشؤه المعاهدة من حقوق وواجبات في أوضاع دولية وداخلية محددة. وفي كثير من الحالات تكون ارادة الاطراف المشاركة في المعاهدة الدولية هي العامل الحاسم في تحديد المجال الاقليمي للنفاذ وتطبيق المعاهدة وكذلك نفاذها وتطبيقها من حيث المكان[17].

وهنا يمكن ان نفرق بين تاريخ بدأ المعاهدات الثنائية عن الجماعية. فتاريخ البدء بتنفيذ المعاهدات الثنائية يكون حسب اتفاق الدول، وذلك إما عند تبادل التصديقات، وإما عند إيداع جميع التصديقات، وإما عند التوقيع او بعد مدة معينة يتفق عليها كان تكون شهرين مثلاً بعد التوقيع او التصديق. وتحديد المدة للبدء بالتنفيذ وسيلة حسنة ومتبعة لضمان التنفيذ واتخاذ الإجراءات اللازمة له. وقد تستخدم هذه الوسيلة أحياناً كأداة للضغط على السلطة المختصة بالتصديق للموافقة على المعاهدة في أسرع وقت ممكن. ففرنسا أبرمت مع ليبيا  بعد استقلالها معاهدة تتعلق بجلاء الجيوش الفرنسية عن منطقة فزان، واتـفـقـت الـدولـتـان على أن تـصـبـح الـمـعـاهـدة نافذة عـنـد تـبـادل التصديقات، ولكنهما جددتا موعد تنفيذ الجلاء  وكان ذلك وسيلة ضغط استخدمتها الحكومة الفرنسية لحث البرلمان على التصديق على المعاهدة قبل حلول موعد الجلاء[18].

اما المعاهدات الجماعية فهنا يجب التمييز بين اتجاهين متناقضين. فالاتجاه الاول يركز على الصفة شبه التشريعية للمعاهدة وعلى اخضاع دخول المعاهدة دور النفاذ على قبولها من عدد قليل من الدول مثل اتفاقية جنيف بشان معاملة اسرى الحرب لعام 1949[19]. والاتجاه الثاني وهو السائد في الوقت الحاضر يتضمن في اغلب الحالات اخضاع دخول المعاهدة دور النفاذ على قبولها من عدد كافي من الدول، لان المعاهدة الجماعية العامة التي لا يطبقها عدد كافي من الدول لا يكون لها عادة جدوى حقيقية[20]. ومن الجدير بالذكر ان المعيار الذي يسمح بدخول المعاهدة دور النفاذ ليس فقط معيار الكمية اي عدد الدول، ولكن ايضا معيار النوعية اي اهمية الدول التي قبلت، وخير مثال لذلك ميثاق الامم المتحدة والذي نص في المادة (110/ 3) على ان الميثاق يوضع موضع التنفيذ متى اودعت تصديقاتها الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الامن[21]. اما بخصوص الية انفاذ المعاهدات الدولية في التشريعات الوطنية، فانه يرجع الى القانون الداخلي لكل دولة وبالتحديد الدستور، فهناك بعض الدساتير تنص على اعتبار المعاهدات الدولية في حكم القانون بتمام ابرامها دون حاجة الى تشريع داخلي، ويكون للمعاهدات قيمة قانونية ملزمة في مواجهة الافراد والمحاكم تساوي قيمة التشريع[22] . بينما دساتير بعض الدول تنص على ان يسبق تنفيذ المعاهدات الدولية على المستوى الوطني ضرورة اتخاذ اجراء معين، ومن ذلك ما نص عليه دستور النمسا لعام 1920  والذي اعيد العمل به عام 1945منه اذ نصت المادة (50) على ان: « يتطلب إبرام: 1- المعاهدات الدولية السياسية والمعاهدات الدولية التي تقوم  محتوياتها بتعديل أو استكمال قوانين قائمة والتي تندرج تحت المادة 16 الفقرة 1 ، وكذلك 2- المعاهدات الدولية التي يتم تعديل القواعد التعاقدية للاتحاد الأوروبي بموجبها موافقة المجلس الوطني...».

المبحث الثاني

مدى التعارض بين الالتزامات الدولية والسيادة التشريعية الداخلية

يشير القانون الدولي الى مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول، او بين الاخيرة والمنظمات الدولية او بين المنظمات الدولية  فحسب، ويمتد عمل القانون الدولي على نحو متزايد ليشمل تنظيم العلاقة بين الدولة والافراد، بما في ذلك الالتزامات المفروضة على الدول فيما يتعلق بمعاملة الاشخاص الخاضعين لولايتها او سيطرتها الفعلية. ولكن من الوهلة الاولى قد يظهر ذلك مساساً بسيادة الدولة على الصعيد الداخلي، فالدول تسعى دائما الى تطبيق قوانينها الوطنية في تنظيم العلاقات الداخلية، في الوقت الذي تتبنى قواعد القانون الدولي تحقيق ضمانات ووضع اليات لحماية الافراد وحقوقهم داخل الدول التي ينتمون اليها. فهل يعد التزام الدولة بقواعد القانون الدولي والتزامها بدمج هذه القواعد بتشريعاتها الوطنية تقييداً لسيادتها او انتقاصاً منها؟ ام ان الامر لا ينظر اليه من هذا الجانب بقدر ما ينظر الى طبيعة الحقوق والحريات الواجب حمايتها، وبالتالي لا تعارض بين الالتزامات الدولية والسيادة الداخلية وخاصة التشريعية. سنبحث ذلك من خلال بيان طبيعة الالتزامات الدولية التعاهدية واثر ذلك في سيادة الدولة مع الاشارة الى الية حل التعارض الواقع بين المعاهدات الدولية والتشريع الداخلي وذلك في ثلاث مطالب على الشكل الاتي:

المطلب الاول: طبيعة الالتزامات التعاهدية

اصبحت المعاهدات الدولية وخصوصاً متعددة الاطراف المنبع الرئيسي لقواعد القانون الدولي المنظمة للعلاقات بين الدول وفي مختلف المجالات، الاقتصادية والسياسية ومعاهدات حسن الجوار والمعاهدات المنظمة للملاحة الجوية والبحرية ومعاهدات الاتصالات المختلفة وغيرها. وطبقاً للمادتين (51، 52) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969[23]، يتوقف التزام الدولة بالمعاهدة على رضاها الحر، اذ لا تجبر الدولة على قبول معاهدة ما او الانضمام اليها، ذلك ان المعاهدات الدولية التي تنشأ نتيجة الاكراه  تكون باطلة بطلاناً مطلقاً وغير منتجة لآثارها في مواجهة هذه الدولة، فالقاعدة العامة طبقاً لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات تضمن من الناحية القانونية ان يكون التزام الدولة بالمعاهدة ناتجاً عن رضاها الصحيح او ارادتها الحقيقية، لان الالتزام بمعاهدة ما او عدم الالتزام بها هو قرار سيادي لأية دولة، ومظهر من مظاهر السيادة يستمد مباشرةً من مبدأ المساواة في السيادة بين الدول[24].

الا ان تشابك العلاقات الدولية ونموها المضطرد بين الدول من ناحية، وحاجة المجتمع الدولي في مجموعه الى تنظيم مصالحه العامة وحماية قيمه المشتركة من ناحية ثانية قد اضفت على بعض المعاهدات الدولية او بعض احكامها الطبيعة الملزمة لكافة الدول حتى لو لم توافق عليها او تنضم اليها، وتتمثل هذه المعاهدات في ميثاق الامم المتحدة والمعاهدات التي تتضمن قواعد امرة او مبلورة لقواعد العرف الدولي، ومعاهدات النظام الدولي او المعاهدات الشارعة والمعاهدات الموروثة والتعديلات التي ترد على المعاهدات الدولية[25]. وكانت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 قد تبنت مبداً عرفياً مفاده سمو قواعد المعاهدات الدولية على قواعد التشريعات الداخلية، وذلك حينما تبنت في المادة(27) النص على ان : « لا يجوز لطرف في معاهدة أن يتمسك بقانونه الداخلي كسبب لعدم تنفيذ هذه المعاهدة «. وهذا يعني ان حرية التشريع التي تتمتع بها الدول في الداخل طبقاً لسيادتها ليست مطلقة، وانما مقيدة باحترام قواعد القانون الدولي العام، وهذا القيد يؤسس على قاعدة ثابتة مفادها سمو القانون الدولي على القانون الوطني، هذه القاعدة التي مرت من نطاقها العرفي الى دائرة القواعد المكتوبة والتي جرى تقنينها في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات[26].

المطلب الثاني: عدم التعارض بين الالتزامات الدولية وسيادة الدولة

يعد مبدأ السيادة في القواعد الدولية الحديثة من مجموعة الحقوق والسلطات التي للدولة بوصفها شخصاً قانونياً دولياً ومنها الحق في مطالبة الدول الأخرى لها في العلاقات المتبادلة معها، وهي تمثل ما للدولة من سلطات تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول خارج إقليمها، وهناك ثلاثة اتجاهات لتكييف علاقة السيادة بالدولة: اذ يرى اتجاه ان السيادة احد أركان الدولة، بينما يرى الاتجاه الثاني ان السيادة ترتبط بالدولة كصفة وحق، اما الاتجاه الثالث فينظر إلى السيادة على أنها حق للدولة، وهناك من لا يرى في السيادة عنصر من عناصر تكوين الدولة، فالأخيرة توجد بتوافر ثلاثة عناصر وهي الشعب والإقليم والنظام السياسي، أما السيادة فهي نتيجة توافر عناصر قيام الدولة الثلاث وليست السيادة عنصراً من عناصرها، اما عن مدى هذه السيادة فقد اختلف الفقه حول ذلك، ولكن غالبية الفقه التقليدي يؤمن بالمفهوم المطلق للسيادة، اذ تتمتع بموجبه الدولة بحرية التصرف في شؤونها الداخلية والخارجية، بينما يذهب الفقه الحديث إلى مفهوم تقييد السيادة بوصفها تثير حقوقاً للدول وتفرض التزامات عليها[27].

فالسيادة هنا لا تعني حرية الدولة في ان تفعل ما تريد ووقت ما تريد، لان سيادة الدولة مقيدة بمبدأ المساواة بين الدول، فالسيادة والمساواة  يشكلان عنصران لمبدأ واحد هو مبدأ المساواة في السيادة. وهذا هو المبدأ البديهي الأساسي الذي يقوم عليه النظام القانوني الدولي المعاصر، والمساوة هنا معناها المساواة في الحقوق والواجبات التي تقررها القواعد القانونية الدولية، والمساواة بهذا المعنى ترتب مجموعة من الآثار القانونية الملزمة في العلاقات بين الدول أعضاء الجماعة الدولية ومن ثم على الرغم من ان الدول تعرف بانها كيانات ذات سيادة وانه يستنتج من تعايشها المشترك جنباً إلى جنب انه يجب على كل دولة ان تحترم حقوق السيادة لكل الدول الأخرى وهذا يقتضي ان تلتزم الدول ببعض قواعد القانون الدولي حتى ولو لم تكن قد وافقت عليها. وهكذا بات النظام القانوني الدولي يتضمن مبادئ وقواعد لا يمكن تفسيرها استناداً إلى إرادة الدول وحدها، لان بعض القواعد لم توافق الدول عليها أو تسهم في  نشأتها[28] 

واذا كان من اللازم ان تكون السيادة تامة، ويعني هذا عدم خضوع الدولة في شؤونها الداخلية والخارجية لسيادة دولة أخرى ورقابتها، وانها مستقلة على الصعيدين الدولي والداخلي، إلا أنها في الوقت الذي لا يحد من سلطتها قيد، يمكن ان تخضع لقواعد القانون الدولي، وهذا هو الوضع الطبيعي الذي يجب ان تكون عليه الدولة أصلاً بحكم وجودها القانوني، وهو المركز الفعلي لمعظم الأعضاء في الأمم المتحدة[29]. لذلك، فان السيادة التامة لا تعني أنها مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية بل أنها تخضع دائما للقانون الدولي العام وما يفرضه من قيود على حريتها في التصرف[30]. لذا فان الدولة في العصر الحالي ليس لها حرية مطلقة في قبول او عدم قبول القاعدة القانونية، لان سيادة الدولة صارت سيادة مقيدة وليست مطلقة، فأغلبية الفقه الدولي يسلم بان مبدأ سيادة الدولة، يجب ان يفهم في حدود القانون الدولي القائم، وان الدولة في المجتمع الدولي المعاصر يجب ان تلتزم بأحكام هذا القانون، اذ أصبحت هناك محاولات يتدخل فيها القانون الدولي، وتطبيق بعضاً من قواعده على هذه المجالات داخل الدولة، كما ان مصالح الدول قد تشابكت تشابكاً معقداً وتداخلت مع مصلحة المجتمع الدولي فبات من الصعوبة بمكان ان نجد مسالة واحدة في صميم السلطان الداخلي للدولة لا تمس العلاقات الدولية، ولا تحظى باهتمام القانون الدولي[31].

وهذا ما دفع البعض إلى القول بان فكرة السيادة في طريقها إلى الزوال تحت تأثير المتغيرات الجديدة لتحل محلها فكرة المصلحة العامة، والدعوة إلى وجوب إخضاع مصلحة الدولة الخاصة للمصلحة العامة للمجتمع الدولي، وبالتالي فان النظام القانوني الوطني لكل دولة يستمد شرعيته من نظام اعلى هو النظام الدولي، وان ما جرى الاصطلاح على تسميته بمظاهر سيادة الدولة عبارة عن اختصاصات تمارسها الدولة بالتطبيق لقواعد القانون الدولي[32].

ومن المعلوم، ان التزام الدولة بقواعد القانون الدولي، وان انفاذ المعاهدات الدولية في التشريعات الداخلية للدول، لا يقدح في سيادة هذه الدول، فالتزام الدولة بقواعد القانون الدولي ليست غايته المساس بسيادة الدولة بل على العكس اكدت الكثير من المعاهدات الدولية والاحكام القضائية الدولية على احترام سيادة الدولة وحريتها في القيام بما تشاء من اعمال على المستوى الداخلي والدولي، على ان لا تخرج من اطار الجماعة الدولية كونها احد اعضاءها، وبالتالي يجب عليها التقيد بالأحكام والقواعد العامة التي تمثل الاطار العام الذي تعمل جميع الدول في كنفه، وهذا اشبه بخضوع الافراد في جميع تصرفاتهم للتشريعات الوطنية، والتي وجدت اصلا لتنظيم شؤونهم وضمان احترام حرياتهم وكفالة تحقيق حقوقهم من المساس بها، ولا يعني التزامهم بهذه القواعد اي مساس بمركزهم القانوني. فعلى الرغم من ان الدولة ذات السيادة هي سيدة نفسها، فإنها ليست حرة في القيام بكل التصرفات مهما كان نوعها والنتائج المترتبة عليها، فتمسك الدولة بسيادتها ومطالبتها باحترامها مشروط بخضوعها لقواعد القانون الدولي، وعلى ذلك، ان النظام القانوني الوطني يستمد شرعيته من نظام اعلى وهو النظام الدولي، فتقييد حق الدولة في السيادة لا يعني وضع القيود على هذا الحق ذاته، وانما وضع القيود على كيفية ممارسة الدولة لهذا الحق، ضماناً لعدم المساس بحقوق الدول الاخرى، اذ لا يتصور تمتع الدولة بسيادتها في المجتمع الدولي مالم توجد قواعد دولية ملزمة ترسم حدود هذه السيادة، وتكفل التعايش السلمي بين كل ما يحتويه المجتمع الدولي من سيادات[33].

المطلب الثالث: التعارض بين المعاهدات الدولية والتشريع الداخلي

اذا كان عدم جواز تمسك الدولة بقانونها الداخلي كذريعة للتحلل من التزام دولي يمثل مبدأً قانونياً دولياً، فان هذا المبدأ اكدته العديد من الاحكام القضائية الدولية، والتي اشارت الى سمو قواعد القانون الدولي على القانون الداخلي في حال التعارض بينها.  فعلى سبيل المثال:  بينت محكمة العدل الدولية الدائمة في قرارها المتعلق بقضية السفينة ويمبلدون الصادر في 17/ 8/ 1923 على ان :» أن ألمانيا يجب أن تدفع التعويض المناسب والا تستند لقوانينها الداخلية للحد من نطاق الالتزامات الدولية» . وفي  قضية النزاع الإقليمي بين ليبيا وتشاد عام 1994 بينت محكمة العدل الدولية في هذا الصدد أن « الحدود السياسية التي تنشأ بموجب معاهدة تكتسب استمرارية قد لا تتمتع بها بالضرورة المعاهدة في حد ذاتها مما يجعل لها الغلبة على أي قانون داخلي». ولغرض تجنب التنازع بين الالتزامات بموجب المعاهدات الدولية والقواعد القانونية الداخلية للدولة تلجأ الدول عادة الى اتخاذ اجراءات تشريعية لتنظيم  قوانينها بما يتناسب مع المعاهدات الدولية، سواء قبل او مباشرةً بعد دخول المعاهدة حيز التنفيذ[34].

ومع ذلك فان مسالة التعارض بين المعاهدة الدولية والتشريع الداخلي امر وارد فعلاً، وهو قد يأخذ احد صورتين، فقد يكون التعارض بين القانون السابق والمعاهدة اللاحقة، وقد يكون العكس. فاذا كان التعارض بين القانون السابق والمعاهدة اللاحقة ظاهرياً فقط يمكن فض هذا التعارض من خلال التوفيق بين النصوص المتعارضة ظاهرياً على اساس تطبيق مبادئ التعارض بين العام والخاص في القواعد القانونية، فاذا كان القانون السابق يتضمن احكاماً خاصة وتتضمن المعاهدة احكاماً عامة فان هذا يعني استمرار سريان القانون السابق الخاص وتطبيق احكام المعاهدة اللاحقة فيما تجاوز النطاق الخاص للقانون السابق، اما اذا وقع نعارض حقيقي وتام بين القانون السابق والمعاهدة اللاحقة فالقواعد العامة للالغاء في القانون الداخلي تشير الى تطبيق المعاهدة اللاحقة والغاء القانون السابق، واذا كان هذا الامر ينطبق بين القوانين الوطنية المتعارضة فانه يصعب التسليم به في مجال التعارض بين المعاهدات الدولية والقانون الداخلي، لان تطبيق القانون اللاحق يشير الى استبعاد القانون السابق وزواله من الوجود، بيد ان الذي يصار اليه هو استبعاد تطبيق القانون السابق من مجال تطبيق المعاهدة الدولية او وقف تطبيقه او اعتباره غير صالح للتطبيق في هذا المجال، ويفسر ذلك الى ان المعاهدات الدولية نسبية ومؤقتة من حيث المبدأ بينما القوانين الداخلية مطلقة ودائمة[35].

اما اذا كان القانون الداخلي لاحقاً على المعاهدة الدولية فان القاضي في هذه الحالة يميز بين امرين، الاول حالة سكوت القانون الداخلي اللاحق من حيث موقفه من المعاهدة، وحالة ثبوت نية المشرع بوضوح مخالفة بنود المعاهدة السابقة، وفي الحالة الاولى يفترض القاضي الوطني ان المشرع لم يقصد مخالفة المعاهدة السابقة، بل اراد ضمناً الاحتفاظ بها وتطبيقها الى جانب تطبيق احكام التشريع اللاحق، ومن ثم يسعى القاضي الى التوفيق بين المعاهدة والتشريع اللاحق، ويحقق ذلك على اساس ان كل تشريع يتنازع مع معاهدة سابقة انما يترك مجالاً لإعمالها، اما في حالة وجود نية واضحة وصريحة للمشرع في مخالفة احكام المعاهدة السابقة، فيتعذر هنا على القاضي الوطني التوفيق بين القانون الوطني والمعاهدة الدولية، وبالتالي،  يضطر القاضي الوطني تطبيق احكام قانونه الداخلي واستبعاد المعاهدة الدولية من التطبيق، وان كان ذلك يمكن ان يحمل الدولة مسؤولية دولية لإخلالها بالتزاماتها الدولية[36].

الخاتمة

من خلال دراستنا لموضوع انفاذ المعاهدات الدولية في النظام القانوني الوطني واثره على سيادة الدولة، يمكن ايراد بعض النتائج ونخرج ببعض التوصيات نوضحها فيما يلي:

النتائج

يختلف التعارض بين التشريعات الوطنية فيما بينها عن التعارض بين قواعد المعاهدات الدولية والقواعد الوطنية، اذ ان القاضي الوطني يتولى في الحالة الاولى تطبيق القانون اللاحق على القانون السابق بشكل مباشر، بينما في الحالة الثانية يسعى ابتداءً الى التوفيق بقدر المستطاع بين القانونين ومحاولة الاخذ بكليهما معاً والا فيصار الى تطبيق القانون اللاحق في جميع الاحوال، وان ترتب على ذلك مخالفة المعاهدة الدولية.

تختلف الدول في تحديد القيمة القانونية لقواعد المعاهدات الدولية امام قواعدها الوطنية، وهي بذلك تذهب الى اتجاهات عدة: فبينما تذهب بعضها الى المساواة بين المعاهدة والتشريع الوطني، تذهب دول اخرى الى سمو الاولى على التشريعات الوطنية، وفي هذه الحالة هناك اختلاف اخر بين ما كانت المعاهدات الدولية اسمى من دستور الدولة ام اقل منه، ومرجع ذلك كله الوثيقة الدستورية التي تحدد هذه القيمة.

يختلف نفاذ المعاهدات في التشريعات الوطنية بحسب طبيعة النظام القانوني لكل دولة، فهناك دول تسري فيها  المعاهدات بمجرد اكمال مراحل ابرامها، بينما تشترط دول اخرى اضافة الى اكمال شروطها الشكلية والموضوعية ضرورة اصدار قانون وطني ينشر في الجريدة الرسمية.

 على الرغم من ان الدول تعرف بانها كيانات ذات سيادة وانه يستنتج من تعايشها المشترك جنباً إلى جنب انه يجب على كل دولة ان تحترم حقوق السيادة لكل الدول الأخرى وهذا يقتضي ان تلتزم الدول ببعض قواعد القانون الدولي حتى ولو لم تكن قد وافقت عليها. وهكذا بات النظام القانوني الدولي يتضمن مبادئ وقواعد لا يمكن تفسيرها استناداً إلى إرادة الدول وحدها.

التوصيات

ضرورة تبني التشريعات الدستورية النص على مسالة سمو المعاهدات الدولية على التشريع الوطني، لأهمية ذلك في الابتعاد عن الاجتهادات القضائية في حال خلو القانون الوطني من مسالة ما، وتجنب النظام القانوني الوطني تبعة مسؤولية مخالفة بنود المعاهدة على الصعيد الدولي.

وجوب اشراك السلطة التشريعية في المصادقة على المعاهدات الدولية واقرارها بقانون وطني ونشره في الجريدة الرسمية ليتحقق به النشر والعلم بمضمون واحكام هذه المعاهدة بوصفها قانوناً واجب التطبيق، كون القاضي الوطني لازال في الوقت الحاضر يميل الى تطبيق قانونه الوطني على أي قواعد اخرى اجنبية او دولية.

يقع على الدول واجب موائمة تشريعاتها الوطنية قدر المستطاع مع قواعد القانون الدولي منعاً للتعارض، وضرورة ممارسة الدول حقها في التحفظ على بعض القواعد التعاهدية التي لا تلائم طبيعة ومصالح الدولة، وبالتالي تتجنب الدولة مسائلتها على الصعيد الدولي، وتجنيب القاضي الوطني مسالة البحث في حل التعارض بين المعاهدة الدولية والتشريع الوطني.

 

[1] حسينة شرون، علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي، مجلة الباحث، جامعة محمد خيضر بسكرة، ع(5)، 2007، ص 159.

[2] د. محمد المجذوب، القانون الدولي العام، ط6، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2007، ص 61.

[3] د. عصام العطية، القانون الدولي العام، المكتبة القانونية، بغداد، ط2، 2012، ص 44.

[4]C.P.J.I.serie A.B.N.46.P.167.

[5] موجز الاحكام والفتاوى والاوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية 1948-1991، ص27.

[6]I.C.J.Rep.1952. Rights of Nationals of the United States of America in Morocco (France vUnited States of America).p.8.

[7] المادة (21) من دستور جمهورية العراق لعام 2005.

[8] المادة (25) من دستور المانيا الاتحادية الصادر في 8 ايار 1949.

[9] جلول شيتور، تطبيق وتفسير المعاهدات الدولية في القضاء الوطني، مجلة البحوث والدراسات،ع(14)،2012، ص134.

[10] نصت المادة (93) من دستور هولندا على: « إن أحكام المعاهدات وقرارات المؤسسات الدولية التي قد تكون ملزمة لجميع الأشخاص بموجب محتوياتها لا يجوز لها أن تصبح ملزمة إلا بعد أن يتم نشرها» .

[11] نصت المادة (94) من دستور هولندا على: « إن القواعد والأنظمة واللوائح القانونية السارية في داخل المملكة، لا يجوز أن تصبح قابلة للتطبيق إذا كان ذلك التطبيق يتعارض مع أحكام المعاهدات الملزمة لجميع الأشخاص...» .

[12] نصت المادة (55) من دستور فرنسا لعام 1958 على أن: «المعاهدات والاتفاقيات الموافق والمصدق عليها قانوناً لها منذ النشر قوة أسمى من القوانين الوطنية بشرط أن يطبقها الطرف الآخر».

[13] نصت المادة (54) من الدستور على ان : « إذا رأى المجلس الدستوري بناء على إشعار من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس أحد مجلسي البرلمان أو ستين عضواً في الجمعية الوطنية أو ستين عضواً في مجلس الشيوخ أن التزاما دولياً ما يتضمن بنداً مخالفاً للدستور فإنه لا يتم التفويض بالتصديق على هذا الالتزام الدولي أو الموافقة عليه إلا بعد تعديل الدستور».

[14] نصت المادة (25) من دستور المانيا الاتحادي لعام 1949 على ان : « تعد القواعد المعترف بها عموما في القانون الدولي جزءًا لا يتجزأ من القانون الاتحادي. و ُتقدم هذه الأحكام على القوانين الاتحادية، ويترتب عليها مباشرة الحقوق والواجبات بالنسبة لسكان الإقليم الاتحادي» .

[15] نصت المادة (70) من الدستور الكويتي على ان : «... وتكون للمعاهدة قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية...».

[16] نصت المادة (61/4) من الدستور والتي وردت في الفصل الاول المتعلق بالسلطة التشريعية على ان : « تنظم عملية المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب» .

[17] أ. ن. طلالايف، قانون المعاهدات الدولية، الكتاب الثاني، مطبعة العاني، بغداد، 1987، ص29.

[18] د. محمد المجذوب، مصدر سابق، ص648.

[19] نصت المادة (138) من الاتفاقية على ان « يبدأ نفاذ هذه الاتفاقية بعد ستة شهور من تاريخ ايداع صكين للتصديق، وبعد ذلك يبدأ نفاذها ازاء اي طرف سام متعاقد بعد ستة شهور من تاريخ ايداع صك تصديقها».

[20] ان تحديد العدد الكافي للدول لدخول المعاهدة حيز النفاذ يختلف من معاهدة الى اخرى، فقد جعلت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات دخولها حيز النفاذ بعد ايداع الوثيقة الخامسة والثلاثين للتصديق او الانضمام وفق ما نصت عليه المادة    (84)، في حين جعلت اتفاقية قانون البحار لعام 1982 دخولها النفاذ وفق مادتها (308) ىعد ايداع الوثيقة الستين من وثائق التصديق او الانضمام.

[21] د. عصام العطية، مصدر سابق، ص 83.

[22] المصدر السابق، ص 84.

[23] نصت المادة (51) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات على ان : « ليس لتعبير الدولة عن رضاها الالتزام بمعاهدة والذي تم التوصل إليه بإكراه ممثلها عن طريق أعمال أو تهديدات موجهة ضده أي أثر قانوني.». بينما نصت المادة (52) من الاتفاقية ذاتها على ان: « تكون المعاهدة باطلة إذا تم التوصل إلى عقدها بطريق التهديد أو استخدام القوة بصورة مخالفة لمبادئ القانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة» .

[24] د. محمد عبدالرحمن الدسوقي، مدى التزام الدولة بغير ارادتها في القانون الدولي العام، ط1، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2012، ص 30،34.

[25] د. محمد عبد الرحمن الدسوقي، مصدر سابق، ص 27.

[26] د. علي ابراهيم، الوسيط في المعاهدات الدولية، ط1، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص866.

[27] د. معتز فيصل العباسي، التزامات الدولة المحتلة اتجاه البلد المحتل، منشورات الحلبي الحقوقية، ط1، بيروت، 2009، ص128.

[28] د. محمد عبدالرحمن الدسوقي، مصدر سابق، ص20.

[29] د. محمد المجذوب، مصدر سابق، ص 187.

[30] د. عصام العطية، مصدر سابق، ص225.

[31] د. محمد عبد الرحمن الدسوقي، مصدر سابق، ص 14.

[32] المصدر السابق، ص16.

[33] د، محمد عبد الرحمن الدسوقي، مصدر سابق، ص 16.

[34] أ. ن. طلالايف، مصدر سابق، ص26.

[35] د. علي عبدالقادر القهوجي، المعاهدات الدولية امام القاضي الجنائي، الدار الجامعية، بيروت، بدون سنة نشر، ص66 وما بعدها.

[36] د. عصام العطية، مصدر سابق، ص 87.