تاريخ التقديم 4/7/2023 تاريخ القبول 12/9/2023
حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية
حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف
حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)
CC BY-NC-ND 4.0 DEED
Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University
Intellectual property rights are reserved to the author
Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)
Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International
For more information, please review the rights and license
توظيف الذكاء الاصطناعي
في عملية صنع القرار السياسي الخارجي
Employing Artificial Intelligence
in the Foreign Political Decision-Making
م.د علي غسان سامي
رئاسة الجامعة العراقية/قسم التسجيل وشؤون الطلبة
PhD. Ali Ghassan Sami
Presidency Iraqia University/ Dept. of Registration & Students Affairs
alighassam55@gmail.com
المستخلص
ساهمت هذه الدراسة إلى تحديد ماهية الذكاء الإصطناعي ونشأته وأهم أنواعه وأبعاده، وبيان مفهوم صنع القرار السياسي الخارجي ومراحله، فضلاً عن معالجة دور تقنيات الذكاء واثرها على مدى فاعلية صنع القرار السياسي الخارجي، إذ تبين في ان تطبيقات الذكاء الإصطناعي تساعد في بناء نماذج محاكاة لإتخاذ القرارات في السياسة الخارجية، فقدرات الذكاء الإصطناعي قادرة على معالجة كم هائل من البيانات المخزنة عن العلاقات الدولية، والرأي العام، فضلاً عن مواقف وتحالفات الدول لتحضير حزمة من الخيارات والبدائل الداعمة في عملية صنع القرار السياسي الخارجي، إذ ستكون تلك البدائل قادرة على التعامل مع الازمات الناشئة والمواقف الدولية الطارئة، ومن المعلوم ان عملية صنع القرار آخذت تتسع نطاقاتها وتتشعب في كافة المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، العسكرية وغيرها، وتؤثر فيها بشكلٍ كبير تقنيات الذكاء الاصطناعي، لتجعلها أكثر فاعلية سواء كان ذلك في أوقات السلم أو الحرب.
الكلمات المفتاحية: الذكاء الاصطناعي، المحاكاة ، السياسة الخارجية ، صنع القرار
Abstract
This study has contributed to determining what AI is, its genesis, its most important types and dimensions and outline the concept and phases of external political decision-making, as well as addressing the role and impact of intelligence techniques on the effectiveness of external political decision-making As AI applications have been shown to help build simulated models for foreign policy decision-making, AI capabilities are able to process an enormous amount of data stored on international relations and public opinion, as well as positions and alliances of States to prepare a package of options and alternatives in support of external political decision-making Those alternatives will be able to deal with emerging crises and international emerging situations, It is well known that the decision-making process is expanding in all economic areas. Social, political, military, etc., in which AI technologies are heavily influenced to make it more effective in times of peace or war.
key words: Artificial Intelligence, Simulation, Foreign Policy, Decision Making
المقدمة
شهدت السنوات الماضية وجود تطورات واسعة النطاق في مختلف الانشطة والمجالات الحياتية، أهمها التطورات التكنولوجية المختلفة التي أحدثت نقلة نوعية في شتى مجالات الحياة منها السياسية، الاقتصادية، العسكرية، التعليمية، والثقافية وما إلى ذلك من مجالات عُرفت بعصر المعلوماتية، لما أدت به هذه التطورات المتلاحقة من نقلة نوعية في أي من قطاعات وهيئات الدول على اختلافها، من جانب آخر، فإن تلك التطورات أظهرت جدواها في تحسين مستويات الأعمال المختلفة في كثير من المجالات، إلى أن أسفرت تلك التطورات في بروز ما يُعرف بــ (الذكاء الإصطناعي) والذي هو عبارة عن استحداث الطرق التكنولوجية المرتبطة مع الكمبيوتر لتصميم آلالات تحاكي عقل الإنسان في مجالات الرد والمنطق والتنبؤ ووضع الحلول والحصول على المعلومات من مصادرها المتاحة، وتكوين قاعدة علمية ومعرفية تمكن صُناع القرار من صناعة وإتخاذ قراراتهم المختلفة.
أولاً: أهمية الدراسة:-
تكمن أهمية الدراسة في التعرف على تقنيات الذكاء الإصطناعي ومالها من تأثير في عالم السياسة، لا سيما في مجال صنع القرار السياسي الخارجي وأنعكاسات ذلك على التفاعلات ومعادلة التوازنات الحاصلة في النظام الدولي.
ثانياُ: أشكالية الدراسة:-
تتمثل أشكالية الدراسة في السؤال الرئيس الآتي: (ما مدى تأثير تقنيات الذكاء الإصطناعي في عملية صنع القرار السياسي الخارجي؟) ويتفرع من هذه الاشكالية التساؤلات الفرعية الاتية:
ما الرؤية العامة في تحديد ماهية الذكاء الاصطناعي وعملية صنع القرار السياسي الخارجي؟.
ما دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطور عملية صنع القرار السياسي الخارجي؟.
ثالثاً: فرضية الدراسة:-
أرتكزت هذه الدراسة على أفتراض مفادهُ: ( إذا كان للذكاء الإصطناعي علاقة أرتباطية في المجالات الحياتية كافة، فلابد له من تأثير مباشر على السياسات الخارجية للدول لا سيما في مجال صنع القرار السياسي الخارجي).
رابعاً: مناهج الدراسة:-
تم توظيف المنهج التحليلي في تحليل درجة تأثير الذكاء الإصطناعي في عملية صنع القرار السياسي الخارجي للدول وما له من تأثير مباشر في معادلة التوازنات والتراتبية الحاصلة في النظام الدولي.
خامساً: هيكلية الدراسة:-
تنقسم الدراسة التي حملت عنوان توظيف الذكاء الاصطناعي في عملية صنع القرار السياسي الخارجي إلى مبحثين: يعالج الاول منها في تحديد الرؤية العامة لماهية الذكاء الاصطناعي وعملية صنع القرار السياسي الخارجي، في حين يذهب الثاني إلى معالجة دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطور عملية صنع القرار السياسي الخارجي.
المبحث الاول
الرؤية العامة في تحديد ماهية الذكاء الاصطناعي
وعملية صنع القرار السياسي الخارجي
من المعلوم ان عملية صنع القرار آخذت تتسع نطاقاتها وتتشعب في كافة المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، العسكرية وغيرها، وتؤثر فيها بشكلٍ كبير تقنيات الذكاء الاصطناعي، سواء على مستوى العلاقات بين الدول وتوازناتها ومجمل تفاعلاتها ذات الصلة ببيئتها الاستراتيجية، أو على مستوى صنع القرار داخل الدول في المجتمع الدولي، ومن هذا المنطلق لابد من بيان الرؤية العامة في تحديد ماهية الذكاء الإصطناعي وعملية صنع القرار السياسي الخارجي (محور الدراسة)، وذلك من خلال تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، يعالج الاول منها مفهوم الذكاء الإصطناعي ونشأته وأهم أنواعه وأبعاده، في حين يذهب الثاني في التطرق إلى مفهوم ومراحل صنع القرار.
المطلب الاول: مفهوم الذكاء الإصطناعي ونشأته وأهم أنواعه وأبعاده
أولاً: مفهوم الذكاء الاصطناعي:-
التحديد اللغوي: تعود مفردة ذكاء إلى كونها (أسم)، ذكي: مصدر ذكى، في حين ذكى (فعل)، ذكى، يذكي: مصدر ذكاء، فيقال ذكا الولد: بمعنى كان ذكي الفهم، متوقد البصيرة، ويقال ذكى عقله: أشتدت فطنته، ويقال ذكا الشخص أي بمعنى كان سريع الفهم، متوقد البديهة. أما مفردة أصطناعي فهو أسم منسوب إلى أصطناع ما كان مصنوعاً، غير طبيعي؛ لذا الذكاء الاصطناعي هو قدرة آلة أو جهاز ما على أداء بعض الانشطة التي تحتاج إلى ذكاء مثل الاستدلال الفعلي والاصلاح الذاتي[1].
التحديد الاصطلاحي: يعتبر العالم الامريكي جون ماكارثي John McCarthy هو الذي صك مصطلح الذكاء الاصطناعي في عام 1956، وقد عرفهُ بأنهُ: علم وهندسة صناعة الالات الذكية، أي اتمتة الانشطة التي تربط الذكاء البشري بالفعل، بحيث تقدم تلك الانظمة لمستخدميها خدمات مختلفة من التعليم والارشاد والتفاعل وصناعة القرار وما الى ذلك، بعبارةٍ اخرى، قدرة الآلة على ادراك بيئتها والاستجابة لها بشكل مستقل واداء المهام التي تتطلب عادة الذكاء البشري وعمليات صنع القرار ولكن دون تدخل بشري[2]، وقد عُرف الذكاء الإصطناعي ايضاً: بأنهُ نظرية تطوير انظمة الكمبيوتر القادرة على اداء مهام التي تتطلب الذكاء البشري، مثل الادراك البصري والتعرف على الكلام وصنع واتخاذ القرار، ناهيك عن الترجمة إلى لغات مختلفة[3].
لذا يمكن تحديد مصطلح الذكاء الإصطناعي عبر مجموعة من الامور وهي: القدرة على الاستنتاج، القدرة على أكتساب معرفة جديدة وتطبيقها، ناهيك عن القدرة على إدراك ومعالجة الإشياء التي تحيط بنا، فضلاً عن القدرة على إتخاذ القرارات بناءًعلى تحليل بيانات سابقة[4].
التحديد الاجرائي: بأنهُ طريقـة لصـنع الحاسـوب، أو روبوت يتم التحكم فيه بواسطة الكمبيوتر، أو برنامج يفكر بذكاء، بالطريقة نفسها التي يفكر بها البشر الاذكياء[5].
ثانياً: نشأة الذكاء الإصطناعي وأهم أنواعه وأبعاده:-
عند الحديث عن نشأة الذكاء الإصطناعي فإننا نعود بالزمن إلى فترات بعيدة، فلا يرتبط الذكاء الإصطناعي مع ظهوره الاول وبشكله النهائي، بل يرتبط بشكل وثيق مع العلوم والمعارف والمساعي التي أدت لظهوره، فيعود محصلة الذكاء الإصطناعي إلى نتاج ألفي سنة من النظريات الفلسفية والعلوم الانسانية والنظريات المعرفية ووضع الاسس التعليمية، بالإضافة إلى 400 سنة من علوم الرياضيات والمنطق والاحتمالات، والتي أدت بالمحصلة في الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات، إذ تم تطويرها وتصميمها لتحاكي عقل الإنسان، حتى بدأت تتكشف مساعي الوصول للذكاء الإصطناعي بشكله النهائي[6].
أما مراحل الوصول إلى الذكاء الإصطناعي بمفهومه الذهني، فيعود إلى عام 1956 عندما تم عقد المؤتمر العلمي بجامعة دارت موث في الولايات المتحدة الامريكية، وقد تم الكشف عن مصطلح الذكاء الإصطناعي في هذا المؤتمر من قبل العالم جون ماكارثي، وتم إطلاق هذا المسمى على أجهزة الحاسوب الالي ذات القدرات الهائلة والتي تضاهي عقل الإنسان في التفكير ومعالجة المعلومات[7].
وقد أخذت الدراسات والتجارب التقنية تظهر للعلن وبشكل سريع للوصول إلى أفضل نظام يمكن له أن يحاكي العقل البشري ضمن إطار الذكاء الإصطناعي، إذ في عام 1973 اخذ يُعنى بالتعرف على الكلام ومعالجته، أي أنه يُعنى بأستقبال إشارات الكلام والرد عليها بما يتناسب مع محور الكلام محل النقاش بين الانسان والآله، وأما في عام 1980 تم الوصول إلى نظام الذكاء الإصطناعي الذي يمكن المستخدم من التفاعل مع الآلة التي بدورها تحمل قاعدة بيانات متكاملة يمكن من خلالها استقبال الأوامر وتخزينها، واسترجاع المعلومات والكشف عنها للمستخدم ضمن إطار ما خُزن بالجهاز الحاسوبي من معلومات، وفي تسعينيات القرن الماضي، تم تحديث نظم الذكاء الإصطناعي المتكاملة ضمن بيئة المعلومات الشاملة التي تقوم على ربط الآلة بقواعد البيانات والشبكات العالمية، والتي تمكن المرء من التعامل مع الآلة كما يتعامل الإنسان مع إنسان آخر في طرح الأسئلة والحصول على المعلومات التي يرغب بها الإنسان بشكل أكثر دقة ووضوح وأكثر غنى في المعلومات المتاحة[8].
وفي عام 2016 تم عقد مؤتمر في البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية، حول مستقبل الذكاء الإصطناعي وأخلاقياتها وضرورة تطوير هذا الحدث الذي عُني بتيسير مجالات وأعمال الافراد والجماعات وكذلك الدول على حدٍ سواء وهو ما لقى ترحيباً واسعاً من دول العالم أجمع، إذ ذهب في سبيل تطوير نظم الذكاء الإصطناعي بشكل أكثر دقة ومنفعة للمنظمات العالمية على وجه الخصوص وبما يتفق مع أهداف ومطالب الحكومات في العديد من المجالات أهمها مجالات العلاقات الدولية[9].
ومن الجدير بالذكر أن كل من مراحل تطور الذكاء الإصطناعي قد كشفت عن نوع معين من الذكاء الإصطناعي الذي حسن من نوعية التواصل والاتصال وتنفيذ الأعمال والمشاريع وتيسير سبل الحياة في شتى المجالات، ناهيك عن تقليص الفجوة بين الذكاء البشري والذكاء الإصطناعي[10]، ومع ذلك فإن كثير من التطبيقات التي مرت بها مراحل تطوير الذكاء الإصطناعي لا زالت تستخدم بين الحين والآخر في كثير من دول العالم، وعليه فإن من أبرز أنواع الذكاء الإصطناعي هي كل مما يلي[11]:-
أولأ : الذكاء الإصطناعي الضيق: إذ يُشير إلى مجالات محددة، إذ يعمل هذا النوع في مجال واحد دون غيره، وخير مثال على هذا النوع هو شاشات الدردشة التقليدية، أو مواقع التواصل الاجتماعي التي تختص فقط في التواصل المجتمعي بين الناس، وما يرتبط بها من تقنيات صوتية وفيديوهات عرض، وإمكانية الحصول على الصور أو تحميله.
ثانياً: الذكاء العام المصطنع أو القوي: يعبر هذا النوع التقني عن الجيل الثاني من الذكاء الإصطناعي، والذي طور برامج الذكاء الإصطناعي ليحاكي العقل البشري في تنفيذ الأعمال عوضاً عن البشر، ولعل أمثلة ذلك كثيرة أهمها تطبيق السيارات الذكية (ذاتية القيادة)، وأنظمة الانتظار التلقائي، ونظم الصراف الآلي وخلاف ذلك من أنظمة حلت محل الإنسان في تلبية حاجات المستخدمين.
ثالثاً: الذكاء الإصطناعي الفائق: يُعد الذكاء الإصطناعي الفائق الجيل الثالث من الذكاء الإصطناعي الذي يتفوق على الإنسان في معالجة البيانات والحصول على المعلومات وأمكانية التنبؤ بالظروف المستقبلية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والمناخي، وهو الذي يستخدم عادةً في تنمية وتطوير العلاقات بين الدول، ووضع المعلومات الحقيقية أمام صانع القرار ليعرف الكيفية التي من خلالها يمكن الوصول إلى الدول والكيفية التي يتم بناء من طريقها العلاقات البينية، وكيفية إجراء المعاملات بين دولة ودولة أخرى، وان ما يميز هذا النوع من الذكاء الإصطناعي انه حل محل الانسان في تلقي المعلومات ومعالجتها والرد عليها وفق ما خُزن في قاعدة بياناته مع وضع سيناريوهات مستقبلية التي يمكن ان تكون جسور الالتقاء والتعامل في العلاقات الدولية.
وهناك تصنيف آخر اعتمده آرند هارتز وهو أستاذ مساعد في علم الاحياء التكاملي وهندسة الكمبيوتر في جامعة ولاية مشيغان إذ صنف الذكاء الاصطناعي إلى أربعة أنواع، أولها تطبيقات رد الفعل مثل برنامج الشطرنج الذي يحلل الحركات المحتملة ويختار الخطوة الاكثر استراتيجية، أما النوع الثاني وهو الذاكرة المحدودة والتي تستخدم في توجيه القرارات المستقبلية أعتماداً على الخبرات السابقة مثال ذلك السيارات ذاتية القيادة، في حين النوع الثالث يسمى بنظرية العقل والتي تعني قدرة الخوارزمية على فهم ومعرفة الاخرين ومعتقداتهم وتوجهاتهم ونواياهم التي تؤثر في القرارات التي يتخذونها وهذا النوع من الذكاء الإصطناعي غير موجود بعد، اما النوع الآخير وهو الوعي الذاتي والذي يُقصد به القدرة على الشعور والوعي بالذات إذ تستطيع الخوارزميات توظيف المعلومات المتاحة لإستنتاج ما يشعر به الاخرون هذا النوع من الذكاء الإصطناعي غير موجود بعد، ومن الجدير بالذكر ان النوعين الثالث والرابع يعتمدان في ظهورهما على مدى تحديث قدرات التعلم الذاتي بحيث تستطيع الآلة ان تتعلم بنفسها وتصحح أخطائها دون الحاجة إلى تدخل بشري[12].
وأما فيما يتعلق بأبعاد الذكاء الإصطناعي فهي تشمل الآتي[13]:-
أولاً: النظم الخبيرة: وهي تمثيل حي للخبرات الإنسانية، حيث أن النظم الخبيرة يتم رفدها بمنظومة متكاملة من المعلومات والمعارف والخبرات، ويتم ربطها مع كم هائل من الأسئلة والموضوعات المرتبطة بموضوع معين، وتتكرر هذه التجربة في كثير من المجالات والأنشطة، حتى تتمكن الآلة من إمكانية التعرف على ماهية الأسئلة المطروحة عليها، أو المواضيع محل النقاش في مواجهة النظم الذكية، لتقوم الآلة بنقاش الإنسان المستخدم وتوفير كافة المعلومات، أو إدارة الحوار بما يتفق مع معطيات الحالة محل النقاش.
ثانياً: تمثيل المعرفة والاستدلال: إذ يُشير هذا البعد إلى كون الذكاء الإصطناعي قادراً على التكيف مع بيئته وأكتساب المعرفة التي تصف هذه البيئة، وتخزين المعرفة بشكل يسمح باستجابة سريعة وكافية لأي حافز تولده البيئة.
ثالثاً: نظم الشبكات العصبية: إذ تُعطي هذه النظم طرقاً سريعة في استشعار المعلومات وكيفية الرد عليها وماهية المعلومات والبيانات التي يمكن توفيرها لتتناسب مع الموقف الراهن.
رابعاً: معالجة اللغات الطبيعية: وهي منظومة تُعنى بقراءة لغة البشر وفهمها وإدراكها ومعالجتها وإمكانية الرد عليها.
المطلب الثاني: مفهوم ومراحل صنع القرار
أولاً: مفهوم صنع القرار السياسي الخارجي:-
التحديد اللغوي: يأتي المصدر اللغوي لكلمة قرار من قر بمعنى مستقر، أو ما قر عليه الرأي من الحكم في مسألة ما مثل: قرار الحكومة أو قرار المحكمة، كما تعني قر في شي، أي حصل فيه السكن والسكون، ونستنتج من ذلك في ان القرار هو ما ينتهي إلى الشيء ويستقر عليه، أما كلمة سياسي ومصدرها اللغوي ساس، أي بمعنى تولي أمور الناس وأرشادهم إلى الطريق الصحيح، ويأتي مثلاً ساس البلاد أي تولي أمورها وتسيير أعمالها وتدبير شؤونها الداخلية منها والخارجية[14].
التحديد الاصطلاحي: يقصد بمصطلح عملية صنع القرار بشكلٍ عام: بأنها عملية ديناميكية تتألف من مجموعة من العناصر والابعاد والمراحل، وتتم ضمن أطار مؤثرات وقيود محددة ومتعددة، وتضمن السلوكيات الهادفة والتفاعلات المؤسسية والسلوكية التي تفضي إلى إتخاذ القرار (وهو آخر مراحل عملية صنع القرار) الذي يقوم على عملية المفاضلة والموازنة بين مجموعة من البدائل المتاحة وأختيار البديل الانسب[15]، وبما يعبر عن علاقات وتوازنات القوى في المجتمع، ويحقق الاهداف بإقل قدر ممكن من أستخدام الإمكانات المادية والفنية والبشرية[16]. ويمكن تعريفها بأنها عملية فنية وذهنية في آن واحد إذ أنها تحتاج إلى الإلمام الكافي بالجوانب الفنية والمعلومات الدقيقة ذات الصلة بالموضوع، كما أنها تحتاج إلى مهارات عالية في التنظيم والتحليل والمفاضلة بين البدائل وأختيار البديل الانسب[17].
التحديد الاجرائي: إذ يقصد بعملية صنع القرار من الناحية الاجرائية: الكيفية التي يمكن من خلالها التوصل إلى صيغة عمل معقولة من بين عدة بدائل متنافسة، إذ ان كل القرارات ترمي إلى تحقيق أهداف معينة، أو تستهدف تجنب حدوث نتائج غير مرغوب بها[18].
وفي العموم تُقسم القرارات السياسية تبعاً للمكانِ الجغرافي الذي يؤثر عليه؛ إلى نوعين وهما القرار السياسي الداخلي، والقرار السياسي الخارجي، لكن ما يهمنا في هذه الدراسة تحديد مفهوم عملية صنع القرار السياسي على الصعيد الخارجي، إذ يُمكن تحديد تعريف عملية صنع القرار السياسي الخارجي: بأنهُ الانتهاء إلى صيغة عمل محددة أو بديل محدد من بين عدة بدائل متاحة للسلوك بصدد موقف خارجي محدد تتعرض له الدولة وذلك بغية التوصل إلى اقدر الوسائل التي تحقق الاهداف المحددة سلفاً بأكبر قدر ممكن من الفاعلية[19].
ثانياً: مراحل صنع القرار السياسي الخارجي:-
يمكننا بيان مجمل مراحل عملية صنع القرار السياسي الخارجي وكما يأتي[20]:-
أولاً: تحديد المشكلة أو تعريف الموقف (Defining the problem):- المشكلة هي أنحراف وعدم توازن بين ماهو كائن وما يجب ان يكون، إذ ان تحديد المشكلة واحدة من أهم مراحل فاعلية القرار، إذ إن غايـة السياسـة الخارجيـة هـو تحقيــق الأهــداف الخارجيــة للدولــة وهــو مــا قــد يصــطدم بالأهــداف الخارجيــة للــدول الأخــرى ممــا يتسبب بمشـكلة، وهـذا يمثـل موقـف يتطلـب الـرد عليـه بشـكل يـدفع صـانع القـرار إلى تحديـد و تقيـيم درجـة تـأثيره كأول خطوة في عملية صنع القرار.
ثانياً: جمع البيانات والمعلومات (Collecting Information and Data):- أن أي حلول لمشكلة تتطلب جمع البيانات اللازمة والمعلومات، وفي حال أنعدام تلك المعلومات والبيانات أو قصورها، سيعتمد صانع القرار على تصوراته الشخصية، والتي قد تخضع لعواطفه أحياناً وتؤدي في المحصلة إلى إتخاذ قرار مبني على رد فعل سلبي لا يستوعب كافة أبعاد الموقف وأحتمالاته المستقبلية.
ثالثاً: تحديد الهدف (Objective Defined):- الهـدف هـو وضـع معـين يقـترن بوجـود رغبـة مؤكـده لتحقيقـه عـبر تخصـيص ذلـك القـدر الضــروري مــن الجهــد والإمكانات اللازمــة للإنتقــال بهذا الوضـع مـن مرحلـة التصـور النظـري إلى مرحلة الوجود أو التحقق المادي. والأهداف تتطلب عمليـة إعـادة تعريـف وتبويـب مسـتمرة كونها متفاعلة مع بعضها البعض وذات طبيعة مركبة.
رابعاً: تحديد و تطوير البدائل (Alternatives Develop):- وتعني وجود خيارين أو أكثـر لحـل المشـكلة، ويشـترط في البـدائل أن تمتـاز بـأن تكـون لها القــدرة علــى حــل المشــكلة وان تكــون في حــدود الإمكانــات والمــوارد المتاحة، ووجود أحد الشرطين دون الآخر ينفي سمة البديل القابل للإختيار، ويفضل لصانع القرار إن يحصر اكبر عدد ممكن من البدائل المتاحة فربما تعتمد صحة البديل المختار على البدائل التي تم اكتشافها[21].
خامساً: تقييم البدائل (Alternatives the Evaluate):- تتضمن هذه العملية أختياراً ذهنياً لكل بديل من حيث مزاياه وعيوبه والتكاليف والنتائج المترتبة على تطبيقه وأحتمالات نجاحها بالمقارنة مع البدائل الآخرى عبر تحديد قيمة كل بديل كماً ونوعاً[22].
سادساً: أختيار البديل الانسب (Taking Decision):- تعـني ذهـاب متخـذ القـرار إلى إجــراء عمليــة المفاضــلة بــين بــديلين علــى الأقــل يتمتعــان بقيمــة متشــابهة و يختـار مـن بينهمـا الأكثـر قدرة علـى إنجـاز الهـدف المطلـوب بأقـل خسـارة ممكنـة، وهذا يتطلب أن يكون بين يدي صانع القرار المعلومات الكافية والذكاء والدراية ليؤدي دورهُ في أختيار البديل الانسب كونها جوهر عملية صنع القرار[23].
سابعاً: تنفيذ القرار (Implementation Decision):- يعني إصدار أمر من متخذ القرار بهذا البديل وابلاغة للجهات التنفيذية لتنفيذه بالوقت المناسب، وهذه العملية تخرج من مرحلة التخطيط إلى مرحلة المتابعة والتقييم، إذ يتم تنفيذ القرار بوسائل عدة لعل أبرزها: الوسائل الدبلوماسية، السياسية، الاقتصادية، العسكرية...الخ.
ثامناً: تقييم القرار (Evolution Decision):- أي معرفة مدى تأثير القرار وقدرته على تحقيق الهدف على أرض الواقع وبيان ردود أفعال البيئة الخارجية على درجة نجاح أو فشل ذلك القرار كلياً أو جزئياً[24].
ختاماً لما سبق ذكره قد بينا في المبحث الاول ماهية الذكاء الإصطناعي وعملية صنع القرار السياسي الخارجي، وسيتم التطرق إلى دور تقنيات الذكاء الإصطناعي في تطور عملية صنع القرار السياسي الخارجي، وهذا ما سيتم معالجته في المبحث التالي.
المبحث الثاني
دور تقنيات الذكاء الاصطناعي
في تطور عملية صنع القرار السياسي الخارجي
أضحى الذكاء الإصطناعي يلعب دوراً محورياً في عملية صنع السياسات والقرارات والعلاقات بين الدول مع تغير أسلوب العمل الدبلوماسي وفقاً لمجموعة من المحددات السياسية والتفاعلات المؤسسية داخل النظام السياسي، على سبيل المثال التنبؤ المبكر للمخاطر، ومستويات أكثر تعددية وأعمق من المعرفة، فضلاً عن إمكانات بناء نماذج مختلفة وبدائل للقرارات والسياسات، إذ سيؤدي صعود الذكاء الاصطناعي إلى تعديل آليات وتوازنات القوى الفاعلة، إذ تعتمد عملية صنع القرار السياسي الخارجي في عصر الذكاء الاصطناعي على وفرة المعلومات وحُسن أستخدامها فضلاً عن عنصر السرعة لمواكبة المتغيرات الدولية، وعليه سيتم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين: يتطرق الاول منها في معالجة خصائص الذكاء الاصطناعي ذات الصلة في عملية صنع القرار السياسي الخارجي، أما الثاني يتطرق إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأثرها في فاعلية صنع القرار السياسي الخارجي.
المطلب الاول: خصائص الذكاء الاصطناعي ذات الصلة في عملية صنع القرار السياسي الخارجي
يخفف الذكاء الاصطناعي عن صانع القرار الكثير من المخاطر والتحديات النفسية، ويجعلهُ يركز على أشياء أكثر أهمية لا سيما عند إتخاذ القرار، كل ذلك من طريق الخصائص والميزات الآتية[25]:-
أولاً: التمثيل الرمزي ((Symbolic Representation: إذ تتسم برمجيات الذكاء الإصطناعي عموماً بأستخدامها رموزاً غير رقمية مما يتناقض مع الحواسيب تعتمد على الرقمين (0،1) غير أن هذا لا يمنع من كونها قادرة على القيام بالعمليات الحسابية.
ثانياً: الاجتهاد Heuristics)): إذ تتميز برمجيات الذكاء الإصطناعي بعدم وجود حل خوارزمي محدد ومعروف للمشاكل التي تتطرق اليها، لذا لابد من الاجتهاد في أختيار طرق الحل التي تكون ملائمة مع إمكانية تغيير الحلول في حال عدم كفائة الطريقة الاولى.
ثالثاً: المعلومات غير الكاملة Imperfect Information)): تتصف برمجيات الذكاء الإصطناعي بكونها تصل إلى الحلول للمشاكل حتى في حال عدم توفر المعلومات وذلك سبيلاً لتحقيق الاهداف وكذلك القدرة على إتخاذ القرارات في حال عدم التأكد.
رابعاً: تمثيل المعرفة Knowledge representation)): بحيث تعبر عن التطابق بين العالم الخارجي والعمليات الاستدلالية الرمزية بالحاسوب.
خامساً: البيانات المتضاربة (Conflicting data): تتصف برمجيات الذكاء الإصطناعي بقدرتها في التعامل مع بيانات قد تتناقض بعضها ببعض.
سادساً: القدرة على التعلم The ability to learn)): تُعد القدرة على التعلم أحد أهم ميزات السلوك الذكي، وما زال هناك تحديثات مستمرة تُجرى على برمجيات الذكاء الإصطناعي من أجل جعلها تكتسب القدرة على التعلم الذاتي[26].
لذلك أجمع المختصون على إن للذكاء الإصطناعي قدرات ممكن توظيفها في عملية صنع القرار لاسيما في مجالات التفكير، الادراك، أكتساب المعرفة وتطبيقها، القدرة على التعلم والفهم من التجارب السابقة، الاستجابة السريعة للمواقف والظروف الجديدة، التعامل مع الحالات الصعبة والمعقدة والغامضة، والاهم من هذا وذاك القدرة على تقديم المعلومة لإسناد عملية صنع القرار[27]. ومن الجدير بالذكر يرمي الذكاء الإصطناعي إلى المساعدة في إتخاذ قرارات بعيده عن المخاطرة ومحاطة بمعلومات موثوقة، من طريق تقديم معلومات تتميز بالملائمة، الدقة، الشفافية، المرونة العالية أي قابلة للتحديث والتطوير، وشاملة بحيث تكون مستوفية بصورة تامة دون تفصيل زائد او ايجاز يفقدها معناها[28].
المطلب الثاني: تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأثرها في فاعلية صنع القرار السياسي الخارجي
بصفة عامة يمكننا حصر تطبيقات الذكاء الإصطناعي في ثلاث مجالات رئيسة وهي: تطبيقات العلوم الادراكية Cognitive Science Application، تطبيقات الالات الذكية Robotics Applications، وتطبيقات الواجهة البينية الطبيعية Natural interface Applications وهو ما يتم بيانهُ في الجدول الآتي:
جدول (1) تطبيقات الذكاء الإصطناعي
تطبيقات الذكاء الإصطناعي |
||
تطبيقات الواجهة البينية الطبيعية |
تطبيقات الآلات الذكية |
تطبيقات العلوم الادراكية |
اللغات الطبيعية التعرف على الكلام تعددية في الحواس الواقع الافتراضي |
الادراك البصري حاسة اللمس التنقل الحركي الشبكات العصبية الوكيل الذكي |
النظم الخبيرة نظم التعلم المنطق الغامض الخوارزميات الجينية |
الجدول من إعداد الباحث إستناداً إلى:
James A. Obrien & George M. Marakas, Management Information System, Tenth Edition, USA, 2011, p422.
تساعد تطبيقات الذكاء الإصطناعي في بناء نماذج محاكاة لإتخاذ القرارات في السياسة الخارجية، فقدرات الذكاء الإصطناعي قادرة على معالجة كم هائل من البيانات المخزنة عن العلاقات الدولية، والرأي العام، فضلاً عن مواقف وتحالفات الدول لتحضير حزمة من الخيارات والبدائل الداعمة في عملية صنع القرار السياسي الخارجي، إذ ستكون تلك البدائل قادرة على التعامل مع الازمات الناشئة والمواقف الحساسة، ونظراً لصعوبة التنبؤ بإمكانات الذكاء الإصطناعي في المستقبل والمشاكل الناجمة عنه[29]، سيتم طرح أبرز تأثيرات تطبيقات الذكاء الاصطناعي الراهنة ومالها من تأثير مباشر على عملية صنع القرار السياسي الخارجي وانعكاسات ذلك على التفاعلات الحاصلة بين الدول، وذلك في التفصيل الآتي[30]:-
أولاً: تفاقم المعضلة الامنية:- بداية المفهوم هو من نتاج الاتجاه الواقعي في العلاقات الدولية صاغهُ الالماني جون هيرتس في كتابه الواقعية السياسية والمثالية السياسية في عام 1951، إذ يُشير إلى ان الكثير من الوسائل التي تسعى الدولة من طريقها لزيادة أمنها مما يُقلل في المحصلة على آمن الاخرين، بعبارةٍ أخرى تنشأ المعضلة الامنية نتيجة تصرفات دولة تهدف إلى زيادة أمنها مثل زيادة القدرات العسكرية يمكن ان يدفع الدول الآخرى إلى الاستجابة بتدابير مماثلة مما يؤدي في المحصلة إلى تفاقم المعضلة الامنية، وهذا الامر بلا شك سيغدو متفاقماً مع تطور عسكرة الذكاء الإصطناعي فالتنافس بين القوى المنتجة لهذه التطبيقات لتحقيق الريادة التكنولوجية العسكرية في هذا المجال سيغير من مفاهيم وكفاءة القوة العسكرية الصلبة وسيفهم منها أنها تهديد للقوى الاخرى، مما ينعكس على طبيعة القرارات المتخذه من قبل صانع القرار، إذ سيتخذ مزيد من القرارات المرتبطة بزيادة القدرات العسكرية والتي تسهم في تفاقم المعضلة الامنية.
ثانياً: الذكاء الإصطناعي في خدمة الحوكمة العالمية:- يُشير مصطلح الحوكمة بشكلٍ عام إلى وجود نظام من المعايير تحكم العلاقة بين الاطراف الاساسية، بهدف تحقيق الشفافية والنزاهة، إذ ان فكرة الحوكمة تقوم على ايجاد معايير قادرة على تجنب النزاعات الدولية، سواء أكانت في العلاقات الاقتصادية، أم النظام المالي العالمي، أم النظام التجاري المتعدد الاطراف، ويُعد طرح الحوكمة العالمية جوهر المشاريع الفرنسية، الصينية، والروسية لعالم متعدد القطبية؛ لذا ستغدو الحوكمة العالمية أحد محددات العلاقات الدولية في المستقبل القريب، إذ توفر تطبيقات الذكاء الإصطناعي القدرة على تجميع البيانات ومعالجتها وتحليلها بوصفها أحد أبرز الوسائل العالمية للحوكمة، لا سيما في العلاقات المالية، وتسوية النزاعات التجارية، إذ تطالب الصين بحكومة منظمة للتجارة العالمية لتحقيق هذه الاغراض، وعليه ستكون تطبيقات الذكاء الإصطناعي أحد الادوات الناظمة لمستقبل العلاقات الدولية والتفاعلات الحاصلة بين الدول بشكل عام، وعملية صنع القرار السياسي الخارجي بشكل خاص.
ان تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي ستسهم في زيادة قدرة تأثير الشركات العالمية القادرة على تحديث أنظمة الذكاء الإصطناعي، ومن الممكن ان تمنحها قدرات للهيمنة على دول ومنظمات دولية من خلال السيطرة التكنولوجية[31]، ولكن من جهةٍ اخرى فإن تنامي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الدول الوطنية، قد يحول النظم السياسية إلى مجرد أجهزة بيروقراطية لتنفيذ مخرجات وتوصيات تطبيقات الذكاء الإصطناعي في مجال السياسات العامة، وهذا الامر لا يلغي الدول بوصفه كيان حقوقي سياسي، ولكن يؤثر في نمط الحكم وطبيعة صنع وإتخاذ القرارات، فضلاً عن ان هذا الامر هو رهن بقدرة تطبيقات الذكاء الإصطناعي على بلوغ مرحلة (الوعي بالذات)، ففي ظهور أرهاصات المجتمع الخامس وهو مجتمع ما بعد المعلومات التي تندمج من طريقه المعلومة والآلة مع عقل الانسان، وما يتبعهُ من أنماط أجتماعية وقيم ثقافية وتفاعلات سياسية، يستلزم مستقبلاً الحوكمة المبنية على الذكاء الإصطناعي لتحقيق غرض الدولة وهو الانسجام ومنع الفوضى، فيكون بذلك الذكاء الإصطناعي اداة التغيير وفي الوقت نفسه اداة حكم، ولعل التحدي الاكبر الذي يواجه النظم السياسية هو التعارض الذي من الممكن ان يحصل بين ايديولوجيا التي تؤمن بها الدولة ومخرجات تطبيقات الذكاء الإصطناعي المصممة أساساً لإتخاذ قرارات عقلانية، وذلك في النظم التي تعتنق أيديولوجيا سياسية معينة[32].
ومن الجدير بالذكر انهُ لا يمكن تخيل بقاء النظام الدولي الراهن القائم على بنيته وآلياته ومؤسساته في مرحلة بلوغ الذكاء الاصطناعي (عصر العولمة الرابعة[33]) فسنكون أمام أحتمالين أما ان مؤسسات النظام بحاجة إلى تحديث، أو ان الطرف الاقوى في مجال الذكاء الإصطناعي سيفرض نمطه بما يعزز مصالحه، إذ يمثل التفوق في مجال الذكاء الإصناعي ريادة تكنولوجية تجعل الدولة الاكثر أمكانية في مجال الذكاء الإصطناعي في مركز قيادة العولمة الرابعة لا سيما في إحداث نقلة على صعيد التوازنات الدولية وشكل التحالفات فضلاً عن منظومة الامن الدولي، ومن جهةٍ أخرى لا يمكن تصور حوكمة عالمية لشأن عالمي ما دون تطبيقات الذكاء الإصطناعي، لما تحوزهُ من أمكانيات معالجة ضخمة تسمح بإدارةٍ مميزة تسند عملية صنع القرار السياسي الخارجي[34].
وفي سياق آخر، فقد لعبت أنظمة الذكاء الإصطناعي دوراً في توتر العلاقات الدولية بين الصين والولايات المتحدة الامريكية على سبيل المثال لا الحصر، إذ اتهمت الاخيرة الصين بانتهاك حقوق الملكية الفكرية من خلال أجهزة الهاتف المحمول هواوي وهو ما نفته الصين، الأمر الذي أسفر عن اعتقال مدير شركة هواوي في كندا، وتصاعد وتيرة التوتر بين البلدين، وذهبت الولايات المتحدة الامريكية في معركة التنافس على الجيل الخامس وتطويره بما يتماشى مع تطلعاتها في السيطرة الدولية عبر هذا المجال، وهو ما شجع كثير من دول العالم لدخول معترك المنافسة هذه مثل الصين وروسيا[35]، وفي هذا السياق أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في قوله أن من يمتلك الذكاء الإصطناعي سيحكم العالم بأسره، حتى أصبح الذكاء الإصطناعي أحد أبرز مكونات ومحددات عملية صنع القرار السياسي الخارجي[36].
إذ انه من الممكن ان يوظف الذكاء الإصطناعي في حرب المعلومات وجمع المعلومات، وكذلك في ساحات المعركة من خلال مجموعة من الافعال أبرزها: العمليات الجوية لتدمير مراكز القيادة والسيطرة، العمليات الخاصة لقطع خطوط الاتصال، التشويش الالكتروني على إتصالات الخصم، إدخال أهداف وهمية في رادارات الخصم بواسطة الخداع الالكتروني، وأختراق شبكات الحاسب الآلي التابعة للخصم وحقنها بمعلومات غير دقيقة، وتتعدد أنواع تطبيقات العسكرية التي تستخدم في الحروب وتدخل ضمن تصنيف تقنيات الذكاء الإصطناعي نذكر منها الدرونز والتي تقسم إلى الدرونز البرية، البحرية، والجوية، فضلاً عن أسراب الدرونز الصغيرة الحجم التي تنفذ مهام قتالية دقيقة ومحددة، ناهيك عن الروبوتات ذاتية التحكم[37]، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما حصل في الازمة الاوكرانية الراهنة، إذ قدمت الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية فضلاً عن اليابان وكوريا الجنوبية دعماً عسكرياً كبيراً للقوات العسكرية الاوكرانية سبيلاً لوقف التقدم العسكري الروسي، ويعد هذا الدعم تعزيزاً للقدرات العسكرية الاوكرانية بإستخدام أسلحة تدخل ضمن تصنيف تقنيات الذكاء الإصطناعي، شملت تلك الاسلحة قاذفات صواريخ، طائرات هجومية من دون طيار من طراز سويتش بليد 30 وسويتش بليد 60 والتي تسمى بالطائرات المسيرة الإنتحارية، وصورايخ طراز ستينغر وجافلين، وأنظمة رادار وتعطيل أتصالات وتجسس، ولا شك ان هذه الاسلحة لعبت دوراً كبيراً في أيقاف التقدم الروسي الى حدٍ ما، واحدثت تغييراً ساهم في تعزيز وتقوية موقف صانع القرار السياسي في أوكرانيا[38].
في الختام ساهمت تقنيات الذكاء الإصطناعي إلى انخراط دول العالم المتقدمة لتبني هذه الأنظمة لتحقيق أفضل علاقات دولية ممكنة، مع الحصول على ظاهرة دبلوماسية ذات أبعادٍ ذكية في كيفية تسيير شؤون البلاد على الصعيد الخارجي، تتصف وبكونها أكثر كفاءة وفاعلية من الطرق التقليدية، وكذلك بوجود الإنسان، إذ أثبتت تلك الأنظمة كفاءتها التي فاقت ذكاء الإنسان نفسه.
الخاتمة
سعت هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الذكاء الإصطناعي ودوره في عملية صنع القرار السياسي الخارجي من خلال إجراء دراسة تحليلية تبين من طريقها إلى ان لتقنيات الذكاء الإصطناعي القدرة التأثيرية في إعادة تراتبية القوى الفاعلة في النظام الدولي، وتأثير ذلك على معادلة التوازنات الحاصلة في ذلك النظام، وقد تبين أن من يحقق الريادة التكنولوجية في تحديث وتطوير تقنيات الذكاء الإصطناعي سيكون له ثقلهُ الكبير في النظام العالمي الجديد.
الإستنتاجات
وفي ضوء ما سبق تم التوصل إلى مجموعة من الإستنتاجات وفقاً للتفصيل الآتي:-
أولا: إن للذكاء الإصطناعي القدرة على الاستنتاج، القدرة على أكتساب معرفة جديدة وتطبيقها، ناهيك عن القدرة على إدراك ومعالجة الإشياء التي تحيط بنا، فضلاً عن القدرة على إتخاذ القرارات بناءًعلى تحليل بيانات سابقة في شإنٍ ما.
ثانياً: هناك توجه من قبل القوى الفاعلة في جعل تقنيات الذكاء الإصطناعي تسهم في تحديث قدرات التعلم الذاتي بحيث تستطيع الآلة ان تتعلم بنفسها وتصحح أخطائها دون الحاجة إلى تدخل بشري.
ثالثاً: ان عملية صنع القرار السياسي الخارجي ترمي إلى الانتهاء بصيغة عمل محددة أو بديل محدد من بين عدة بدائل متاحة للسلوك بصدد موقف خارجي معين، وقد تبين ان لتقنيات الذكاء الإصطناعي دور في إسناد عملية صنع القرار بالمعلومات وإتاحة أفضل البدائل بناءً على حسابات دقيقة تتم بفاعلية وعلى مستوى عالي.
رابعاً: يسهم الذكاء الإصطناعي في التخفيف عن كاهل صانع القرار عبء المخاطر والتحديات النفسية، ويجعلهُ يركز على أشياء أكثر أهمية لا سيما عند إتخاذ القرار بوصف الاخير آخر مراحل عملية صنع القرار.
خامساً: يرمي الذكاء الإصطناعي إلى المساعدة في إتخاذ قرارات بعيده عن المخاطرة ومحاطة بمعلومات موثوقة، من طريق تقديم معلومات تتميز بالملائمة، الدقة، الشفافية، مرونة عالية أي قابلة للتحديث والتطوير، وشاملة بحيث تكون مستوفية بصورة تامة.
سادساً: تساعد تطبيقات الذكاء الإصطناعي في بناء نماذج محاكاة لإتخاذ القرارات في السياسة الخارجية، فقدرات الذكاء الإصطناعي قادرة على معالجة كم هائل من البيانات المخزنة عن العلاقات الدولية، والرأي العام، فضلاً عن مواقف وتحالفات الدول لتحضير حزمة من الخيارات والبدائل الداعمة في عملية صنع القرار السياسي الخارجي، إذ ستكون تلك البدائل قادرة على التعامل مع الازمات الناشئة والمواقف الدولية الحساسة.
سابعاً: ممكن ان توظف تقنيات الذكاء الإصطناعي في أوقات السلم والحرب بما يتوافق مع إرداة القوى الفاعلة في النظام الدولي.
[1] اسلام الدسوقي عبد النبي، دور الذكاء الاصطناعي في العلاقات الدولية والمسؤولية الدولية عن أستخدامها، المجلة القانونية (مجلة متخصصة في الدراسات والبحوث القانونية)، المملكة العربية السعودية، (ISSN: 2537 - 0758)، 2020، ص1450.
[2] مصطفى عماد محمد البياتي، حدود الذكاء الاصطناعي والمسؤولية الناشئة عنه على الصعيد الدولي، مجلة القادسية للقانون والعلوم السياسية، جامعة الكوفة، كلية القانون، مجلد 13، العدد2، 2022، ص271.
[3]Ghofran M. I. Hilal & others, The Governance of Artificial Intelligence in Line with the International Human Rights Law, SHARI’A AND LAW SCIENCES, The University of Jordan, Volume 49, No.4, 2022, p129.
[4] احمد سعد علي البرعي، تطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوت من منظور الفقة الاسلامي، القاهرة، جامعة الازهر، كلية الدراسات الاسلامية والعربية للبنبن، 2022، ص25.
[5] عمرو محمد محمد أحمد درويش و أحمد حسن محمد الليثى، أثر استخدام منصات الذكاء الإصطناعي في تنمية عادات العقل ومفهوم الذات الاكاديمي لعينة من طلبة المرحلة الاعدادية منخفض التحصيل الدراسي، مجلة كلية التربية، مصر، جامعة عين الشمس، العدد 44، 2020، ص67.
[6]Pradipta Kumar Das & Others, Artificial Intelligence lecture notes, India, Veer Surendra Sai University of Technology, 2014, pp9-13.
[7] ايهاب خليفة، الذكاء الاصطناعي: تأثيرات تزايد دور التقنيات الذكية في الحياة اليومية للبشر، مجلة إتجاهات الاحداث، أبو ظبي، العدد20، 2017، ص62.
[8] رشا محمد صائم أحمد، تطبيقات الإدارة للذكاء الاصطناعي في إتخاذ القرارات الادارية، رسالة ماجستير، الاردن، جامعة الشرق الاوسط، 2022، ص ص11-16.
[9]سامية قمورة واخرون، «الذكاء الاصطناعي بين الواقع والمأمول «دراسة تقنية ميدانية»، الملتقى الدولي «الذكاء الاصطناعي: تحدي جديد للقانون»، الجزائر، 2018، ص ص2-3
[10] Jatin Borana, Applications of Artificial Intelligence & Associated Technologies, Proceeding of International Conference on Emerging Technologies in Engineering, Biomedical, Management and Science, India, Jodhpur National University, 2016, pp64-67.
[11] Ziyad Mohammed, Artificial Intelligence Definition, Ethics and Standards “Electronics and Communications: Law, Standards and Practice”, The British University in Egypt, 2019, pp4-9.
[12] سومر منير صالح وعلي أحمد عباس، التعددية القطبية من منظور القوى الكبرى في عصر الذكاء الاصطناعي، دمشق، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2021، ص ص28-29.
[13]() حسن بن محمد حسن العمري، الذكاء الاصطناعي ودوره في العلاقات الدولية، المجلة العربية للنشر العلمي، الاردن، جامعة مؤتة للدراسات العليا، العدد29، 2021، ص312.
[14] زهرة صالح، صناعة القرار السياسي، سلسلة كتيبات برلمانية، البحرين، معهد البحرين للتنمية السياسية، 2016، ص ص8-9.
[15]Clinton J. Andrews, Rationality in policy decision making, Handbook of public policy Analysis “Theory, Politics, and methods, Edited by: Frank Fischer & others, USA, The Pennsylvania State University_ Harrisburg Middletown, Pennsylvania, 2007, pp161-164.
[16] زهرة صالح، مصدر سبق ذكره، ص9.
[17] نديم خليل محمد، عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الامريكية، مجلة الفنون والادب وعلوم الانسانيات والاجتماع، دبي، المجلد63، العدد63، 2021، ص98.
[18] سعيود هشام وادفوس آسيا، صنع القرار في أيران وأثره على السياسة الخارجية: التعقيدات في المؤسسات الحاكمة، رسالة ماجستير، الجزائر، جامعة محمد الصديق بن يحيى، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2017، ص6.
[19] سعيود هشام وادفوس آسيا، مصدر سبق ذكره، ص14.
[20] سعد السعيدي وبسمة خليل، دور المعلومات في عملية صنع القرار السياسي الخارجي «دراسة نظرية»، مجلة الدراسات الدولية، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، العدد50، 2011، ص ص120-124.
[21] أليكس مينتس وكارل دي روين الابن، فهم صنع القرار في السياسة الخارجية، الامارات العربية المتحدة، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2016، ص12.
[22] بهاء الدين مكاوي محمد القيلي، القرار السياسي ماهيته-صناعته-إتخاذه-تحدياته، سلسلة كتيبات برلمانية، البحرين، معهد البحرين للتنمية السياسية، 2017، ص24.
[23] نديم خليل محمد، مصدر سبق ذكره، ص99.
[24] أحمد عارف الكفارنة، العوامل المؤثرة في عملية إتخاذ القرار في السياسة الخارجية، مجلة الدراسات الدولية، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، العدد42، 2009، ص ص19-20.
[25] جباري لطيفة، دور نماذج الذكاء الإصطناعي في إتخاذ القرار، مجلة العلوم الإنسانية، الجزائر، المركز الجامعي تندوف، 2017، ص ص122-123.
[26] أمينة عثامينة، المفاهيم الاساسية للذكاء الاصطناعي، تطبيقات الذكاء الاصطناعي كتوجه حديث لتعزيز تنافسية منظمات الأعمال، المانيا، المركز الديمقراطي العربي، 2019، ص ص13-14.
[27] سعد بن ناصر آلـ عزام وفايز بن عوض آلــ ظفرة، أثر تطبيق الذكاء الإصطناعي على جودة إتخاذ القرارات في إمارة منطقة عسير خلال وباء كوفيد19، المجلة العربية للإدارة، المملكة العربية السعودية، مجلد 43، العدد4، 2023، ص 10.
[28] رشا محمد صائم أحمد، مصدر سبق ذكره، ص ص26-28.
[29] حسام رشيد هادي، تأثير الذكاء الإصطناعي في النظام الدولي، عمان، دار كفاءة المعرفة للنشر والتوزيع، 2023، ص 236.
[30] سومر منير صالح وعلي أحمد عباس، مصدر سبق ذكره، 30-32.
[31] حسام رشيد هادي، مصدر سبق ذكره، ص ص 140-145.
[32] سومر منير صالح وعلي أحمد عباس، مصدر سبق ذكره، ص37.
[33] هنالك ثلاث مراحل للعولمة قد مر بها التنظيم الدولي، الاولى مرحلة توازن القوى (1815-1914) ونظام التعددية القطبية (1919-1939) توازياً مع الجيل الاول للثورة الصناعية والجيل الاول من العولمة (1820-1914)، أما المرحلة الثانية بدأت مع نظام الامن الجماعي (1945-1991) فهو الجيل الثاني من الثورة الصناعية والجيل الثاني للعولمة، في= =حين المرحلة الثالثة بدأت مع بروز الاحادية القطبية والنظام العالمي الجديد وهو يُعد الجيل الثالث للعولمة والجيل الثالث للثورة الصناعية، أما المرحلة الرابعة بدأت في بروز ملامحها مع تقنيات الذكاء الإصطناعي بوصف الاخير أحد أبرز علامات عصر العولمة الرابعة وذلك في الوقت الراهن، للمزيد يُنظر: سومر منير صالح وعلي أحمد عباس، مصدر سبق ذكره، ص ص22-26.
[34]حسام رشيد هادي مصدر سبق ذكره، ص 246.
[35]Osonde A. Osoba, William Welser IV, The Risks of Artificial Intelligence to Security and the Future of Work, USA, RAND, 2017, pp16-17.
[36] حسن بن محمد حسن العمري، مصدر سبق ذكره، ص ص314-315.
[37] إسلام دسوقي عبد النبي، مصدر سبق ذكره، ص ص1459-1461.
[38] أحمد جلال محمود عبده، السياسة الامريكية تجاه التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وأنعكاساتها على حلف الناتو، مجلة السياسة والاقتصاد، مصر، جامعة بني سويف، العدد 16، 2022، ص ص428-435.