تاريخ الاستلام 1/8/2023 تاريخ القبول 12/9/2023
حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية
حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف
حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)
CC BY-NC-ND 4.0 DEED
Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University
Intellectual property rights are reserved to the author
Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)
Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International
For more information, please review the rights and license
خداع الراي العام في السياسة الدولية
صناعة العدو في السياسة الامريكية أنموذجا
Deception of public opinion in international politics
creating the enemy in American politics as an example
م.د. راجي نصير دواره
معهد العلمين للدراسات العليا
Doctor teacher
Raji Naseer Dawara
Al Alamein Institute for Postgraduate Studies
المستخلص
تمثلٍ « صناعة العدو» احدى الاستراتيجيات المعروفة منذ القدم، ومازالت متبعة حتى الان، في صنع السياسة الداخلية والخارجية للدول والأنظمة السياسية. فصناعة العدو في السياسة الداخلية، لاسيما في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، تستخدم للهروب من المشاكل الداخلية، والتخلص من الخصوم السياسيين، ٍوضرب المعارضة للسلطة الحاكمة. اما على مستوى العلاقات الدولية فان العدو يستخدم، من جانب القوى الكبرى والاستعمارية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، الراغبة بفرض هيمنتها على الدول والشعوب الأخرى وفق منطق القطبية الاحادية، لتبرير الحروب، واحتلال الدول، بحجة تهديدها للبلد او للأمن القومي الأمريكي او العالمي كما تسميه أحيانا لأغراض التمويه، وفي كلا الحالتين فان الهدف من صناعة العدو، هو قلب الحقائق، وتزييف الواقع، بغية خداع الرأي العام واستمالته لتمرير السياسات، ويلعب الاعلام، التقليدي والجديد، دورا كبيرا في اقناع واستمالة الرأي العام وخداعة، وبالتالي في تمرير السياسات التي يضعها المتحكمون بالقرار، وأصحاب المشاريع الدولية.
الكلمات المفتاحية: الرأي العام، الاعلام، صناعة العدو، السياسة، العلاقات الدولية.
Abstract
The “enemy innovation “ is one of the strategies known since ancient times, and is still being followed, in making the internal and external policy of states and political systems. Making the enemy in domestic politics, especially in totalitarian and dictatorial regimes, is used to escape from internal problems, get rid of political opponents, and strike opposition to the ruling authority. As for the level of international relations, the enemy is used by the major and colonial powers, led by the United States, which desires to impose its hegemony over other countries and peoples according to the logic of unipolarity, to justify wars and the occupation of states, under the pretext of threatening the country or the American or global national security as it is sometimes called, for the purposes of camouflage, and in both cases, the goal of making the enemy is to overturn the facts and falsify In reality, in order to deceive public opinion and entice it to pass policies, the media, both traditional and new, play a major role in persuading and coaxing public opinion and deceiving it, and thus in passing the policies set by decision-makers and owners of international projects.
Keywords: public opinion, media, enemy industry, politics, international relations.
المقدمة:
ان الوسائل والأساليب التي يتم عبرها صناعة الرأي العام واستمالته او خداعه، كثيرة ومختلفة، وهي تتنوع بحسب الأسباب والدوافع، ولعل واحدة منها “ صناعة العدو”، التي تستخدم ذريعة لتبرير قرارات سياسية داخلية، او حروب مع دول أخرى بهدف احتلالها، او فرض الهيمنة على شعوبها سياسيا او اقتصاديا او عسكريا، عن طريق تحويلها الى « عدو «، وشيطنته، لإقناع الرأي العام بخطر داهم يمثله هذا العدو، ولا يمكن التخلص منه الا بوقوف الشعب، بل والرأي العام العالمي، مع السلطة الحاكمة او أصحاب القرار، في محاربة هذا العدو المفترض او محاصرته، او حتى اعلان الحرب عليه.
ان التطور الذي حصل في وسائل الاعلام التقليدية والجديدة، كان له اثر كبير في اتساع وشيوع ظاهرة « صناعة العدو»، حتى بات احد القواعد الأساسية في السياسة الدولية، من جانب القوى الكبرى الطامحة بفرض ارادتها على الدول الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وتفردها بالأحادية القطبية في قيادة العالم، حيث استغلت امتلاكها للمعرفة في مجال التكنلوجيا الإعلامية واحتكارها، والتي مكنتها من التحكم بوسائل الدعاية والاعلام الكبرى في العالم، للتلاعب بالراي العام المحلي والعالمي، للهروب من المشاكل والتحديات الداخلية، والاستفادة من خطر العدو المزعوم لتقوية الجبهة الداخلية، وصولا الى فرض معاييرها الخاصة، وبالتالي فرض ارادتها السياسية على القرار الدولي، تحت مسمى العولمة، واستغلال مفاهيم وشعارات حقوق الانسان والديمقراطية، او محاربة الإرهاب، وصولا الى إعادة صياغة النظام العالمي الجديد على مقاسات مصالحها القومية، ومشاريعها التوسعية.
أهمية البحث:
تكمن أهمية البحث في محاولة التعرف على أساليب خداع الراي العام، وتنميط الوعي المجتمعي، والذي تحول الى احد الفواعل الأساسية في السياسة الدولية، لتبرير طموحات ومشاريع غير شرعية وغير قانونية، عبر صناعة مشروعية كاذبة لسياسات عدوانية وتوسعية، خاصة من جانب الولايات المتحدة الامريكية، التي تحاول التحكم بالسياسة الدولية، بأساليب ناعمة، تقوم على إشاعة الكراهية ضد عدو مفترض، تسميه الولايات المتحدة وفق مصالحها ومقتضيات تمرير سياساتها الدولية، ، وتحريض الراي العام عليه بأسلوب الضخ الإعلامي والدعائي المكثف، القائم على حجب الحقائق، وفرض معادلات موهومة تقوم على الكذب والتزييف، من خلال التحكم بوسائل الاعلام الكبرى ومواقع التواصل الاجتماعي، عبر ما بات يعرف بالحرب الناعمة، والتي تَستخدم في كثير من الأحيان الراي العام في الدول المستهدفة، لإسقاط او اضعاف النظم السياسية الحاكمة فيها، من دون الحاجة الى استخدام القوة الصلبة، واستغلال الرأي العام الدولي لتبرير هيمنتها على القرار الدولي، بل واحتلال بعض الدول كما حصل مع العراق وأفغانستان، بحجة الحرب على الإرهاب، وتحت شعارات الديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان.
فرضية البحث:
يفترض البحث ان صناعة العدو، هي شكل من اشكال الخداع السياسي، على المستوى المحلي والدولي، ونمط من السياسات الهادفة لتبرير الحرب العسكرية او السياسية او الإعلامية او الاقتصادية، ضد الدول او الامم او الشعوب، التي يقول صناع السياسة في القوى والدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، انها تمثل مصدر خطر لأمن بلدانهم القومي، في محاولة لدفع الراي العام للوقوف مع قراراتهم، وتأييد سياساتهم غير المشروعة، وان هذه الادعاءات لا تقوم على حقائق واقعية، وانما أكاذيب سياسية يتم تضخيمها إعلاميا، عبر الميديا الممولة والخاضعة لإرادة المهيمنين سياسيا وماليا، لتحقيق مخططات استعمارية، او لتبرير حروب هيمنة عدوانية، او للتفرد بزعامة العالم.
إشكالية البحث:
يحاول البحث الإجابة على مجموعة تساؤلات، هي:
كيف تبرر القوى الكبرى والاستعمارية وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية، مشاريعها للهيمنة على العالم، عبر صناعة العدو؟
لماذا تحاول الدول تضخيم خطر عدو الموجود، او صناعة عدو وهمي والحديث عن خطره المفترض؟
كيف تحاول أمريكا خداع الراي العام لتصديق اكاذيبها عن العدو الحقيقي او المفترض؟
ما هو دور الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في خداع الرأي العام واستمالته، لتأييد فكرة الحرب على العدو المفترض؟
منهجية البحث:
يستخدم البحث المنهج الوصفي التحليلي، والمنهج التاريخي، لدراسة ظاهرة صناعة العدو، واستخدامه في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، خصوصا من جانب الولايات المتحدة الامريكية.
هيكلية البحث:
يتكون البحث من مبحثين بمطالب متعددة، يتناول المبحث الأول الراي العام وتعريفاته، وأساليب استمالته، ودور الاعلام في صناعة الرأي العام. اما المبحث الثاني فيركز على العوامل المؤثرة في السياسة الدولية، وأسلوب صناعة العدو في السياسة الخارجية الامريكية، ودور الاعلام في تضخيم وتمرير صورة العدو المفترض.
المبحث الاول
الرأي العام
يلعب الراي العام دورا فاعلا في صنع السياسات العامة للدول، من خلال تأثيره على صانع القرار، او قبول قراراته ووضعها موضع التنفيذ، ولذلك تحرص الدول على اختلاف أنظمتها السياسية على ضمان تأييد الراي العام، واستمالته بأساليب متعددة، لضمان تأييده او قبوله بما تتخذه من قرارات، وما تطرحه من تبريرات، لتنفيذ سياساتها على المستوى الداخلي والدولي، باعتبار ان رضى، او عدم ممانعة الرأي العام على اقل تقدير، يعطي مشروعية لقراراتها، ويعطيها القدرة والقوة على تنفيذها، ويسمح بتمريرها على ارض الواقع.
المطلب الاول: تعريف الراي العام (اللغة والمصطلح)
المعنى اللغوي:
الرأي: كما جاء في المعجم الوسيط، (راَه) يراه، ويراه رأيا، ورؤيته: أبصره بحاسة البصر، واعتقده ودبره. والرأي: الاعتقاد، والعقل، والتدبر، والنظر، والتأمل، ويقال رأيته رأي العين، حين يقع عليه البصر، والراي استنباط الاحكام الشرعية في ضوء قواعد مقررة.[1]
اما كلمة العام في اللغة فتعني الشامل، وخلاف الخاص، يقال: جاء القومُ عامة، جميعا (العامي)، المنسوب الى العامة، ومن – الكلام: ما نطق به العامة.[2]
المعنى الاصطلاحي:
مصطلح الرأي العام يتكون من كلمتين « الرأي» و « العام «، فكلمة الرأي تعني باللاتينية (Opinion)، اما كلمة العام (Public)، وهو ما ليس بخاص، فقد رأى بعض الباحثين ان المقصود بها الجماعة التي تشترك في تكوين الرأي العام، أي انه لا يرتبط بالفردية، بل بالوحدة العامة الكلية.[3]
تعريفات الرأي العام:
للرأي العام تعريفات كثيرة ومختلفة، بحسب اختلاف اختصاص الباحث، والزاوية التي ينظر منها للمفهوم، ولذلك من الصعب بمكان الحديث عن تعريف جامع مانع للرأي العام، لكن يمكن الحديث عن تعريفات متعددة تقترب من بعضها أحيانا، وتبتعد في أحيان أخرى.
في كتابه « الرأي العام والاعلام» عرف الدكتور صادق الأسود الرأي العام بانه “ ظاهرة اجتماعية، وهو أحد مظاهر الحياة المشتركة للإنسان في المجتمع، وهو كأي ظاهرة اجتماعية، غير جامد، بحكم العوامل التي تتفاعل فيما بينها، في عملية معقدة”.[4]
في حين يعرفه بعض الكتاب والباحثين بأنه: «حصيلة الفرد من المعرفة، وخلاصة المعلومات التي تصل إليه، وهو تعبير عمـا يجـب أن يكون عليه الوضع، وليس وصفاً لما هو كائن بالفعل”، ومن الباحثين من يعرفه على أنه “ تعبير باللفظ والإشارة عن اتجاه النفس حول موضوع معين”.[5]
اما وليام البيج WILLIAM ALBIG، فعرف الرأي العام في كتابة (الرأي العام الحديث)، بانه “ تعبير عدد كبير من الافراد عن آرائهم حول موضوع معين، تأييدا او معارضة، بحيث يكون عدد المؤيدين او المعارضين كافيا لممارسة التأثير على موضوع او سياسة معينة، بشكل مباشر او غير مباشر».[6]
ويعرف البعض الرأي العام بانه” تعبير جمع كبير من الأفراد عن آرائهم في موقف معين، اما من تلقاء أنفسهم، أو بناء على دعوة توجه إليهم، تعبيرا مؤيدا أو معارضا لمسألة معينة، أو شخص معين، او اقتراح ذي أهمية واسعة، بحيث تكون نسبة المؤيدين أو المعارضين في العدد ودرجة اقتناعهم وثباتهم واستمرارهم، كافية لاحتمال ممارسة التأثير على اتخاذ اجراء معين، بطريق مباشر او غير مباشر، تجاه الموضوع الذين هم بصدده».[7]
اما علي بسيوني فيعرف الرأي العام بانه: « وجهة نظر الأغلبية تجاه قضية عامة معينة، في زمن معين، تهم الجماهير، وتكون مطروحة للنقاش والجدل، بحثا عن حل يحقق الصالح العام».[8] وهو تعريف قريب من التعريف الذي وضعه مختار التهامي والذي يقول فيه ان الراي العام هو “ الرأي السائد بين اغلبية الشعب الواعية في فترة معينة، بالنسبة لقضية او أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش، وتمس مصالح هذه الأغلبية او قيمها الإنسانية الأساسية مسا مباشرا».[9]
اما قاموس وبستر فيعرف الرأي العام بانه» الراي المشترك خصوصا عندما يظهر انه راي العامة من الناس»[10]. في حين عرفه معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية بانه» وجهات النظر والشعور السائد بين جمهور معين، في وقت معين، إزاء موقف او مشكلة من المشكلات».[11]
وبناءً على ما تقدم، يمكن ان نعرف الرأي العام بانه، رأي أغلبية الجمهور، حول قضية معينة، في مكان معين، وزمان معين، ترتبط بتطلعاتهم ومصالحهم ومواقفهم، وتكون مثار جدل ونقاش بينهم.
المطلب الثاني: أساليب تكوين واستمالة الرأي العام:
إن عملية تكوين الرأي العام، هي من العمليات المعقدة، والتي تاتي نتيجة التفاعل بين مجموعة من العوامل الفيزيولوجية والوظيفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والنفسية المتداخلة، التي تساهم في تشكيل وعي الفرد، ومن ثم تكوين اراءه حيال القضايا والاحداث والقضايا المحيطة به، وصولا الى تشكيل رأي اغلبية الجماعة، ومن هذه العوامل: التنشئة الاسرية، والعوامل النفسية، والعادات والتقاليد، والعوامل الثقافية والحضارية، والدين، والمستوى التعليمي، والوضع الاقتصادي، والاحداث التي مر بها الفرد والمجتمع، وطبيعة النظام السياسي، ووسائل الاعلام، والقيادة والزعامة، وجماعات المصالح والضغط، والمنظمات والنقابات، والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وعوامل أخرى تتفاوت في تأثيرها من مجتمع الى اخر، ومن فرد الى فرد اخر، وهذه العوامل تؤثر بدرجات متفاوتة في الرأي العام، وتساعد على تعبئته وخلقه، وتعتبر وسائل الاعلام والاتصال المختلفة، مـن ابـرز العوامـل الـتي تشترك في تشكيل الرأي العام.
ويعتبر الرأي العام والتأثير فيه، موضوعا يهم كافة الأجهزة والجماعات والهيئات التي تمثل قناعات وتحركات الجماهير، ولذا يسعون دائما للتأثير فيه، والتحكم به، كلما أتيح لهم لذلك سبيلاً، وهذا يشير إلى أن هناك مهنة أو صناعة أو ما يطلق عليه البعض “هندسة” للجماهير، بحيث ينتج من توظيف عدة متغيرات والتحكم بها، ما نطلق عليه الرأي العام، ويشترك في هذا التحكم صنّاع السياسة وأذرعهم التنفيذية والأمنية والمخابراتية بشكل أساس، وغيرهم من أصحاب الأفكار والنفوذ، وأصحاب المصالح المتنوعة، الذين يسعون جميعا إلى التأثير في القواعد العريضة من مستقبلي رسائلهم، وتكتمل الصورة في تلك الصناعة، بتوظيف عوامل الدين والقيم والثقافة، مع آراء خبراء الاجتماع وعلوم النفس والدعاية والعلاقات العامة لخدمة تلك الأهداف، ورسم سياسات للتأثير والصياغة وطرق التناول لتلك القضايا.[12]
وهناك العديد من الأساليب التي تستخدمها وسائل الاعلام والاتصال، لتكوين واستمالة الراي العام، من خلال رسائلها الإعلامية، والتي تترك تأثيراتها وفعاليتها في تشكيل توجهات الراي العام المستهدف، بالاتجاه الذي يريده او يخطط له صانع المحتوى الإعلامي، او الرسائل الإعلامية، اما بشكل مباشر، او بشكل تراكمي غير مباشر في وعي الجماهير وتوجهاتها.
ولا شك ان ثورة المعلومات والاتصالات، والتطور الهائل في التقنيات الإعلامية، وقدرتها على توظيف المعلومة والصوت والصورة والمؤثرات البصرية، في خدمة الرسالة الاتصالية، كان له الأثر الواضح في قدرة الاعلام على صناعة الراي العام، محليا وعالميا، بالاتجاه الذي يريده القائمون على وسائل الاعلام، والأنظمة والقوى السياسية الحاكمة والمتنفذة في العالم، وفي العادة لا يستطيع الجمهور المستهدف الوقوف على حقيقة وخطورة هذه الأساليب لاستمالته وخداعه، في ظل التدفق المكثف والمتواصل للأخبار، والعمليات النفسية والاجتماعية المدروسة التي ترافقها، وحرص القائمين عليها على إبقاء دورهم ونواياهم مخفية عن المستهدفين، حيث يتم تنفيذها بدقة وحرفية عالية. ومن أبرز أساليب وطرق استمالة الرأي العام:
أولا: أسلوب التكرار والملاحقة:
يعتمد هذا الأسلوب على التكرار، وليس على الجدال او المناقشة، وهو انجح الاساليب لتغيير الرأي العام وتكوينه.[13] فتكرار الرسائل الإعلامية باتجاه محدد ومدروس، يؤثر بالتأكيد على الراي العام، وتحشيده بالاتجاه الذي يريده القائم بالنشاط الاتصالي او الدعائي.
فالأحـداث لا تنطـوي في حد ذاتهـا علـى مـغـزى معين، وإنمـا تكتسب مغزاهـا مـن خـلال وضعها في إطار يحددها وينظمها، ويضفي عليها قدرا من الاتسـاق، مـن خـلال التركيـز عـلـى بعـض جوانب الموضـوع، وإغفال الجوانب الأخرى في النص الخبري، وتكرار ذلك بشكل متواصل حتى يتحول الى ما يشبه الحقيقة في اذهان المتلقين، وأن اختلاف وسائل الإعلام في بناء الأطر الإخبارية لموضوع ما، يؤدي إلى اختلاف مماثل في طبيعة إدراك الجمهور له»[14] وكانت الدعاية الالمانية تعتنق هذا الأسلوب، وتؤمن بأنه الاسلوب المثالي لمخاطبة الجماهير.
ورغم عداءها المعلن للنازية، الا ان ماكينة الدعاية الامريكية تمارس نفس الأسلوب، أسلوب التكرار ,والملاحقة، عبر اطلاق اتهامات مفبركة تجاه دول او شعوب معينة، وتعمل من خلال أسلوب التكرار على اثارة الرأي العام وتحشيده ضدها، بالاستعانة بالضخ الإعلامي المكثف، فقد لصقت تهمة الإرهاب بالإسلام، وخلقت فوبيا العداء للإسلام والمسلمين في أمريكا والعالم، كما قسمت العالم الى محاور للشر، وأخرى للخير، باستخدام أسلوب تكرار الاتهامات والادعاءات عبر وسائل الاعلام، والعمل على ترسيخ هذا الفكرة او القناعة لدى الراي العام المحلي والدولي.
ثانيا: أسلوب الاثارة العاطفية
يعتمد هذا الأسلوب على التوجه إلى العواطف وليس إلى العقول، لاثارة العاطفة لدى الجماهير في محاولة لإحداث تغيير، إيجابي أو سلبي، في سلوك “ المستقبِل»، أي الشخص الموجهة إليه الرسالة الإعلامية، وفي النهاية إحداث تغيير في الراي العام واتجاهاته، خاصة عبر اثارة عاطفة الحقد، او اثارة العواطف السياسية او القومية او الدينية.[15] ولذلك يستعين رجل الدعاية بإثارة الخوف، والقلق، والإعجاب، والحب، والبغض، والغضب، والأنانية، والشجاعة، والأمل، واليأس.. الخ، كدوافع لتحقيق الهدف المطلوب.[16]
وقد كان زعيم المانيا النازية «ادولف هتلر» يعتقد أن استجابة الجماهير دائما استجابة عاطفية أكثر مما هي عقلية، لذلك كان يدعو إلى أن تتجه الدعاية إلى العواطف خاصة عاطفة الحقد. وأيسر الطرق إلى إثارة الحقد هو التشهير، فيجب تشويه سمعة الناس وتزييف الحقائق.[17]
والدعاية تنزل إلى أدنى المستويات العقلية للجماهير، وتبنى على البساطة وأسلوب الإثارة العاطفية، بما يستلزم من كذب وتضليل وخداع، حتى يتسنى له الوصول إلى أهدافه، ورغم فشل هذا الأسلوب وسقوط النازية، إلا أنه لا زال مستعملا في الكثير من أجهزة الدعاية العالمية، خصوصا المروجة لقضايا غير عادلة.[18]
ويزداد استخدام هذا الأسلوب عندما يصعب استخدام الأساليب الموضوعية، والحقائق المادية، في استمالة الرأي العام، أو مواجهة رأي عام مضاد، ولذلك يلجأ القائمون على الاتصال والخطاب الإعلامي الى ممارسة أسلوب الاستثارة العاطفية والغرائزية، خاصة في المجتمعات التي تزداد فيها نسبة الجهل والأمية، باعتبار ان الدعاية تعتمد أساسا على إثارة العواطف.
ثالثا: أسلوب تحويل الانظار
من الصعب في أحيان كثيرة، معارضـة الـرأي السائد بين الجماهير بالنسبة لموضوع معين، أو مشكلة أو قضية، ولذلك تتبع الدول والحكومات، وباستخدام أجهـزة الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري في مثل هذه الأحوال، أسلوب تحويل انتبـاه الجماهير إلى موضوع أخر يوازيه في الأهمية، أو أكثر أهمية منه، او تضخيم موضوع ثانوي، لجعل جل اهتمام الراي العام يتوجه صوب ذلك الموضوع المبتكر، بدل التركيز على الموضوع الأساسي.[19] حيث تلجأ الدول والحكومات، مستغلة وسائل الإعلام في كثير من الأحيان، الى اثارة ازمات مفتعلة، او تهويل قضايا بسيطة موجودة فعلا بشكل متعمد، ومن ثم التركيز على الثانوي في المظاهر وجعله رئيسياً، وإهمال المسائل المهمة وجعلها ضعيفة الأهمية، عملا بمبدأ تحويل بؤرة الاهتمام[20]. بالنسبة للراي العام، وتحويل اهتمامه بعيدا عن المشكلة الحقيقية.
وهذا الأسلوب يستخدم في اغلب الدول الدكتاتورية والشمولية، كما تستخدمه كثيرا الادارات الأمريكية المتعاقبة، عندما تواجه ازمة خانقة، حيث يجري اختراع عدو خارجي مزعوم، او تهديد متوقع، لتحويل انتباه الجمهور والرأي العام.[21] حيث تقوم مع كل ازمة خانقة وصعبة تمر بها، بإثارة مشكلة او خطر محتمل او تهديد ( إرهابي)، فمرة تتحدث عن خطر اقتصادي صيني، او خطر عسكري روسي، او تهديد نووي كوري شمالي، او تثير موضوع الأسلحة النووية الإيرانية، ثم خطر فنزويلي، ومرة تصنع تنظيم القاعدة وبعده داعش، ثم تعود للحديث عن خطرهما، وتجيش العالم للحرب ضدهما، وتخضع الموضوع لتغطية إعلامية مكثفة، بالاستفادة من امبراطورياتها الإعلامية الضخمة، لصرف انظار الجمهور عن المشاكل الحقيقية، كل ذلك لتصرف نظر الراي العام الأمريكي عن مشاكل البلد الداخلية، والراي العام العالمي عن خططها ومشاريعها غير المعلنة.
يقول المفكر الأمريكي اليساري نعوم تشومسكي في مقال له بعنوان “ استراتيجيات التحكم والتوجيه العشر» المأخوذ عن وثيقة (الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة)، أن من بين هذه الاستراتيجيات العشرة، إستراتيجية الإلهاء بالتفاهة، عبر إغراق النّاس بوابل متواصل من الاخبار والقضايا التافهة، في مقابل شحّ المعلومات وندرتها (عن القضايا المهمة)، وهى استراتيجية ضرورية لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية، للحفاظ على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، وجعله مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها، وجعله مشغولا ولا وقت لديه للتفكير.[22]
رابعا: أسلوب افتعال الأزمات.
وهو أحد أكثر الأساليب استخداما لخداع الرأي العام، وتغيير اتجاهاته ومواقفه، وافتعال الازمات أسلوب تميل اليه النظم السياسية لاسيما الدكتاتورية، او التي تملك طموحات الهيمنة، ويتم من خلال افتعال أزمة، او استغلال بعض الأحداث او الظروف من أجل خلق أزمة تؤثر في الرأي العام، وتستفيد منها السلطة التي تستخدم هذا الأسلوب، وغالبا ما تكون هذا الاحداث مفتعلة ومخطط لها لصرف نظر الراي العام، وبعضها احداث تقع فعلا ويجري استثمارها من قبل الأنظمة الحاكمة، لإبعاد نظر الراي العام عن مشاكل أخرى أكثر خطورة، او مخططات يتم تمريرها باستثمار تلك الاحداث والأزمات.
وصناعة الأزمة تعد فنًا حديثًا للسيطرة على الآخرين، بما يحقق مصالح وأهداف صانعي الأزمة على حساب الطرف الآخر، ويتم افتعال الازمات عادة ببرنامج زمني محدد الأهداف والمراحل، بهدف التأثير النفسي وزعزعة الوضع الاجتماعي، تحقيقًا لأهداف سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.[23]
ويفرق الباحثون بين إدارة الأزمات كمفهوم يشمل التدابير الرامية إلى السيطرة على الأحداث التي تقع طبيعيا، وعدم السماح لها بالخروج عن نطاق السيطرة والحد من تفاقم الصراعات والمشاكل السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبين الإدارة بالأزمات، أي عبر افتعال الازمات او استغلالها لخدمة أهداف ضيقة؛ أو التمويه على الأزمات الحقيقية عبر سبل ملتوية ولا أخلاقية، قد تصل إلى حدّ تفتيت الدول، وإطلاق الإشاعات، وإثارة النّعرات العرقية والطائفية، والتحريض على العنف، وإرباك التحالفات والمواثيق والمعاهدات الدولية.[24]
وقد اعتادت الكثير من النظم السياسية في العالم، على مر التاريخ، على العمل بمنطق المؤامرة واثارة وافتعال الأزمات، اسلوبا لصرف نظر الرأي العام عن قضاياه الحقيقية، وللتغطية على كثير من الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتخبّط فيها، وتشير الممارسات الدولية إلى أنه كلما تعقّدت الأزمات واشتدّ حرج بعض صانعي القرار أمام الرأي العام، زادت إمكانية افتعال أزمات وهمية لتصريف نظيرتها الحقيقية. وتزداد خطورة هذه الآلية مع تطور تكنولوجيا الاتصال الحديثة.[25] والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، معروفان بافتعال الازمات، لتمرير مخططات معينة كبيرة وخطيرة في العادة، تحت غبار تلك الازمات المفتعلة.
خامسا: أسلوب إثارة الرعب والفوضى.
الإعلام في ظل الثورة التكنولوجية، لم يعد مجرد عملية إخبار عن أحداث ووقائع بِنية إشباع حاجات الناس وفضولهم في الحصول على المعرفة فحسب، بل صار وسيلة أيديولوجية تسعى إلى قولبة عقول الأفراد، وتحديد منحى سلوكياتهم، وتنظيم انفعالاتهم تجاه مواضيع معينة، وذلك بدفعهم للتفكير بطريقة محددة، ومسايرة معايير وقيم ومعتقدات جديدة، برعت في التسويق لها بأسلوب مقنع وجذاب، يحجب وراءه نوايا خفية تخدم مصالح القائمين على المؤسسات الإعلامية[26] وباتت أساليب الحرب النفسية والدعائية جزءا مهما من عمل الاعلام ومن المحتوى الإعلامي التقليدي والرقمي على حد سواء.
واسلوب إثارة الرعب هو أحد وسائل تغيير الرأي العام، على المستوى المحلي والدولي على السواء، والذي يلعب فيه الاعلام دورا محوريا، من خلال استغلال عاطفة الخوف وحب البقاء المتأصلة في النفس الإنسانية، لإثارة خوف ورعب الراي العام، ومن ثم اضعاف الفئات او الشعوب المستهدفة، واجبارها على الاستسلام لما يفرض عليها من املاءات، واتباع سلوك معين يحقق اهداف الدولة منفذة الاستهداف.
واحد أساليب اثارة الرعب والفوضى، تجربة تنظيم داعش، الذي ارتكب أبشع الجرائم بحق المدنيين الأبرياء، في العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا وبعض الدول الافريقية، وهو ما اثار الرعب والخوف، ومن ثم مهد لتمرير سياسات لم يكن بالإمكان تمريرها دون اثارة هذه المخاوف، مثل عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني، التي كانت احدى ثمار تفريخ تنظيم داعش، الذي اعترفت وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلنتون بانه صنيعة أمريكية.
ومثلما مارست معظم الحكومات الدكتاتورية أسلوب اثارة الرعب لقمع معارضيها وتصفية خصوم السلطة السياسية، كذلك اتبعت قوى الهيمنة العالمية هذا الأسلوب، لإرعاب الراي العام العالمي واخضاعه، ومن ثم الهيمنة على مقدرات الشعوب، وجعلها في حالة عجز واستسلام كاملين، يحولان دون اية مقاومة من قبل تلك الشعوب، مستغلين حاجة الانسان الى الأمان، لإخضاعها وجعلها في حالة انهيار نفسي شامل.
سادسا: أسلوب الشائعات
الشائعة هي الأحاديث والاقوال والاخبار والروايات التي يتناقلها الناس دون تأكد من صحتها، وقد يضيفون اليها بعض التفصيلات الجديدة، وتهدف الشائعة الى التأثير في معنويات الناس، وإرباك الرأي العام وصولا الى تحويل اتجاهاته وميوله، لتحقيق غايات معينة يبتغيها القائمون على اطلاق تلك الشائعات، بل ان الشائعات أصبح لها دور في تغييب الحقائق والتلاعب بعقول الجماهير، وتقديمها للناس على انها حقائق واقعة بدون تقديم دلائل او براهين تثبت صحتها او تؤكد صدقيتها.[27] وأخطر وسائل انتشار الشائعة عندما يكون المستهدفون هم أنفسهم الناقلون للشائعة.
وغالبا ما تكثر الشائعات في اوقات الحروب، والأزمات والتوترات السياسية والاجتماعية والعسكرية والاعلامية، وتأتي في الكثير من الأحوال تحت غطاء مصادر مطلعة او موثوقة او تقارير سرية، ويجري تصوير ان هذه المعلومات قد تم تسريبها لوسائل الاعلام من مصادر مطلعة او موثوقة، والهدف في نهاية المطاف هو التلاعب بالرأي العام [28]. وانتشار الشائعة أصبح أكثر سهولة ويسرا في ظل تطور شبكات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ويعتمد نجاح الإشاعة في تحقيق أهدافها، على مستوى الوعي الجماهيري والمستوى الثقافي، فكلما هبطت إمكانية النقد والتحليل والتقييم لدى الجماهير، كلما ساعد ذلك على إيجاد بيئة صالحة لانتشار الإشاعة ونجاحها، أما أذا كان تفكير الأفراد في المجتمع قائم على الدراسة والنقد الموضوعي، كما هو الحال في المجتمعات الأكثر ثقافة ووعيا، كلما أمكن إفشال الإشاعة وتحطيمها دون أن تحقق أهدافها.[29]
ولم تعد الشائعة تقتصر على الجانب اللفظي المتداول بين الناس في مختلف الأماكن، بل قد تأتي عن طريق الصوت او الصورة او مقاطع الفيديو التي جرى التلاعب فيها، وهي تنتشر مع مستوى التفاعل في وسائل التواصل الاجتماعي.[30] فهناك الصور التي يتم التلاعب بها، ومقاطع الفيديو المفبركة، والوثائق الرسمية المزورة، والبيانات والتغريدات الملفقة، بل يمكننا الحديث عن « شائعات إعلامية» تطلقها بعض وسائل الاعلام، لجس النبض او تحويل الانتباه او للتمهيد لفعل معين، وكلها تعمل عمل الشائعات في استمالة وتحويل اتجاهات الراي العام.
المطلب الثالث: دور الاعلام في صناعة الراي العام.
يعرف الاعلام بانه « تزويد الجماهير بالأخبار الصحيحة، والمعلومات السليمة، والحقائق الثابتة، التي تساعدهم على تكوين رأي في واقعة من الوقائع، او مشكلة من المشكلات، بحيث يعبر هذا الرأي تعبيراً موضـوعياً عن عقلية الجماهير واتجاهاتها وميولها».[31] فيما يعرفه البعض الاخر بانه «عملية الاتصـال التي تتم باستخدام وسـائل الاعلام الجماهيرية التي هي مجموعة معدات ميكانيكية او الكترونية لها القدرة على ايصال الرسائل الاتصالية الى عدد كبير من الناس».[32] فالإعلام علاقة اتصالية تستهدف تزويد الناس بالأخبار والمعلومات والوقائع، التي تساعدهم في تكوين رأي عام سليم لواقعة من الوقائع أو مشكلة من المشاكل، بحيث يعبر هذا الرأي عن عقلية الجماهير وميولهم أزائها.[33]
وإذا كان ما سبق يمثل التعريف الافتراضي او القياسي للإعلام، او ما يجب ان تكون عليه الرسالة الإعلامية، لكن الواقع يقول أشياء أخرى، فبسبب هيمنة قوى محدد ذات اجندات ومصالح سياسية، على المؤسسات الإعلامية، أصبح الاعلام في كثير من الحالات يستخدم كأسلوب من أساليب إدارة الراي العام وفق اجندات المتحكمين بالمحتوى الإعلامي على المستوى الوطني او الدولي، فقد تكون وسائل الإعلام أو الاتصال ذات تبعية تامة للسلطة، فيتم تسخيرها للتعامل مع الرأي العام بما يخدم أغراض السلطة، وقـد تـكـون مـستقلة وتابعة لجهات أخرى متعددة، مثل الأحزاب أو القوى الضاغطة، فنجـد اهتماماتهـا متعـددة، وبالتالي نجد أن الرأي العام متوزعاً بين هذه الاهتمامات المتعددة.[34]
ان التطور العلمي والتقني لوسائل الاعلام، وظهور الإنترنت ووسائل الاعلام الجديد، زاد من تأثير الاعلام على الرأي العام بشكل هائل، وقد انتقل فعل الاعلام من مرحلة توجيه الناس بماذا يفكرون، الى مرحلة توجيههم كيف يفكرون، بمعنى ترتيب أولويات الفرد، ومن ثَم الراي العام، وإعادة صياغة أسلوبه في التفكير والتعاطي مع القضايا والاحداث المحيطة به.
إن وسائل الإعلام حين تتبنى آراء أو اتجاهات معينة، وخلال فترة محددة من الزمن، فإن القسم الأكبر من الجمهور سوف يتحرك في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام، لما لها من قوة وتأثير على الجمهور، وبالتالي يتشكل الرأي بما يتناسق وينسجم في معظم الأحيان مع الأفكار التي تدعمها وسائل الاعلام.[35]
وقد رصدت الباحثة الألمانية اليزابيث نويل نويمان، ثلاث متغيرات أساسية تساهم وتزيد من قوة وتأثير وسائل الاعلام في الراي العام، وهي:[36]
التأثير الكمي من خلال التكرار.
التسيير اللاإرادي للمتلقي والتأثير الشامل عليه.
التجانس والهيمنة الإعلامية.
وفي هذا الإطار، يؤكد المفكر الأمريكي اليساري نعوم تشومسكي، أن الإعلام أصبح واسطة بين السادة وبقية المجتمع، الذي يجب حرمانه من أي شكل من أشكال التنظيم، حيث يجب أن يخضعوا للرسالة الإعلامية، كما عليها أن تجعلهم خائفين طوال الوقت لأنهم إذا لم تتم إخافتهم من كل أنواع الشياطين مثل: الشيوعية، الإسلام، النازية، الإرهاب… فربما يبدؤون بالتفكير، وهذا ما لا تريده الطبقة والسادة.[37]
ان الاعلام وبدل ان يكون أسلوب للتنوير والتثقيف ونشر الوعي، جعله بعض أصحاب الاجندات والممسكين بالسلطتين السياسية والإعلامية أسلوبا للتضليل. وإن تضليل عقول البشر هو، على حدّ قول باولو فرير، (أداة للقهر). إنه يمثل إحدى الأدوات التي تسعى (النخبة) من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة.[38]
ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية، لابد أن يخفي شواهد وجوده، أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، والمقصود هنا أن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا.[39]
ووفقا لنظرية دوامة الصمت، التي طرحتها الباحثة الألمانية اليزابيث نويل نويمان، فان وسائل الاعلام، لا تسيطر على توجيه وتحديد ميول الرأي العام فقط، انما تجبر أصحاب الرأي الاخر على الصمت، خشية التعرض للنقد وربما الأذى في حال مخالفة الراي السائد او الغالب للرأي العام. تقول الباحثة الألمانية في نظريتها، أن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري بشكل عام، تنحاز أحياناً إلى جانب إحدى القضايا أو الشخصيات، بحيث يؤدي ذلك إلى تأييد القسم الأكبر من الجمهور للاتجاه الذي تتبناه وسائل الإعلام، أما الأفراد المعارضون لهذه القضية أو تلك الشخصية، فإنهم يتخذون موقف (الصمت) تجنباً لاضطهاد الجماعة الكبيرة المؤيدة، أو خوفاً من العزلة الاجتماعية.[40] وفي النتيجة تبقى الغلبة للرأي الذي تتبناه وسائل الاعلام، ويبقى هذا الراي يقوى ويسيطر باستمرار.
المبحث الثاني
العدو في السياسة الدولية الامريكية
المطلب الاول: عوامل التأثير في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
تمثل السياسة الخارجية التطبيق العملي لرؤية الوحدة الدولية او صناع القرار فيها، في مجال العلاقات مع وحدات المنتظم الدولي الأخرى، وهي تعكس الاستراتيجية التي وضعها صانع القرار لتحقيق الأهداف، والطريقة التي تسعى فيها الدولة لتحقيق مصالحها القومية، من خلال علاقاتها الدولية الخارجية.
ونظرا لتعقد ظاهرة السياسة الخارجية، وتعدد الأطراف التي تعمل وفقها، فقد تعددت تعريفاتها، ولم يتم الاتفاق على تعريف جامع مانع. فيرنس وريتشارد سنایدر، عرفا السياسة الخارجية بانها “منهج للعمل او مجموعة من القواعـد او كلاهـما، تم اختياره للتعامل مع مشكلة او واقعة معينة تحدث فعلاً او تحدثت حالياً، او يتوقع حدوثها في المستقبل”[41] فالسياسة الخارجية وفق هذا التعريف تعكس منهجية وضعت وفق قواعد ثابتة طويلة الأمد، وليست اجتهادات او ردود أفعال انية،
ويرى (سنايدر) ان الدولة تحـدد بأشخاص صانعي قراراتها من الرسميين، ومن ثم فان سلوك الدولة هو سلوك الذين يعملون باسمها، وان السياسة الخارجية عبارة عـن محصلة لقرارات مـن خـلال اشخاص يتبوؤون المناصب الرسمية في الدولة”[42]
أما الدكتور حامد ربيع فيعرف السياسة الخارجية بانها: “ جميـع صـور النشـاط الخارجي، حتى ولو لم تصدر عن الدولة كحقيقة نظاميـة، أن نشاط الجماعـة كوجـود حضاري، أو التعبيرات الذاتية كصور فردية للحركة الخارجية، تنطوي وتندرج تحـت هـذا الباب الواسع الذي تطلق عليه السياسة الخارجية”.[43]
اما العلاقات الدولية فهي علم من العلوم السياسية، يهتم بدراسة كافة الظواهر التي تتجاوز الحدود الدولية، ومن خلالها يمكن دراسة وتحليل الظاهرة السياسية على المستوى الدولي، بكل أبعادها النظرية والواقعية.
وتعرف العلاقات الدولية بأنها « كافة التفاعلات والروابط المتبادلة؛ سواء كانت سياسية أو غير سياسية بين الكيانات المختلفة في إطار المجتمع الدولي”.[44] وهي لا تقتصر على دراسة وتحليل الجوانب أو الأبعاد السياسية فقط، والعلاقات بين الدول، وإنما تتعداها إلى مختلف الأبعاد الاقتصادية والعقائدية والثقافية والاجتماعية؛ فهي تشمل كل علاقة ذات طبيعة سياسية، أو من شأنها إحداث انعكاسات وآثارٍ سياسية تمتد إلى ما وراء الحدود الإقليمية لدولة واحدة، وتخصُّص العلاقات الدولية يركز على فهم حركة القوى المؤثرة في السياسة الدولية وتفسيرها، اذ تحفل الساحة الدولية في إطار تفاعلاتها بالعديد من التناقضات بين أعضاء المنظومة الدولية، حيث تنوعت ما بين صراعات وأزمات وحتى حروب، الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى حدوث سلسلة من التفاعلات، يترتب عليها نشوء موقفا مفاجئا ينطوي على تهديد مباشر للقيم أو المصالح الجوهرية الدولية.[45] وهنا تمتد السياسة الخارجية الى التعاطي مع المواقف الانية والمفاجئة في العلاقات الدولية، خاصة حين تكون احداث عالية الخطورة والاهمية.
والإدارة الأمريكية تستعين دائماً بشـركات العلاقـات العامة للوصول إلى «صناعة الإجماع» في تنفيذ جميع برامجها الداخلية والخارجية، حيث تقوم هذه المؤسسات في صناعة توجه الرأي العام لتقبل الفكرة وتبنيها، وهذه الفكرة أصلاً هي وليدة الإدارة الأمريكية، وقـد مارست ذلك في لجنة كريل ابان الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وفي حرب الخليج الأولى، وأخيراً في احتلال أفغانستان والعراق.[46]
وقد أضحت إدارة الأزمات الخارجية، أسلوبا مستحدثا في إدارة الصراعات الدولية، لها إستراتيجية محددة تقوم على مجموعة من الأصول والمبادئ الدولية، كما أنها أضحت علما وفنا رفيعا يمارسه قادة الأمم ورجال الدولة بمزيد من المهارات والاحترافية.[47] وظهرت هنا مدارس مختلفة في الدبلوماسية والسياسية الخارجية والعلاقات الدولية، تعكس كل منها طبيعة المجتمع في تلك الدول، ومدى تماسك وضعها الداخلي، وحنكة وكفاءة صناع السياسة الخارجية وإدارة العلاقات الدولية فيها.
ومن العوامل المؤثرة في اتخاذ القرار السياسي الخارجي: طبيعة النظام السياسي والاقتصادي، والأحزاب السياسية، وجماعات الضغط، والرأي العام، حيث يعــد الــرأي العــام، أحــد العوامــل المهمــة بــل والمشــاركة فــي عمليــة صــنع القــرار السياسي، وأن تقنين العلاقة بين الـرأي العـام وصـانعي القـرارات يـؤدي إلـى خلـق التفاعـل الطبيعـي بـين اهتمامـات الـرأي العـام وقراراتـه وقـرارات السـلطة السياسـية، الأمـر الـذي يضـمن الحفـاظ علـى الاسـتقرار السياسـي والاجتمـاعي مـن ناحيـة، وأحـداث التغيـرات المجتمعيـة بطريقـة سـليمة من ناحية أخرى.[48] ولهذا تركز اغلب دول العالم على اقناع الرأي العام، لكي يكون مؤيدا وداعما لقراراتها الخارجية على مستوى العلاقات الدولية، ما يعطي شرعية لهذه القرارات. ولان الاعلام هو احد اكبر العوامل المؤثرة على الراي العام، فأن تنـامي البعد الإعلامي في العلاقـات الدوليـة، يلعـب دورا مهما في توجيه الــرأي العــام المحلــي والــدولي.[49]
المطلب الثاني: صناعة العدو في العلاقات الدولية الامريكية
تمثل فكرة العدو، احدى المرتكزات الأساسية في السياسة الخارجية الامريكية، من اجل ضمان تماسك الجبهة الداخلية، ولتمرير المخططات والمشاريع الاستراتيجية الامريكية على الساحة الدولية، وإذا لم يكن العدو موجودا، فان أمريكا تقوم بصناعة عدو، وشيطنته امام الراي العام المحلي والدولي، باستخدام امبراطوريتها الإعلامية الهائلة.
إن فكرة خلق العدو والصراع معه، فكرة كامنة في جذور الفكر الواقعي الغربي عموما، والأميركي خصوصا، حيث يرى هيغل أهمية الحرب وتأثيرها في الشخصية الفردية وفي المجتمع، فهو يؤمن بأنه بدون احتمال الحرب والتضحيات التي تتطلبها، سيصبح الإنسان لين العريكة ومستغرقا في ذاته، وسيتدهور المجتمع فيصبح مستنقعا لإشباع الملذات الأنانية فتنحل الجماعة وينهار المجتمع نتيجة لذلك.[50]
اما في الفكر السياسي الميكافيلي، فوجود العدو ضرورة، لأنه يعطي مبررات للسلطة السياسية لاستخدام نفوذها بشكل أوسع، وكسب انتماء الناس بحكم التخويف من العدو، الذي يأخذ أشكالاً مختلفة، فقد يكون دولة، أو تعزيز الصراع الطائفي الداخلي، وغيرها من الأساليب التي تجعل الدفة السياسية والإعلامية موجهة للوقوف ضد هذا العدو.[51]
ويرى البعض ان قضية ايجاد العدو في صورة تخطيط سياسي، تعود الى وليو شتراوس مؤسس حركة المحافظين الجدد في أميركا، الذي كان يرى أنه في سبيل ايجاد تماسك في المجتمع الأميركي لابد من وجود عدو ليوحد الأمة الأميركية.[52]
وخلال فترة القطبية الثنائية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كانت فكرة العدو هي المحرك الأساس للعلاقات الدولية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، فالأول كان يعتبر الرأسمالية والامبريالية عدوه الوجودي، قابلته الولايات المتحدة والمعسكر الغربي باعتبار الاتحاد السوفيتي عدوها الاستراتيجي الذي ينبغي توجيه كل الجهود للتخلص منه. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر/ كانون اول عام 1991، فقدت الولايات المتحدة ركيزتها الأساسية لاستمالة الراي العام الداخلي، ولتوجيه سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية.
ان انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتبره الكثيرون بمثابة انتصار كبير للولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين، وتفرد الولايات المتحدة بزعامة العالم في قطبية أحادية بلا منازع، لكن اخرين يرون ان الامر في الحقيقة مثل مازقا جديدا للولايات المتحدة، لأنها فقدت العدو الذي يضمن لها تماسكها الداخلي، ويبقي تحالفاتها حول العالم، لاسيما مع اوربا، التي تريد الولايات المتحدة ابقاءها بحاجة اليها لمواجهة عدو مشترك، وربما أوضح تعبير عن ذلك جاء على لسان ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، حين خاطب الأمريكيين قائلا: « سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من وجود العدو»[53]
في محاضرة له في جامعة بولونيا الإيطالية، بتاريخ 15 مايو أيار 2008، قال الفيلسوف والروائي الايطالي امبرتو ايكو « لننظر إلى ما حدث في الولايات المتحدة حينما اختفت امبراطورية الشر، وبدأ الاتحاد السوفييتي العظيم بالتفكك، كانت أميركا تواجه خطر فقدان هويتها حتى جاء ابن لادن، ومد يده الرحيمة، مما أعطى لبوش فرصة ابتكار أعداء جدد؛ وهذا ما قوّى الشعور بالهوية الوطنية وكذلك سلطة إدارته».[54] فالولايات المتحدة حرصت، بعد انهيار عدوها التقليدي لقرابة نصف قرن، وهو الاتحاد السوفيتي، على ابتكار اعداء يحفظون لها الشعور بهويتها الوطنية المتآكلة، ويحفظ للرئيس سلطة ادارته.
“ الأعداء” الجدد بعد الاتحاد السوفيتي في السياسة الامريكية، هم الصين وروسيا وإيران، وقبلهم كوبا وبنما والعراق وأفغانستان وصربيا وفنزويلا، ففي كل مرحلة تتخذ أمريكا عدوا، بحسب مقتضيات امنها القومي ومصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وهي تصنيفات غير خاضعة للقوانين الدولية، او لثوابت وبرتوكولات السياسات الخارجية للمنتظم الدولي، انما تأتي بحسب ما تقتضيه المصالح الامريكية، داخليا وخارجيا، لضمان تماسك المجتمع الأمريكي الذي هو مجتمع مهاجرين من دول وقوميات واديان مختلفة، لا تجمعهم في العادة سوى المصالح، ولتحقيق المصالح الجيوسياسية الامريكية حول العالم، والى ذلك يشير بيار كونيسا في كتابه « صنع العدو او كيف تقتل بضمير مرتاح» حيث يقول « يمكن لصناعة العدو ان ترسخ الأواصر الجمعية، ويمكن ان تكون مخرجًا بالنسبة الى سلطة تواجه مصاعب على الصعيد الداخلي.[55] ومعروف ان الولايات المتحدة غالبا ما تهرب من مشاكلها الداخلية وازماتها عبر افتعال أزمات خارجية، او شن حروب على دول أخرى، فالسياسة الخارجية الامريكية الخارجية تعتمد على القاعدة القائلة بأن الطرف المناهض للدور الأمريكي الكوني، لا المهدد للأمن القومي الأمريكي فحسب. هو بمثابة العدو.[56] فلا يشترط صدور عمل عدائي او حتى تهديد به من الدولة كي تصنف في خانة الأعداء، يكفي ان أصحاب القرار او صناع السياسات الأمريكان يعتقدون ان تلك الدولة مناهضة للدور العالمي للولايات المتحدة، او ترفض الخضوع لإرادتها، لتصبح في خانة الأعداء، وتتم شيطنتها واستهدافها بكل الأسلحة الممكنة سياسيا واقتصاديا واعلاميا وحتى عسكريا ان تطلب الامر.
ويذهب وزير الخارجية الأسبق، واحد مخططي السياسات الخارجية الامريكية هنري كيسنجر، إلى أن وجود العدو يعمل على تقليل مظاهر الغموض أو التناقض الذي تقع فيه الإستراتيجية عندما تفتقد الهدف الذي ينبغي أن تتعامل معه، معتبرا أن تمييز العدو أسهل من تمييز الصديق، والتعامل مع الأول – أي العدو - وسيلة لتوضيح طموحات الإستراتيجية والحصول على الدافع الأساس للتحرك بشكل مكثف في إطار السياسات العالمية.[57]
ان الواقع السياسي الدولي لعالم ما بعد الحرب الباردة، واختفاء العدو، وهو الاتحاد السوفيتي، جعل الإستراتيجية الأميركية تفتقر إلى الرؤية اللازمة للتحرك الخارجي، وهو ما عبر عنه هنري كيسنجر بقوله «إن هناك مشكلة عقلانية عميقة في السياسة الخارجية الأميركية اليوم، فغياب تهديد منفرد وساحق مثل التهديد الذي واجهته في سنوات الحرب الباردة، يجعل الولايات المتحدة تفتقد الاتجاه الذي تسلكه».[58]
ان الاختلالات التي تعاني منها البنية المجتمعية الامريكية، تمثل عامل قلق دائم للنخبة السياسية وصناع القرار في الولايات المتحدة، تدفعهم باتجاه البحث عن محفزات تحافظ على الوحدة المجتمعية، حتى لو كانت ادعاءات وهمية او أسباب مصطنعة، قائمة على أكاذيب يتم تسويقها إعلاميا، لخداع الرأي العام الأمريكي، وتشتيت انتباهه عن المشاكل والتحديات الداخلية، وهو أسلوب قديم استخدمته الكثير من القوى الاستعمارية على مر التاريخ، لاستمالة الراي العام صوب « عدو متربص» يحاول الانقضاض على بلدهم، اما للهروب من مشاكل داخلية، او للحصول على شرعية جماهيرية يفتقدونها، او لتبرير طموحاتها في الهيمنة على مصائر الشعوب، فالدول الاستعمارية عملت باستمرار على خلق أعداء أو تضخيم خطر منافسين سياسيين واقتصاديين، بشكل يوحي إلى أن بقاء هذه الكيانات مرتبط ببقاء أعدائها حتى وإن كانوا وهميين، وهو تماما ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم «خلق العدو الوهمي».[59]
وتحت ضغط هذه الحاجة الجوهرية، تصدى مفكرون أميركيون يرتبطون بدوائر إستراتيجية وسياسية أميركية، لوضع نظريات مستقبلية في مضامين وشكل وخواص الصراعات الدولية القادمة، لا سيما بعد زوال الخطر السوفياتي (العدو) الذي كان السلعة التي تروجها الولايات المتحدة، ومن هنا جاءت فكرة خلق تحدٍّ من نوع جديد، استجابة لمحاولة تجنب المجتمع الأميركي لحالة الانهيار، وتراجع التأثير النسبي المتوقع لمكانة الولايات المتحدة في حال غياب عدو يساعد على تقوية اللحمة بين أفراده.[60]
ولم تجد أمريكا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أفضل من أسامة بن لادن، الذي كانت المخابرات المركزية الامريكية قد جندته ودعمته لاستنزاف الاتحاد السوفيتي بعد غزوه لأفغانستان في 25 ديسمبر/كانون الأول عام 1979، وحتى اجبر على الانسحاب منها في 15 فبراير/شباط عام 1989، ثم عادت لتحول بن لادن الى عدو مع تنظيمه» القاعدة “ الذي تأسس في العام 1989، من شبكة من المتطوعين العرب الذين ذهبوا إلى أفغانستان في الثمانينيات للقتال “ تحت راية الإسلام “ ضد “ الشيوعية السوفيتية “. حيث اكدت وسائل اعلام عالمية ان بن لادن ومقاتلوه تلقوا آنذاك تمويلًا أمريكيًا وسعوديًا، ويعتقد بعض المحللين أن بن لادن نفسه تلقى تدريبات أمنية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.[61] والامر هنا لا يتوقف عند الولايات المتحدة، بل ان سقوط الاتحاد السوفيتي أفقد بن لادن أيضا العدو الذي يجمع تحت راية محاربته خليطا غير متجانس من المقاتلين العرب والافغان وغيرهم، ليتمرد على الولايات المتحدة ويعلن الحرب ضدها في مرحلة لاحقة.
إن إتساع حجم التدفقات المعلوماتية الجديدة جعلت العملية الإعلامية بيد الأكثر قدرة على التحكم في مصادرها، وأهم من ذلك فإن أثار التحكم في المعلومات وتدفقاتها على العملية السياسية داخليا وخارجيا أصبحت على درجة كبيرة من التعقيد والخطورة، وإن قوة امتلاك المعلومة وسلطة إخضاع الإعلام تجعل التأثير في الرأي العام عملية سهلة وهذا هو الأسلوب الذي تعتمد السياسة الأمريكية في تسيير القضايا الإستراتيجية كالحروب نتيجة تمركز المعلومات لدى المصادر العسكرية أو السياسية.[62]
المؤسسات الإعلامية الامريكية ليست فقط أداة توجيه واستمالة، بل هي كيانات لها دور فعال وقوي في السياسة الأمريكية والدولية بصفة عامة.[63]
ويؤكد تشومسكي على أن الطبقة المتخصصة من الرجال المسؤولين يستعينون من أجل ترويض القطيع التائه كما أسماه بفن الديمقراطية أو تصنيع الإجماع والقبول، وذلك عبر وسائل الإعلام والمدرسة ووسائل الثقافة الشعبية، ذلك بغية تحويل انتباهه لأمور أخرى وجعله خارج نطاق دائرة المشاكل، والتأكد من أنه سيحتفظ بمكانه في مقاعد المشاهدين بالفعل.[64].
إن الإعلام الأمريكي يصوغ المواقف والاتجاهات. وقد أكد العديد من الباحثين على حجم تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام وعلى رأسهم عالم السياسة هارولد لازويل الذي وضع على عاتقه دراسة هذا التأثير وقوته وحجمه من خلال أسئلة المنهجية التي أصبحت أساسا لدراسة وسائل الإعلام عامة.[65]
المطلب الثالث: دور الاعلام الأمريكي في صناعة العدو
يلعب الاعلام دورا فاعلا في السياسة الخارجية للدول، والتي تبنى وفق المعطيات الإقليمية والدولية، ويهدف إلى التأثير في مضمون الخطاب السياسي في العلاقات بين الوحدات الدولية، فمن خلل الاعلام يستطيع صناع القرار من توضيح وترجمة خطواتهم في السياسة الخارجية وايصال آرائهم.[66]
ولان الولايــات المتحــدة تشــتهر بــذكاء في استخدام الإمكانيــات الإعلامية لديها، فقد استغلتها كثيرا في صناعة العدو وشيطنته، ســواء فــي المغالاة في تضخيم العدو « الخصم المستهدف»، أو إعداد المسرح الدولي والرأي العام الداخلي الدولي لكـى تتقبـل هـذه الـدول والرأي العـام فيهـا، مـا سـتقدم عليـه الولايـات المتحـدة من إجراءات في مواجهة العدو المفترض، مثلما فعلت مع العراق وكوريا الشمالية وايران وسوريا بادراجها ضمن محور الشر، او اتهامها بخرق حقوق الانسان مثل الصين، مقابل التغاضي عما يفعله حلفاءها من خروقات للقرارات والشرعية الدولية مثل إسرائيل.[67]
ويُعد الأعلام بوسائله المختلفة أداة مهمة من أدوات الصراع وتصادم المصالح الذي ميز العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، فالطبيعة الأيديولوجية التي ميزت المرحلة اللاحقة أدت إلى زيادة الجهود التي بذلتها القوى العظمى من اجل التأثير المباشر في الأراء السياسية والتوجهات العامة للشعوب، لهذا استخدمت وسائل الأعلام وعلى نطاق واسع في مجالات الحرب النفسية والدعاية من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.[68]
ويشير هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الى اهمية الاعلام في السياسة الخارجية بالقول « إن تنفيذ السياسة الخارجية يجب أن يكون مرتبطا بأجهزة الاعلام، فهي الى حد كبير سياسة خارجية إعلامية جماهيرية او شعبية.[69]
والملاحظ أنه كلما أرادت الحكومات الأمريكية القيام بأي خطوات كبيرة على الساحة الدولية، تبدأ أولا بقياس نبض الشارع الأمريكي، واستمالة الرأي العام الداخلي والخارجي، من خلال تقارير إخبارية، وبرامج وثائقية وسياسية حول ما ستقدم عليه. وبعدما تطمئن إلى استقرار الأمر لها تقدم على اتخاذ قرارها سواء كان سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا أو استراتيجيا، فالإعلام بوسائله أضحى عنصرا لا غنى عنه في مجال السياسة الخارجية.[70]
تؤدي وسائل الإعلام الأمريكية وظائف متعددة في عملية تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية عبر وسائل مختلفة، وتأتي في مقدمة هذه الوسائل الصحافة، فهي من ناحية يستخدمها صانعو القرار السياسي لتفسير مواقفهم وسياساتهم وجمع التأييد لمواقفهم الحكومية، وفي إيصال آراء قادة الرأي وجماعات المصالح والجمهور بصفة عامة الى القادة الحكوميين وصانعي السياسة، ومن ناحية اخرى يمكن من خلالها ممارسة الضغط على صانعي السياسة عِبر جماعات الضغط والمصالح المؤثرة فيها، ومن خلال دورها في تشكيل الرأي العام.[71]
ويرى الكثيرون ان الإعلام الأمريكي الذي يقول انه يسير وفق نظرية الإعلام الحر، إلا إنه من جانب آخر هو إعلام سلطوي يلبي رغبة السياسة الخارجية وتتحكم به الحكومة الأمريكية دائماً، وهو بذلك يكرر أسلوب الإعلام الرسمي الموجه الذي اعتمدته الدول الشمولية والإتحاد السوفيتي السابق تحديدا.[72]
إن وسائل الإعلام الأمريكية من خلال تعاملها مع بعض القضايا هي وسائل منحازة من خلال نظرتها الى هذه القضايا من منظار المصلحة الأمريكية، فهي تعتمد نوعاً من الإنتقائية من خلال الفرز الآلي للأخبار والأحداث، فما يتفق منها مع السياسة العامة للدولة يصبح خبراً ويُعد حقيقة يؤخذ بها، وما يخالف التوجهات السياسية الخارجية يصبح دليلاً على ان الخصم يمثل تهديداً للمصلحة القومية العليا، مما يتطلب مواجهته والحد من خطورته.[73]
الكاتب (ميشال بوغنون ) يوضح هذه الفكرة بالقول « أن الولايات المتحدة بارعة في صناعة الرأي العام وقولبة تفكيره وتنميط مواقفه ، وهم مدينون بذلك لخبرتهم الطويلة في مجال الإعلان والدعاية واحتكار كبريات وكالات الصحافة الدولية ، وقوتهم المالية ، فضلاً عن الدور المؤثر الذي تلعبهُ ( هوليود ) صاحبة المدافع الإعلامية الكبيرة العابرة للقارات في هذا المجال ، فالسياسة الأمريكية قد تصنع أحياناً في هوليود بدلاً من واشنطن».[74]
وهكذا كانت صناعة العدو، تبدأ بكذبة سياسية واستخبارية في اكثر الأحيان، يعقبها تطبيل وتضخيم اعلامي، احد الاستراتيجيات التي تبنتها الولايات المتحدة، وتمكنت من تمريرها وسط ضغوط وتهديدات سياسية واقتصادية وإعلامية وعسكرية شديدة.
أن وسائل الإعلام تؤدي وظائف مختلفة في تنفيذ السياسة الأمريكية، ويأتي في مقدمتها أن هذه الوسائل قنوات غير شخصية يستخدمها صانعو السياسات الحكومية في تأدية أدوار مهمة في تشكيل وتكوين الرأي العام حول قضايا السياسة الأمريكية.[75]
ولان الولايات المتحدة الامريكية الصانعة الأولى للإعلام في العالم، فهي تملك أضخم المؤسسات والشركات الإعلامية على المستوى الدولي، وتتحكم في أغلبية الأخبار عبر العالم من خلال أقمارها الصناعية وشبكاتها الإخبارية، كما أن صناعة الإعلام تعد رافدا اقتصاديا مهما وأداة سياسية قوية تعتمدها بشكل ذكي للسيطرة على مسار الأحداث عبر العالم وخلقها إن استدعت مصلحتها ذلك.[76]
كما ان الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك الإعلام العالمي من خلال مؤسسات إعلامية ضخمة، وهذا يخدم مصالح السياسة الخارجية الامريكية عندما تحاول تمرير أي قرار دولي ضمن منظومة الأمم المتحدة، وهذه المؤسسات الإعلامية تقوم بدعمه عن طريق استمالة الرأي العام الدولي، وتوجيه الرأي العام الداخلي الأمريكي.[77]
في كتابه (المتلاعبون بالعقول) يقول استاذ وسائل الاتصال في جامعة كاليفورنيا الأمريكي هربرت شيللر، « يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسسٍ لعمليةِ تداولِ (الصورِ والمعلوماتِ)، ويشرفون على معالجتها، وتنقيحها، وإحكامِ السيطرة عليها. تلك الصور والمعلومات التي تُحدّد معتقداتِنا، ومواقفَنا، بل وتحدّد سلوكنا في النهاية».[78] وهذه الإجراءات ليست عفوية، او اجتهادات خاصة من المؤسسات الإعلامية الامريكية، وانما هو تنسيق مسبق، وان بدت وسائل الاعلام في تنافس بين بعضها البعض، لكنها في الحقيقة تتفق في القضايا الاستراتيجية. وهكذا فان المادة الإعلامية الامريكية، مادة محضرة ومعدة لخدمة اهداف السياسية الامريكية، سواء من خلال اختيار الخبر والمعلومة والمشهد، او من خلال إخراجه والتعليق عليه، وربما من خلال اختلاقه أساسا.[79]
ويقوم الإعلام الأمريكي بتشكيل حالة الهيمنة، من خلال فرض أحادية الموقـف والأفكار، التي يتعرض المتلقـي السلبي، لذلك أصبح الإعلام في الولايات المتحدة من أهم وسائل الهيمنة، والتي قد تتحول وتتطور وتقوم بتعبئة الرأي العام بحسب تقلبات الأوضاع، فخلال أزمة الخليج وحربها، حققت إدارة بوش حالة الهيمنة الإعلامية، من خلال نجاحها في تنفيذ سياستها الحربية وتسويقها إلى الجمهور، وبالرغم من وجود معارضة لسياسة إدارة بوش، إلا أنه قد تم تهميشها في وسائل الإعلام المهيمنة وإجبارها على التزام الصمت، وتكرر نفس المشهد بعد أحداث أيلول ،٢٠٠١ حيث أن الإعلام توجه بعد تفجير مبنى البنتاغون ومبـنى التجارة العالمي، وبشكل مباشر إلى تشويه صورة العرب والمسلمين، وتم التعامل معهم بطرق غير لائقة إنسانياً في أمريكا وفي أوروبا، بل أن أي شخص يصبح متهماً ومشكوك فيه فقط لأنه عربي أو مسلم، لقـد كان الإعلام الأمريكي حريصاً على تعبئة الرأي العام الأمريكي ضد العرب والمسلمين من خلال ما ذكرناه سابقاً من «صناعة الإجماع».[80]
يقول الباحث والأكاديمي والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا، في كتابه « صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح: ينبغي حشد الرأي العام ضد عدو معين، وأن صناعة هذا العدو تتطلب مراحل عدة، هي: [81]
أيديولوجيا استراتيجية محدَّدة.
خطاب اعلامي (يبنى على أساس هذه الأيديولوجيا).
صنّاعَ رأي (المحدِّدين للعدو لدى الراي العام).
آليات صعود نحو العنف.
وتتم عملية صناعة العدو على مرحلتين، الاولى تقوم على اقناع مختلف فئات الراي العام ان لها عدواً مشتركاً في نفس مصالحها، لدفعها الى تقبل برنامج مشترك لمواجهته، وتقوم المرحلة الثانية على تقوية الكره ضد هذا العدو، وذلك باللجوء الى اليات الشيطنة والاسقاط، مما يجعلهم يعتقدون ان هذا العدو ليس عدوهم فقط، بل ان انه الشر المتجسد[82]
يقول الفيلسوف الأمريكي، سام كين، أنه يكفي أن « ترسم على وجه عدوك الجشع والمكر والحقد والقساوة، قم بالتغطية على كل ملامحه التي قد تجلب التعاطف معه، بالغ في تصوير خطر كل سماته الإنسانية حتى يتحول إلى وحش قاتل، عندما تكتمل هذه الصورة في أذهان الجمهور، حينها يمكنك قتل عدوِّك «.[83]
إن الأعداء الذين يتم صناعتهم من قبل الفئات القاهرة هم أعداء من إبداعات الخيال، إما من أجل الحفاظ على هويات مبنية على أسس غير عادلة كانت قد تشكلت في فترة تاريخية معينة أو لإظهار التفوق الأناني الناتج عن عدم وجود مدعاة تاريخية للفخر لدى الفئة القاهرة أو حتى اتساخ تاريخها بالدماء. إنها فئات لا تملك السببية الأخلاقية لسلوكها، وحقيقة استمراريتها لا ترتبط سوى باستمرار فكرة «العدو».[84]
ويجب التفريق هنا بين وجود الأعداء الذين يشكلون خطراً على وجودنا بمحاولاتهم الحثيثة الانقضاض علينا وهي ظاهرة طبيعية معروفة منذ القدم وبين مسار خلق الأعداء وانتاجهم من خلال الشيطنة وتصوير الخطر المبالغ فيه وغيرها من الأساليب.[85]
وينقسم الأعداء إلى قسمين: عدو داخلي وآخر خارجي. وفي حالة عدم وجود العدو الداخلي، تلجأ معظم الأنظمة عبر التاريخ للبحث عنه وخلقه لتبرير مختلف القرارات التي يتم اتخاذها والتي قد لا تحظى بشعبية كبيرة. ويتم خلال مسار خلق العدو الداخلي شيطنة الخصوم السياسيين المنافسين المحتملين على السلطة أو فئاتٍ اجتماعية بعينها.[86]
ان رفع شعارات المواجهة مع العدو تلهب حماس الجماهير وتستثير مشاعرهم وتجمعهم نحو هدف واحد، وتصرفهم عن بحث ومناقشة قضاياهم وازماتهم ومشاكلهم الحقيقة، وتسمى عملية الاستثارة تلك سيكولوجياً بتحويل الهدف.[87]
عندما يتحدث أحدهم عما يُطلق عليه لفظة العدو الوهمي، فهو يتحدث عن ذلك الخطر الضبابي والموت المزيف الذي يُخاتِل بالتسلط على الشعوب والفتك بها إن هي لم تساند الحكومات في القضاء عليه، فهو ذلك الشبح الخفي الذي يخشاه الجميع من غير أن يشاهدوه حقيقةً، ولكن تواترت الأخبار عن وجوده وإن لم يكن موجودا. بدأ هذا المفهوم يتحول إلى واقع عملي عند محاولة توحيد الصف الداخلي بافتراض أن هناك خطر قادم يستوجب من الجميع الانتصاب صفا واحدا في مواجهته.[88]
ويبدو ان موضوع صنع العدو يتجاوز حدود الحاجة السياسية في المنهجية الامريكية، حيث يرى البعض انه بات يمثل ثقافة مجتمعية رسختها أفلام هوليود، وعمقتها وسائل الاعلام والدعاية الامريكية، ومن اهم المآخذ التي تركتها الثقافة الامريكية على صناع القرار السياسي الامريكي، انها رسخت عندهم، ضرورة وجود «عدو خارجي» لغرض تحشيد الطاقات والهمم، من اجل تماسك المجتمع، وربما يكون سبب هذا التوجه لصنع العدو، الأساس التاريخي الذي نشأت عليه هذه الدولة.[89] فالولايات المتحدة كما هو معروف هي دولة مهاجرين، أي انها تفتقد الى المشتركات المجتمعية التي تعزز الوحدة الداخلية، وبالتالي كانت تحتاج على الدوام الى صنع او ابتكار عدو يمكن ان يحقق اللحمة المجتمعية، وعمقت هذه المنهجية النشأة التاريخية للولايات المتحدة، فأول الأعداء كانوا سكان البلاد الأصليين وهم الهنود الحمر، الذين تم القضاء عليهم بشكل شبه تام باعتبارهم اعداء ، ثم حرب مع أعداء جدد منهم المستعمر البريطاني، والمستعمر الاسباني، ثم انخرطت الولايات الامريكية في حروب أهلية فيما بينها، حتى توحدت في نهاية المطاف لتشكل الولايات المتحدة، لكن محركات الصراع العنيف بين السود والبيض ظلت تلقي بضلالها على المجتمع الأمريكي، ومازالت تتفاعل حتى الان، وتعود الى السطح بين فترة وأخرى، ثم انخرطت أمريكا في حروب متتالية مع أعداء خارجيين في الحرب العالمية الثانية، اليابان وألمانيا وإيطاليا.
ومن الصناعات الملحقة بصناعة العدو، ما يمكن أن يطلق عليه (صناعة المبالغة)، حيث يسود الخطاب المرئي والمكتوب التهويل والمبالغة حول مدى القدرات الأمريكية التي بإمكانها أن تصل إلى كل مكان.[90] وفي هذا الموضوع، تستعين الولايات المتحدة بهوليود، اكبر مكان في العالم لصناعة الأفلام، والتي تقوم بإظهار المقاتل الأمريكي على انه مقاتل اسطوري، لا يتسلل الخوف الى قلبه، وهو قادر على اختراق كل الحصون ودفاعات الخصوم، ويتقن استخدام كل الأسلحة لسحق العدو، بما فيها الطائرات والدبابات والأنظمة الالكترونية الحديثة، بما رسخ في العقول القوة الخارقة للولايات المتحدة، وامكاناتها العسكرية في هزيمة الأعداء، باعتبارها القوة الأكبر والاضخم في العالم، التي لا تقهر.
الخاتمة:
تبين من خلال البحث، ان صناعة العدو باتت تمثل منهجا أساسيا، واسلوبا واضحا، في السياسة الخارجية الامريكية، في بناء العلاقات الدولية، فبدون وجود العدو، حقيقيا كان ان مصطنعا، سوف تتعرض الجبهة الداخلية، الى الترهل وربما التفكك، خاصة في الدول ذات الهجين الاجتماعي الهش وغير المتماسك، كما ان الرغبة الامريكية في الهيمنة على العالم، خاصة بعد سقوط القطبية الثنائية وتفردها بالقطبية الأحادية في العالم، وان الولايات المتحدة ان لم تجد عدوا حقيقيا يهدد مصالحها وامنها القومي، كما كان الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، فانها تلجأ الى خلق عدو وهمي، وشيطنته وتضخيم ما تسميه بالخطر الذي يمثله للأمن القومي الأمريكي، ومن ثم جعله مرتكزا لتحشيد، بل وحتى ابتزاز الحلفاء، للوقوف معها فيما تطبقه من سياسات، باسم النظام الدولي وحقوق الانسان، وهي في الحقيقة تمثل خرقا للقوانين والأعراف الدولية.
[1] ابراهيم انيس واخرون، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية - مكتبة الشروق الدولية، ط4، 2004، ص320.
[2] المصدر السابق، ص629. ينظر ايضا المعجم العربي الاساسي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بلا تاريخ طبع، ص869.
[3] د زهير عبد اللطيف عابد، الرأي العام وطرق قياسه، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، 2014، ص 26-27.
[4] د. صادق اسود، الراي العام والاعلام، مديرية التوجيه المعنوي، وزارة الدفاع، 1990، ص29.
[5] غواشة محمد حقيق، الرأي العام بين الدعاية والاعلان، الجامعة المفتوحة، طرابلس، 1994، ص15.
[6]w .Albig, Modern Public Opinion, (New York: Mc Graw Hill,1956),p6.
[7] د. علي شمبش، العلوم السياسية، منشورات المنشاة العامة للنشر، طرابلس، 1982، ص70.
[8] علي بسيوني، الرأي العام مقوماته واثره في النظم السياسية المعاصرة وتأثيره في نظم الحكم، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية، 2014، ص7.
[9] زهير عبد اللطيف، مصدر سابق، ص28.
[10] عبد الرزاق الدليمي، الدعاية والشائعات والرأي العام رؤية معاصرة، اليازوري، عمان، 2015، ص196.
[11] المصدر السابق، ص196.
[12] د. ياسر عبد التواب، كيف يُصنع الرأي العام؟، المعهد المصري للدراسات، 16 نوفمبر، 2018،
[13] د زهير عبد اللطيف عابد، مصدر سابق، ص78.
[14]Robert Entman. Framing: Toward Clarification of a Fractured Paradigm. Journal of Communication. Vol. 43. No. 4. 1993. P. 52.
[15] د زهير عبد اللطيف، مصدر سبق ذكره، ص78.
[16] جمال الاسدي، الدعاية والاتصال، دار أفكار للدراسات والنشر، دمشق، 2012، ص23:
[17] مصطفى مراح، المعالجة الإخبارية التلفزيونية بين المهنية وتضليل الرأي العام، مجلة مصداقية، المجلد الاول، العدد2، كانون الثاني 2020، ص84.
[18] المصدر نفسه، ص84.
[19] د زهير عبد اللطيف، مصدر سبق ذكره، ص79.
[20] د. سلافة فاروق الزغبي، فلسفة الإعلام الأمريكي والشبكات الفضائية، مجلة الباحث الإعلامي، العدد 8، اذار 2010، ص130.
[21] د سالم خطاب أسعد، الاعلام وصناعة الرأي العام - دراسة وصفية لأساليب ومسالك صناعة الرأي العام، مجلة آداب الفراهيدي، العدد 17، كانون الأول 2013، ص493.
[22] مصطفى النجار، اختطاف العقل وتحويل انتباه الجماهير، صحيفة الشروق، 21 مارس 2014،
[23] عمر العمري، صناعة الأزمة.. سلاح فتاك، صحيفة عكاظ، 8 شباط 2020،
[24] د. ادريس لكريني، الإدارة بالأزمات.. السياق والمخاطر، مجلة مع المواطن، 1 اب 2016،
[25] د. إدريس لكريني، التفاهة.. وتصريف الأزمات، موقع المرصد، 25 شباط 2023،
[26] أ. أحمد اسماعيلي، أيديولوجيا الإعلام الجديد والوعي الزائف مقاربة في استراتيجيات الإقناع وصناعة الواقع، مجلة الدراسات الإعلامية - المركز الديمقراطي العربي- برلين- ألمانيا- العدد الثامن، اب 2019،ص69.
[27] د. هايل ودعان الدعجة، الاشاعة وتضليل الراي العام، موقع عمون، 8 اب 2009،
[28] د سالم خطاب أسعد، مصدر سابق، ص492.
[29] د. عبد الله محمد اطبيقة، تاثير وسائل الاعلام على الراي العام الاشاعة نموذجا، مجلة الحكمة للدراسات الإعلامية و الاتصالية، المجلد 2017، العدد 10(s) (30 يونيو/حزيران 2017، ص290.
[30] راشد الشيذاني، أثر الشائعات في تشكيل الرأي العام، صحيفة عمان، 5 حزيران 2023،
[31] د. احمد بدر، الرأي العام طبيعته وتكوينه، مكتبة الأنجلو المصرية، ط،2 القاهرة، ،1987 ص162.
[32] د. صالح ابو اصبع، الاتصال والاعلام في المجتمعات المعاصرة، دار مجدلاوي للنشر، عمان، ط4 ، ،2114 ص 19.
[33] د. حسن سعد عبد الحميد، مكانة الإعلام في السياسة الأمريكية، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 4. ديسمبر 2015،
[34] كامل خورشيد مراد، مدخل الى الراي العام، دار المسيرة، عمان، ط1، 2011، ص111.
[35] د. هيثم عبد الرحمن السامرائي، دور الاعلام في صناعة الرأي العام، مجلة شؤون اجتماعية، العدد ،137، 2018، ص215.
[36] د. هيثم عبد الرحمن السامرائي، مصدر سابق، ص216
[37] المصدر السابق، ص216.
[38] هيربرت شيللر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، الكويت، اذار 1999، ص5.
[39] المصدر السابق، ص5.
[40] د. هيثم عبد الرحمن السامرائي، مصدر سابق، ص215.
[41] د محمد السيد سليم، تحليل السياسة الخارجية، ط2، القاهرة، 1998، ص11.
[42] د. احمد النعيمي، السياسة الخارجية، دار زهران للنشر والتوزيع، عمان، 2010، ص20.
[43] د محمد السيد سليم، مصدر سابق، ص7.
[44] هايل عبدالمولى طشطوش، مقدمة في العلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية، جامعة اليرموك، الأردن، 2010م، ص: 12، 13.
[45] عبد الحق بن جديد، «الاتصال وإدارة النزاعات الدولية»، مجلة العلوم الإنسانية، العدد الحادي عشر، بسكرة: جامعة محمد خيضر، ماي 2007، ص.82.
[46] د. سلافة فاروق الزغبي، مصدر سابق، ص133.
[47] د. حيتامة العيد، د. زناندة أمينة، إدارة الأزمة من منظور العالقات الدولية: دراسة تأصيلية نظرية، المجلة األفريقية للدراسات القانونية والسياسية، جامعة أحمد دراية، ادرار– الجزائر، مجلد 4، عدد1، كانون الثاني 2020، ص104.
[48] احمد عارف الكفارنة، العوامل المؤثرة في عملية اتخاذ القرار في السياسة الخارجية، مجلة دراسات دولية، العدد 42، ص26.
[49] احمد عارف الكفارنة، مصدر سابق، ص27
[50] خالد المعيني، إيران في نظريات صنع العدو الأميركية، موقع الجزيرة، 12 اب 2010،
[51] محمد فهد الحارثي، كذبة «العدو» التي صدقت، صحيفة البيان، 06 أغسطس 2014،
[52] محمد فهد الحارثي،مصدر سابق.
[53] بيار كونيسا، صنع العدو او كيف تقتل بضمير مرتاح، ترجمة نبيل عجان، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، ط1، 2015،ص14.
[54] امبرتو ايكو، ابتكار العدو، ترجمة دايس محمد، موقع حكمة، ص2،https://hekmah.org ص2. حكمة، و، ترجمة دايس محمد،
[55]بيار كونيسا، مصدر سابق، ص16.
[56]G.wein berger and p.schwige ,The next war ,N-y ,1996,pp-21-28.
[57] سعد سلوم ، العقل الأمريكي تخيل القوة ، مجلة النبأ ، العدد77، بغداد ، حزيران 2005م ، ص 72 .
[58] خالد المعيني، مصدر سابق.
[59] عصام غالب عواد، خلق الأعداء كما نرغبهم، هندسة عقول المجتمعات والمجموعات، وكالة وطن للانباء، 14 /1 /.2022،
[60] خالد المعيني، مصدر سابق.
[61]Al-Qaeda’s origins and links - Middle East , BBC News,July,20,2004, http://news.bbc.co.uk
[62] شيماء الهواري، وسائل الإعلام وصنع السياسية الأمريكية، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 19. أكتوبر 2017،
[63] المصدر نفسه.
[64] شيماء الهواري، مصدر سابق.
[65] المصدر نفسه.
[66] د. أثير ناظم الجاسور، السياسة الخارجية: المفهوم والأدوات، مجلة قضايا سياسية، العدد 53، 2018، ص238.
[67] احمد عارف الكفارنة، مصدر سابق، ص27.
[68] د. حسن سعد عبد الحميد، مصدر سابق.
[69] سليم كاطع علي، وسائل الاعلام والسياسة الخارجية الأمريكية، شبكة النبأ المعلوماتية، 02 شباط 2017،
[70] شيماء الهواري، مصدر سابق.
[71] سليم كاطع علي، مصدر سابق.
[72] سليم كاطع علي، مصدر سابق.
[73] المصدر نفسه.
[74] د. حسن سعد عبد الحميد، مصدر سابق.
[75] المصدر نفسه.
[76] شيماء الهواري، مصدر سابق.
[77] المصدر نفسه.
[78] هيربرت شيللر، مصدر سابق، ص5.
[79] د. سلافة فاروق الزغبي، مصدر سابق، ص132.
[80] د. سلافة فاروق الزغبي ، مصدر سابق.ص133
[81] بيار كونيسا، مصدر سابق، ص17.
[82] محمد ابراهيم عبد الله ومهدي ملا محمد، الدعاية السياسية واثرها في تشكيل الراي العام، مجلة جامعة بابل، العلوم الإنسانية، المجلد 20، العدد 3، 2012.
[83] البشير محمد لحسن، دليل صناعة الأعداء.. مقاربة نظرية، المركز العربي للبحوث والدراسات، 16/يوليو/ 2019،
http://www.acrseg.org/list.aspx?r=24713 ،
نقلا عن كتاب شيطنة العدو سام كوين 1930.
[84] عصام غالب عواد، مصدر سابق.
[85] البشير محمد لحسن، مصدر سابق
[86] المصدر نفسه.
[87] ثروت البطاوي، صناعة العدو: خديعة الأنظمة العربية للبقاء والتمدد، موقع رصيف 22، 19 ديسمبر 2016،
https://raseef22.net/article/85118
[88] بندر فراج، العدو الوهمي.. سبيل التحكم والسيطرة، موقع قناة الجزيرة، 29/1/2017،
https://www.aljazeera.net
[89] د حميد حمد السعدون، السلوك السياسي الخارجي الأمريكي ومرتكزاته الثقافية، المجلة السياسية والدولية، المجلد 2012، العدد 21، 31 اب 2012، ص8.
[90] سعد سلوم ، مصدر سابق.