تاريخ التقديم 10/5/2023            تاريخ القبول 16/8/2023        تاريخ النشر 25/10/2023

 DOI 10.61279/pbqjg508

حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية

حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف

حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)

CC BY-NC-ND 4.0 DEED

Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University

Intellectual property rights are reserved to the author

Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)

Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International

For more information, please review the rights and license

طبيعةُ قواعدِ الإثباتِ في الدعوى الإداريّةِ

The nature of Evidence Rules in Administrative Case

 

 

م. سيف علاء حسين العبيديّ

جامعةُ الإمامِ جعفرٍ الصادقِ (عليه السلامُ)

Lec. Saif Alaa Hussein

Imam Ja`afar Al-Sadiq University

saif.alaa1988@gmail.com

المستخلّصُ :-

تدورُ فكرةُ هذا البحثِ حولَ طبيعةِ الإثباتِ في الدعوى الإداريّةِ منْ حيثُ أنّ قواعدَ الإثباتِ هي الوسيلةُ الّتي يتوصّلُ بموجبِها صاحبُ الحقِّ إلى إقامةِ الدليلِ على قيامِ هذا الحقِّ وتقديمهِ إلى القضاءِ للوصولِ إلى حقّهِ . والحقُّ دونَ إثباتٍ يُعدُّ غيرَ موجودٍ من الناحيّة العمليّةِ ، وهنا ينبغي إثباتُ عنصرِ الحقِّ المدّعي به وعنصرِ القانونِ ، وهو القاعدةُ القانونيةُ التي تقرّرُ هذا الحقَّ . ومحلُّ الإثباتِ لا يردُّ على الحقِّ المدّعي بهِ وإنّما يردُّ على الواقعةِ القانونيّةِ الّتي تُنشئُ هذا الحقَّ ، وإنّ أهميّةَ الإثباتِ لا تقتصرُ على تحقيقِ مصلحةٍ خاصةٍ لأطرافِ الخصومةِ ، إنّما تهدفُ إلى تحقيقِ الصالحِ العامِّ .

 

كلماتٌ مفتاحيّةٌ : القانونُ الإداريّ ، القضاءُ الإداريّ ، الدعوى الإداريّةُ ، الخصومةُ ، الحقُّ .

 

Abstract

The idea of this research revolves around The nature of evidence rules in Administrative Case in that the rules of evidence are the means by which the right holder reaches to establish evidence of the establishment of this right and presents it to the judiciary to reach his right. A right without proof is considered non-existent from a practical point of view, and here the element of the claimed right and the element of the law must be proven, which is legal rule that determines this right. And the object of proof does not respond to the claimed right, but rather responds to the legal fact that establishes this right, and that the importance of proof is not limited to achieving a special interest for the parties to the litigation, but rather aims to achieve to public interest.

 

key words: Administrative Law،Administrative Judiciary، Administrative Case، Adversarial، Rights  .

 المُقدِّمةُ :

يشكّلُ الإثباتُ أهميّةً بالغةً ، خاصّةً بالنسبةِ للحقوقِ والمراكزِ القانونيّةِ ، إذ يُعدُّ إحياءً لها، فلا فائدةً أو قيمةً علميةً لها من غيره . والحقُّ دونَ إثباتٍ يُعدُّ غيرَ موجودٍ من الناحيةِ العمليةِ ، فالإثباتُ يُحيي الحقَّ ويجعلُهُ مفيداً وهو قوةُ الحقِّ ، وإنّ الحقَّ يتجرّد من قيمتهِ ما لَمْ يقُمْ الدليلُ على الحادثِ الّذي يستندُ إليهِ ، فالدليلُ هو قوامُ الحقِّ ومعقدُ النفعِ منهُ . وتُعدُّ قواعدُ الإثباتِ الوسيلةَ الّتي يتوصّلُ بموجبِها صاحبُ الحقِّ إلى إقامةِ الدليلِ على قيامِ هذا الحقِّ وتقديمهِ إلى القضاءِ للوصولِ إلى حقّهِ. ويُقصدُ بمحلّ الإثباتِ الأمرُ الّذي ينبغي على المدّعي إثباتُهُ ، فعلى المدّعي أنْ يعرفَ ما الأمرُ الّذي يجبُ عليهِ إثباتُهُ كي يحصلَ على حقّهِ ، فهلْ عليه إثباتُ الحقِّ نفسِهِ أو إثباتُ الواقعةِ القانونيّةِ الّتي أنشأتْ هذا الحقَّ .فمنَ الناحيةِ المنطقيّةِ لإثباتِ صحّةِ أيّ إدعاءٍ أمامَ الجهاتِ القضائيّةِ يجبُ إثباتُ عنصرينِ يتمثّلانِ بعُنْصرَي الحقّ المدّعي به والقانونِ - وهو القاعدةُ القانونيةُ الّتي تقرّرُ هذا الحقَّ-   . ومحلُّ الإثباتِ لا يردُّ على الحقِّ المدّعي به وإنّما يردُّ على الواقعةِ القانونيّةِ الّتي تُنْشِئُ هذا الحقَّ ، فإذا استطاع المدّعي إثباتَ صحّةِ هذه الواقعةِ القانونيّةِ فإنّهُ يكونُ بذلكَ قدْ أَمِنَ الحقَّ المدّعي بهِ ، فمحلُّ الإثباتِ لا يردُّ على القاعدةِ القانونيّةِ وذلك لأنّ الاهتداءَ إلى القاعدةِ القانونيّةِ منْ مَهمَةِ القاضي.

أوّلاً: أهميّةُ البحثِ :

تكمنُ أهميّةُ البحثِ في أنّهُ لا تقتصرُ أهميّةُ الإثباتِ على تحقيقِ مصلحةٍ خاصّةٍ لأطرافِ الخصومةِ ، إنّما يهدفُ إلى تحقيقِ الصالحِ العامِ ، فهو يهدفُ إلى تحقيقِ غاياتٍ عمليّةٍ تتمثّلُ في الفصلِ في المنازعاتِ وحمايةِ الحقوقِ وإرساءِ مبادئ العدالةِ وحصولِ كلِّ ذي حقٍّ على حقّهِ ،  وإنّ الإدارةَ مُلزَمةٌ بتطبيقِ مبدءِ المشروعيّةِ ، وأنّ الخضوعَ للقانونِ شأنُه في ذلك شأنُ الأفرادِ . ومنْ هذا المنطلقِ يصبحُ موضوعُ الإثباتِ الإداريّ منْ أهمّ الموضوعاتِ الّتي يحتويها القضاءُ الإداريّ ، فهوَ منَ المواضيعِ الجديدةِ الّتي تفتقرُ إلى الدراساتِ والأبحاثِ .

 

ثانياً: إشكاليّةُ البحثِ :

تتمحورُ إشكاليّةُ البحثِ حولَ محورٍ مفادهُ أنّ القضاءَ الإداريَّ ومِنْ خلالِ قرارتهِ الواسعةِ والمهمّةِ ، إنّما يحتاجُ إلى وضعِ ثوابتَ قاطعةٍ وباتّةٍ عندَ فصلهِ في المنازعاتِ الإداريّةِ الّتي يعتمدُ فيها على قواعدِ الإثباتِ العامّةِ. علماً أنّ القانونَ الإداريّ وما يتبّعه منْ أحكامٍ لا تزالُ قواعدَ مرنةً وغيرَ ثابتةٍ على شكلِ تقنينٍ محدّدٍ ومحصورٍ كما هو الحالُ في القانونِ المدنيّ والقانونِ الجزائيّ ... إلخ.

 

ثالثاً: منهجيةُ البحثِ :

سنعتمدُ في دراسةِ هذا البحثِ على المنهجِ التحليليّ الاستنباطيّ المقارنِ، على أساسِ تحليلِ النصوصِ القانونيّةِ ومقارنتِها معَ القوانينِ محلِّ الدراسةِ .

 

رابعاً: خطّةُ البحثِ :

سيتمُّ تقسيمُ خطّةِ البحثِ على مبحثينِ ، نختصُّ الأوّلَ منهما في الحديثِ عَنْ ماهيّةِ الإثباتِ والعواملِ المؤثّرةِ في ذلكَ ، وبدورهِ  ينقسمُ هذا المبحثُ على مطلبين : أوّلهما ، تعريفُ محلِّ الإثباتِ وشروطُهُ ، وثانيهما ،  العواملُ المؤثّرةُ في إثباتِ الدعوى الإنضباطيّةِ .

أمّا المبحثُ الثاني فسيتمّ التحدّثُ فيهِ عنْ خصوصيّةِ الإثباتِ والقواعدِ الموضوعيّةِ لهُ ، فينقسمُ على وفقِ ذلكَ على مطلبينِ : الأوّلُ : خصوصيّةُ الإثباتِ في النظامِ القانونيّ يجعلهُا ذاتَ طبيعةٍ واحدةٍ ، والثاني : مدى تعلّقِ القواعدِ الموضوعيّةِ للإثباتِ بالنظامِ العامِّ .

المبحثُ الأوّلُ

ماهيّةُ الإثباتِ والعواملُ المؤثّرةُ

يتمثّلُ الإثباتُ بالطرقِ والوسائلِ الّتي يستعينُ بها المدّعي وصولاً للحقِّ الّذي يدّعيه ، وإقناعاً للقاضي بوقائعِ مصدرِ ذلك الحقِّ . إستناداً على فرضيّةِ أنّ الدليلَ أساسيٌّ يتمكّنُ منْ خلالهِ صاحبُ الحقِّ – المدَّعي – منَ الوصولِ إلى حقّهِ ، وبدونهِ يتعذّرُ ذلك الوصولُ .

إنّ الدعوى الإداريّةَ هي وسيلةٌ يجري فيها مقاضاةُ الإدارةِ طلباً لحقوقِ الأفرادِ الّتي قدْ تتعرّضُ إلى أضرارٍ جرّاءَ مُمارسةِ الإدارةِ نشاطَها بشكلٍ طبيعيٍّ ، ممّا تقتضي فتحَ مساحةٍ يتمكّنُ مِنْ خلالِها الأفرادُ بغضِّ النظرِ عنْ تصنيفِهم ( موظّفينَ أمْ أشخاصٍ عاديّينَ ) منَ اللجوءِ إلى مرجعٍ قضائيٍّ ينصفُهم في ذلكَ أَلا وهو القاضي الإداريّ ، لذا فالدعوى الإداريّةُ تمثِّلُ مرتكزاً مهمّاً وأساسيّاً في مراجعةِ مطابقةِ تصرُّفاتِ الإدارةِ للقانونِ . وتُؤسَّسُ تلك الدعوى اتّكالاً على عدّةِ شروطٍ تنتقلُ منْ خلالِها إلى مرحلةِ إثباتِ موضوعِها مروراً بوسائلَ واستناداً على أدلّةٍ ، بغضِّ النظرِ عنْ طريقةِ ذلكَ سواءٌ بطلبٍ منَ القاضي أمْ بطلبٍ منْ طرفي الدعوى ، إذْ تهدفُ بمُجْمَلِها إلى إقناعِ القاضي بمساحةِ كلِّ خصمٍ في الدعوى وأحقيّتِهِ .

وتُعدُّ مرحلةُ الاثباتِ منَ المراحلِ الأساسيّةِ الّتي يتمُّ الاتّكالُ عليها في إصدارِ الحُكمِ في الدّعوى ، بيدَ أنّ الإثباتَ في الدّعوى الإداريّةِ يتميّزُ بخصوصيّةٍ عنْ غيرِها منَ الدعاوى ، لتوافرِ جهةٍ تمثّلُ الطرفَ الدائمَ الحضورِ في الدّعوى تمتلكُ سلطةً عامّةً وهي جهةُ الإدارةِ الّتي تُوثِّقُ دوماً عملَهَا بالسنداتِ الرسميّةِ فينعكسُ ذلكَ على أهميّةِ الوسائلِ المُطبّقةِ في إثباتِ الدّعوى الإداريّةِ.                                                                                                              

وسيتمُّ على وفقِ ذلكَ تقسيمُ هذا المبحثِ على مطلبينِ :  نتناولُ في أوّلِهما تعريفَ محلِّ الإثباتِ وشروطِهِ ، وفي ثانيهِما العواملَ المؤثّرةَ في إثباتِ الدعوى الإنضباطيّةِ .

المطلبُ الأوّلُ: تعريفُ محلِّ الإثباتِ وشروطُهُ

إنَّ محلَّ الإثباتِ الإداريِّ هو مصدرُ الحقِّ وليسَ الحقَّ نفسَهُ ؛ ذلك أنَّ الأصلَ ، أنَّ محلَّ الإثباتِ هو الحقُّ المدَّعى بوجودِهِ أو زوالِهِ أو إلحاقِ وصفٍ بهِ[1]. بيد أنّ الحقَّ فكرةٌ مجرّدةٌ يستعصي على العقلِ إثباتُها ، ولذلك لا مناصَّ منْ نقلِ محلِّ الإثباتِ منَ الحقِّ المدَّعى بهِ إلى مصدرِ الحقِّ ، سواءٌ أكانَ هذا المصدرُ تَصرُّفاً قانونيّاً ، أمْ واقعةً ماديّةً . حيثُ أنَّ مصادرَ الحقوقِ إمّا أنْ تكونَ تصرّفاً قانونياً أو أنْ تكونَ واقعةً ماديّةً ، فالواقعةُ والوقائعُ الّتي يدّعيها طرفا النزاعِ هي المحلُّ الّذي يردُ عليه الإثباتُ ، وهذا ما نصّتْ عليهِ المادّةُ الثانيةُ مِنْ قانونِ الإثباتِ ؛ بلْ هو مصدرُ أيّةِ رابطةٍ قانونيّةٍ ، وإذا كان مصدرُ الحقِّ هو العملُ غيرُ المشروعِ ، فإنَّ فكرةَ الخطأ أو العملِ غيرِ المشروعِ هي فكرةٌ مجرّدةٌ لا يمكنُ إثباتُها في ذاتِها، ولذلكَ لا بدَّ مِنْ نقلِ محلِّ الإثباتِ مرّةً أُخرى من هذهِ الفكرةِ إلى الوقائعِ والأعمالِ الّتي يُمكنُ أنْ يُستدلَّ منها على تحقيقِ فكرةِ الخطّةِ المُشارِ إليها[2].

ونظراً لضرورةِ نقلِ محلِّ الإثباتِ منَ الحقِّ المدّعى بهِ إلى مصدرهِ أوْ إلى الوقائعِ الأُخرى المحيطةِ بهِ ، فإنَّ الإثباتَ لا يمكنُ أنْ يؤدّي إلى يقينٍ كاملٍ ، وإنّما يمكنُ أنْ يؤدي فقط إلى درجةٍ معيّنةٍ منَ الاحتمالِ ، ذلك لأنَّ فكرةَ الاحتمالِ هي حجرُ الزاويةِ في النظريّةِ العامّةِ للإثباتِ ؛ إِذْ إنَّ معظمَ الحقائقِ الواقعيّةِ ليستْ حقائقَ خالدةً لا تتغيّرُ، وإنّما هي حقائقُ ناتجةٌ عنْ الإرادةِ الفطريّةِ للإنسانِ . وما دامتْ هذهِ الحقائقُ غيرَ أكيدةٍ بطبيعَتِها، فإنَّ الإثباتَ الّذي تقومُ عليهِ هذه الحقائقُ لا يمكنُ أنْ تكونَ له هذهِ الصفةُ - منَ الدقّةِ والوضوحِ-  القادرةُ على تكوينِ يقينٍ كاملٍ أو دليلٍ قاطعٍ .

ويمكنُ القولُ بأنَّ الإثباتَ[3] يردُ على مصدرِ الحقِّ أو بمعنىً أدقّ هو مصدرُ أيّةٍ رابطةٍ قانونيّةٍ . فعندما يريدُ المدّعي إثباتَ وجودِ حقٍّ لهُ سواءٌ أكانَ هذا الحقُّ شخصيّاً أمْ عينيّاً، فهو يثبتُ مصدرَ الحقِّ سواءٌ أكانَ هذا المصدرُ تصرُّفاً قانونيّاً كالعقدِ مثلاً أمْ عمَلاً ماديّاً كالإثراءِ بلا سببٍ أو كالتقادمِ . ومِنْ ثبوتِ هذا المصدرِ يثبتُ وجودُ الحقِّ كنتيجةٍ قانونيّةٍ مترتّبةٍ على ثبوتِ المصدرِ المشارِ إليهِ . أمّا الحقُّ نفسُهُ فهو يستعصي على الإثباتِ في ذاتهِ ، باعتبارِه فكرةً مجرّدةً يستعصي على العقلِ إثباتُها[4].

وسيتمّ تقسيمُ هذا المطلبُ على وفقِ ذلكَ  على فرعينِ ،  الأوّل منهما هو :  التعريفُ بمحلّ الإثباتِ ، والثاني هو :  شروطُ محلِّ الإثباتِ .

الفرعُ الأوّلُ: التعريفُ بمحلِّ الإثباتِ

هو الواقعةُ القانونيّةُ بالمعنى الواسعِ لهذا الاصطلاحِ ، وهو ما يشملُ التصرّفَ القانونيَّ والواقعةَ الماديّةَ على حدٍّ سواءٍ، وهو بهذا المعنى يعدُّ السببَ المُنشِئَ للأثرِ القانونيّ ، سواءٌ أكانَ هذا الأثرُ وجودَ الحقِّ ، أمْ زوالَه ، أمْ إلحاقَ وصفٍ بهِ .

وكونُ محلِّ الإثباتِ واقعةً قانونيّةً فهذا يعني أنَّ الإثباتَ لا يردّ على القانونِ ؛ بل إنَّ القاضيَ يطبقُ القانونَ مِنْ تلقاءِ نفسِهِ ، وبحكمِ وظيفتِهِ دونَ حاجةٍ إلى إثباتِ الخصومِ ، فهو من اختصاصِ المحكمةِ المنظورِ أمامَها النزاعُ ، فهي الّتي تطبقُ القانونَ على تلكَ الواقعةِ ؛ إذْ يرتِّبُ إثباتُها فائدةً تتمثّلُ في التوصّلِ للحقيقةِ في النزاعِ المعروضِ على القضاءِ بصورةٍ تُمكِّنهُ منَ الفصلِ فيهِ[5]. وبالتالي ، فإنَّ القاعدةَ هي أنَّ محلَّ الإثباتِ هو واقعٌ وليسَ قانوناً.

وتقسّمُ الوقائعُ القانونيّةُ المولِّدةُ للحقوقِ على قسمينِ رئيسينِ هما : التصرّف القانونيّ ، والواقعةُ القانونيّةُ.

ويردُ على هذهِ القاعدةِ استثناءٌ إذا ما تعلّقَ الأمرُ بتطبيقِ عرفٍ أوْ عادةٍ اتفاقية أو تطبيق قانونِ أجنبيٍّ من جانبٍ آخر[6].

وإذا كانَ محلُّ الإثباتِ لا يردُ إلّا على الوقائعِ القانونيّةِ ، فإنّ الوقائعَ القانونيّةَ نوعان، هما[7]:

الأعمالُ القانونيّةُ أوْ التصرّفُ القانونيّ :

إنَّ الأعمالَ القانونيّةَ هي مجردُ اتجاه الإرادة نحوَ إحداثِ أثرٍ قانونيٍّ معيّنٍ . أيْ أنّهُ يقعُ بصفةٍ طبيعيّةٍ أوْ اختياريّةٍ ، فيُرتب عليه القانونُ أثرَه ، إمّا بإنشاءِ حقٍّ جديدٍ، أوْ بتعديلٍ أوْ انقضاءٍ لحقٍّ قائمٍ . إمّا أنْ يصدرُ مِنْ جانبينِ كالتصرّفِ بالبيعِ ، أوْ أنْ يصدرَ مِنْ جانبٍ واحدٍ كالإقرارِ.

العملُ الماديُّ (الواقعةُ القانونيّةُ):

لتحقيقِ الإثباتِ لا بُدّ مِنْ إقامةِ الدليلِ على واقعةٍ قانونيّةٍ مِنْ ناحيةٍ ، وعلى الأثرِ الّذي يرتّبهُ القانونُ عليها منْ ناحيةٍ أُخرى، فتقتصرُ مهمةُ الخصمِ على إقامةِ الدليلِ على وجودهِا. أمّا تحديدُ الأثرِ الّذي يرتّبهُ القانونُ عليها فلا يكون محلّاً للإثباتِ ؛ بلْ يدخلُ في مهمةِ القاضيّ الّذي يُطبّق القانونَ على تلكَ الواقعةِ ليستخلصَ أثرَها القانونيّ[8]. فإمّا أنْ يكونَ طبيعيّاً أوْ قد يكونُ بفعلِ الإنسانِ ، فهو أمرٌ محسوسٌ يُرتّب عليه القانونُ أثرَه، سواءٌ أكان حدوثُ ذلك الأمرِ إراديّاً أمْ غيرَ إراديّ ، كالعملِ الضارّ أوْ العملِ النافعِ .

 

الفرعُ الثاني: شروطُ محلِّ الإثباتِ

الواقعةُ القانونيّةُ بوصفِها محلّاً للإثباتِ ،  هي كلُّ سببٍ مُنْشئٍ للحقِّ المدَّعي بوجودِهِ أوْ زوالهِ أوْ وصفِهِ وهيَ إمّا أنْ تكونَ واقعةً ماديَّةً أوْ تصرُّفاً قانونيّاً، ويندرجُ تحتَ الواقعةِ الماديّةِ الطبيعيةُ ؛ كالزلازلِ الّتي تنشـأُ عنها حالةُ القوّةِ القاهرةِ . أمّا التصرُّفُ القانونيُّ فقوامُهُ الإرادةُ الّتي تتّجهُ إلى إحداثِ أثرٍ قانونيٍّ معيّنٍ ، فإذا كانَ الأصلُ أنّ لكلِّ خصمٍ الحقَّ في أنْ يثبتَ الواقعةَ القانونيّةَ الّتي يستندُ إليها في تأسيسِ دعواه، فإنّ هنالك قيوداً تردُّ على هذا الأصلِ[9]، وللواقعةِ القانونيّةِ المرادِ إثباتُها شروطٌ ، وهي : أنْ تكونَ الوقائعُ الّتي يُرادُ إثباتُها متعلقّةً بالدَّعوى ومنتجِةً في الإثباتِ وجائزاً قبولُها، معَ إضافةِ الفقهِ شروطاً أُخرى وهي أنْ تكونَ محدّدةً ومحلَّ نزاعٍ ،  وسنتناولُ هذه الشروطَ في النقاطِ الآتيةِ :

أنْ تكونَ الواقعةُ المرادُ إثباتُها متعلّقةً بالدّعوى:

ويُقصَدُ بهذا الشرطِ أنْ تكونَ الواقعةُ المرادُ إثباتُها ذاتَ صلةٍ قويّةٍ بموضوعِ النزاعِ ، أيْ :  متّصلة بالحقِّ المطالبِ بهِ[10]، وهذا الشرطُ يُعدُّ موجوداً إذا انصبّ الإثباتُ على الواقعةِ الّتي تكونُ مصدرَ الحقِّ ، وهذا ما يُطلقُ عليهِ بالإثباتِ المباشرِ، بينَما إذا تعذّر الإثباتُ المباشرُ على النحوِ المتقدّمِ ، فإنّهُ قدْ يلجأُ المتقاضي إلى إثباتٍ غيرِ مباشرٍ، بمعنى إثباتِ واقعةٍ أُخرى ليستْ فقط قريبةً من الواقعةِ الأصليّةِ ، بَلْ متَّصلةٌ بها اتصالاً وثيقاً، ويُطلقُ على هذا الإثباتِ بالإثباتِ غيرِ المباشرِ الّذي تقومُ على فكرةُ تحويلِ الدليلِ[11].

أنْ تكونَ الواقعةُ منتجةً في الإثباتِ:

ومفادُ ذلكَ أنْ يكونَ شأنُ الواقعةِ القانونيّةِ - إذا ثبتتْ - أنّها تُؤدّي إلى قيامِ الأثرِ القانونيّ الّذي مِنْ شأنِهِ أن يُوصِلَ إلى اقتناعِ القاضي، ولا يلزمُ أنْ تكونَ الواقعةُ القانونيّةُ هي بذاتِها حاسمةً في حلّ النزاعِ ، وإنّما تكفي أنْ تكونَ عُنْصراً مِنْ عناصرِ الإقناعِ ، فإنْ لَمْ تَكُنْ كذلكَ فَلا جَدوى من إثباتِها ولَوْ كانتْ متعلّقةً بالدّعوى[12]، وهذا الشرطُ منَ الناحيةِ المنطقيّةِ يُغني عنْ الشرطِ السابقِ ، حيثُ أنّ كلَّ واقعةٍ منتجَةٍ في الدّعوى لا بُدَّ أنْ تكونَ متعلّقةً بها والعكسُ غيرُ صحيحٍ ، فقدْ تكونُ الواقعةُ متعلّقةً بالدّعوى ولكنّها غيرُ منتجةٍ ، وعليه فإنّ شرطَ الواقعةِ المرادِ إثباتُها بوصفِها منتجةً في الدعوى هو أعلى مرتبةً من شرطِ وصفِ الدّعوى المتعلقةِ بها[13].

أنْ تكونَ الواقعةُ المرادُ إثباتُها محلَّ نزاعٍ :

هذا الشرطُ بديهيٌّ ؛ ذلكَ لأنّ الإثباتَ القانونيَّ هو إثباتٌ قضائيٌّ ، واللجوءُ إلى القضاءِ لا يكونُ في الأصلِ إلّا في منازعة ٍ، فإذا لَمْ يُوجَدْ نزاعٌ حولَ الواقعةِ فلا محلَّ للنظرِ فيها وضياعِ وقتِ المحكمةِ في إجراءاتِ إثباتِها، فالواقعةُ المُسَلَّمُ  بها منْ جانبِ الخصمِ الآخرِ لا تُعدُّ إثباتاً ، ولا فائدةٌ تُرجى مِنْ وراءِ إثباتِها ، لأنّ التسليمَ بها إقرارٌ ، وإقرارُ الخصمِ بما نُسِبَ إليهِ يعفي المدَّعي منَ الإثباتِ[14].

يجبُ أنْ تكونَ الواقعةُ المرادُ إثباتُها محدَّدةً :

فالواقعةُ القانونيّةُ محلُّ الإثباتِ يجبُ أنْ تكونَ محدَّدةً غيرَ مجهولةٍ ،  وإلّا تعذّر إثباتُها وضاعَ وقتُ القضاءِ في غيرِ فائدةٍ وطالَ أمدُ النزاعِ ، ويجبُ أنْ يكونَ تحديدُ الواقعةِ كافياً حتّى يُمكنُ التحقّقُ منْ أنّ الدليلَ الّذي سيقدّمُ يتعلّقُ بها لا بغيرِها[15].

أنْ تكون الواقعة جائزة الإثبات:

لا يكفي أن تكون الواقعة القانونية منتجة بطبيعتها في الإثبات بل يجب أن تكون أيضا جائزة الإثبات، ذلك أنّ شرط جواز الإثبات قانونيا يحقّق تقديم المصلحة العامة متى تعارضت مع مصلحة الخصوم في الدعوى، فقد تتوافر سبب من كل الشروط التي استلزمها القانون في الواقعة محلّ الإثبات، ومع ذلك لا يقبل إثباتها قانوناً وذلك لأيّ سبب من الأسباب التي تقتضيها الصياغة الفنية في الإثبات[16].

وهذه شروط أخرى نصّ عليها قانون الإثباتِ العراقي رقم (107) لسنة 1979 م في المادة (10) منه بقوله: «يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلّقةً بالدعوى ومُنتجةً فيها وجائزاً قبولها»، كما جرى عليها العمل في المحاكم.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ المشرع وهو ينظم محلّ الإثبات قد يتدخل في بعض الأحيان بما من شأنه تيسير مهمة المدّعي في مواجهته الإدارة المدّعى عليها، إلّا أنَّ تدخّل المشرّع في هذه الحالة لا ينصبُّ مباشرة على قواعد الإثبات بنقل العبء إلى عاتق المدَّعى عليه، ولكنّه ينصبّ على محلّ الإثبات ذاته؛ بحيث يستبعد المشرّع بعض الشروط التي يصعب إثباتها، ويخشى من إخفاق المدّعي في إقناع القاضي بقيامها في مجال قيام الحق أو المركز القانوني، ولا يحتاج الأمرُ بعد ذلك إلى عناء، أو مجهود بالنسبة لهذه الشروط المستبعدة من مجال الإثباتِ، ويقتصر دوره على إثبات غيرها من الشروط والوقائع اللازمة لقيام الحقّ أو المركز القانوني، بمعنى أنَّ المشرّعَ يرفع عبء الإثبات الفعلي بالنسبة للشروط المستبعدة من على عاتق المدّعي نهائياً ؛ بحيث يتعيّن على الإدارة في سبيل دفع الادعاء إثباتُ الوقائع أو الأسباب التي تبرّر تخلصها من الالتزام بهذا النصّ (طبقاً للنصّ)[17].

 فالقاضي لا يجوز له أن يستندَ في حكمه على عجزِ المدّعي في إثبات القاعدة المرتّبة للأثر القانوني المتنازع عليه، وذلك لأنَّ إثباتَ هذه القاعدةِ ليس واجباً عليه بل يترتّب على تلك القاعدةِ ، رغم أنَّ الأصل في أنَّ القاضي يتقيّد بإقرار المدّعى عليه بالواقعةِ التي ادّعى المدّعي قيامَها ، إِلَّا أنَّه لا يتقيّد بإقراره، فالقاعدةُ القانونيةُ التي تمسّك بسريانها تنطبق على النزاع القائم بينهما، وذلك لأنَّ تطبيقَ القانونِ على واقعة الدعوى هو من شأنِ المحكمةِ وحدها لا من شأن الخصوم. فضلاً عنْ أنّه يترتّب على تلك القاعدة أنَّ القاضي في تطبيقه للقواعد القانونية يجب أن يقضي بعلمِهِ، بينما في الواقع يمتنع على القاضي أنْ يقضي بعلمِه في وقائعِ الدّعوى الّتي هي ملكٌ للخصومِ[18].

 

المطلبُ الثاني: العواملُ المؤثِّرةُ في إثباتِ الدّعوى الإنضباطيّةِ

إنّ قاعدةَ عبءِ الإثباتِ الموجودةُ في القانون المدنيّ لا تطبّق في القانون الإداريّ ، وذلك نظراً لاختلاف طبيعة الدعوى الإداريّة عن الدعوى المدنيّة ، إذ إنّ هذه الأخيرةَ تقومُ على أساسِ المساواة بين أطرافِها وهذا ما يؤدّي في الغالبِ إلى الحريّةِ في الإثباتِ ، أمّا في الدعوى الإداريّة فينعدم عنصر المساواة فيها لأنّها تقومُ بين طرفينِ ، أحدُهما الإدارةُ :  وهي الطرفُ الأقوى في الدعوى نظراً لما تتمتّع به من امتيازاتِ السلطةِ العامّة ، إذ عادةً ما تكونُ المستنداتُ تحت يدها، والثاني الموظف :  وهو الطرفُ الضعيفُ الذي يحتاج بصفة دائمة الطرفَ الأوّلَ ويخشى إجراءاته الشديدة[19]، وفي ضوءِ الامتيازات التي تتمتع بها الإدارةُ فإنّها تقفُ في مركز المدّعى عليه غالباً، في حين يقف الفردُ في مركز المدّعي، الأمرُ الّذي ينشأ عنه ظاهرةُ عدمِ التوازنِ بينَ الطرفين في الدعوى التي تستلزم إظهارَ الدورِ الإيجابيّ للقاضي الإداري في الدعوى وترجيحَ كفّةِ أحدِ الطرفين على الآخرِ مع التزامِه بالأصولِ القضائيّة ، ودورُ القاضي في الدعوى الإدارية هو دورُ القاضي في الدعوى المدنية ذاتُه ، فالقاضي لا يُكلّف بالإثبات في الأصل وإنّما يُكلّف الخصوم، إذ إنّ صاحبَ الشأنِ ملَزمٌ بأنْ يقنعَ القاضي بصحّةِ دعواه وصاحب الشأن في الدعوى الإدارية هو المدّعي[20] طبقاً للمبدَإِ الّذي يقضي «بأنّ الأصلَ براءة الذمة ومن يدّعي خلافَ الظاهر عليه الإثبات»[21] والمدّعي في الدعوى الإداريّة يدعي خلاف الظاهر لذلك يقع عليه عبءُ الإثباتِ ، ولأنّ المدّعي في الدعوى الإدارية هو الفردُ فإنّ الملفاتَ والسجلّاتَ موجودةٌ تحتَ يد الإدارة وهو الشيء الذي يعتمد عليه في الإثبات بصفةٍ رئيسةٍ  ، لذلك تدخّل القضاءُ وألزمَ الإدارة بتقديم المستندات المتعلقة بموضوع النزاع بهدف تخفيف عبء الإثبات الواقع على عاتق الفرد[22]. وسينقسمُ هذا المطلبُ على فرعينِ ، نتناولُ في أوّلهما تحديدَ عبء الإثباتِ وكيفيّة تحقّقهِ في الدعوى , وأمّا الثاني فسنقفُ فيهِ لدى الطرفِ المكلّفِ بعبءِ الإثباتِ .

الفرعُ الأوّلُ: تحديدُ عبءِ الإثباتِ وكيفيّةُ تحقُّقهِ في الدّعوى

إِنَّ عبءَ الإثبات هو المسؤولية عن إقامة الدليل على صدق الادعاء أمام القضاء، وهو يقعُ كأصلٍ عامٍّ على عاتق المدّعي في الدعوى الإدارية ، شأنُه في ذلك شأنُ المدّعي في الدعاوى المدنية والجنائية.

وفي العراق، يظهر الدور الإيجابي للقاضي في تفسير القوانين الإجرائية والقوانين الموضوعية وتطبيقهما، ففي إطار القوانين الأولى نجد هذا الدور واضحاً في الإجراءات الجزائية، حيث منح المشرّع العراقي في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (۲۳) لسنة  ١٩٧١ م للقاضي سلطةً مطلقةً ، ويظهر ذلك جليّاً من خلال قراءة المادتين (۲۱٥و۲۱۷)، فقد أتاح المشرّع للقاضي أنْ يعمد إلى تجزئة إقرار المتّهم وذلك حسب المادة (۲۱۹)، كما أكدّت المادة (۲۱۳/1) من القانون أعلاه على أنّه يجوز للمحكمة أنْ تحكم بناءً على قناعتها؛ إذْ نصّت على أنّه : “تحكم المحكمة في الدعوى بناءً على اقتناعها الذي تكوّن لديها من الأدلة المقدّمة في أيّ دور من أدوار التحقيق والمحاكمة...»، كما نصّت الفقرة (ج) من المادة أعلاه على أنَّه يجبُ على المحكمةِ أنْ تأخذ بالإقرارِ وحدِه إذا اطمأنتْ إليهِ ولم يثبتْ كذبهُ بدليل آخر، وفي المعنى نفسه ذهبت باقي التشريعاتِ العربيّةِ ومنها التشريعُ المصريُّ[23]، ففي إطارِ قانونِ المرافعاتِ العراقيّ رقمِ (٨٣) لسنةِ ١٩٦٩ م ، أكدّتْ المادّةُ (١٥٧/2) على الدورِ الإيجابيّ ؛ إذْ نصّتْ على أنّه: «يجوزُ للمحكمةِ فتحُ بابِ المرافعةِ مجدَّداً إذا ظهرَ ما يستوجِبُ ذلكَ على أنْ تدوِّنَ ما يُبرّرُ هذا القرارَ”، كما خوّل قانونُ الإثباتِ العراقيِّ رقمُ (۱۰۷) لسنة ۱۹۷۹ م المعدّلُ في المادةِ (۱۰۲/أولاً) القاضيَ أنْ يعتمدَ القرائنَ الّتي يستنبطُها، إذْ  نصّتْ على أنّ : “القرينةَ القضائيّةَ هي استنباطُ أمرٍ غيرِ ثابتٍ مِنْ أمرٍ ثابتٍ لديهِ في الدعوى المنظورةِ “، بالإضافةِ إلى الفقرةِ ثانياً من المادةِ نفسِها الّتي نصّتْ على أنّ: “للقاضي استنباطَ كلِّ قرينةٍ لمْ يُقرّرْها القانونُ وذلكَ في نطاقِ ما يجوزُ إثباتُه بالشهادةِ، وفي هذا السياقِ يقتضي أنْ تكونَ هناك علاقةٌ قويّةٌ بينَ الأمرِ الثابتِ والأمرِ غيرِ الثابتِ لاستنباطِ القرينةِ القضائيّةِ ؛ فأتاحتْ المادةُ (١٠٤) من القانون أعلاه للقاضي مواكبة التطوّر العلمي؛ إذ نصّت على أنّ : “للقاضي أنْ يستفيد من وسائل التقدّم العلمي في استنباط القرائن القضائية»، وبحسب هذا النص يستطيع القاضي أن يطوِّع بعض القواعد المخصّصة لحكم موضوع ما لخدمة موضوع آخر، ومنها على سبيل المثال قواعد الاختصاص القضائي الدولي المخصصة أصلاً لحكم المنازعات التقليدية، فقد أُخذ بأعمالها لحل المنازعات الناشئة عن المعاملات الإلكترونية، وبذلك سيساهم القاضي في سد النقص التشريعي في هذه المسائل لغياب تنظيم تشريعي للمعاملات الإلكترونية والمنازعات الناشئة عنها في العراق[24].

وهُنا يَرِدُ سِؤالٌ بهذا الخصوصِ فَهَلْ مواقعُ التواصلِ الإجتماعيِّ أوْ طرائقُ الإتّصالِ الجديدةِ كافيةٌ للإثباتِ؟

تُعدُّ مواقعُ التواصلِ الإجتماعيّ وتطبيقاتُها أدواتٍ شائعةً للتواصلِ ومشاركةِ المعلوماتِ ، ويُمكنُ استخدامُها كأدلّةٍ في بعضِ الحالاتِ القانونيّةِ . وَمَع ذلكَ ، فإنّ قبولَ هذه الأَدلَّةِ واعتبارَهَا كافيةً يَعتمدُ على عواملَ عِدَّةٍ مِنْها :

1) التَّحقّقُ مِنْ صحّةِ المعلوماتِ : إذْ يَجبُ توثيقُ المعلوماتِ والتأكُّدُ مِنْ صحَّتِها قّبْلَ تقديمِهَا كدليلٍ في القضيّةِ.

2) السُّلطةُ القانونيّةُ : يَعتمدُ قبولُ الأَدلَّةِ المُستخدمةِ مِن مواقعِ التَّواصلِ الإجتماعيّ على التشريعاتِ والمُمارساتِ القانونيّةِ في البلدِ المّعْنِيّ .

3) التحليلُ الفنيّ : قَدْ يتطلّبُ التحليلُ الفنيّ للأدلّةِ الرقميةِ المُستخدمَةِ في مواقعِ التواصلِ الإجتماعيّ لتأكيدِ احالتِها وسَلامَتِها مِنَ التَّلاعُبِ .

  وَمِنْ خلالِ مَا تقدّمَ فإنّ التطوُّرَ العِلميَّ والتكنلوجيَّ الّذي توسّعَ نِطاقُ انتشارِهِ في العالِمِ يقتضي تنظيمَ نصوصٍ قانونيّةٍ تتكيّفُ معه  ، فعلى مستوى الأساسِ التشريعيِّ في العراقِ فإنّهُ بحاجةٍ إلى نصوصٍ قانونيّةٍ صريحةٍ يستطيعُ القاضي مِنْ خلالِها اعتمادَ الأدلّةِ الواردةِ في مواقعِ التواصلِ للاثباتِ ، ولَيسَ فقطْ للاستفادةِ مِنها أوْ الاستئناسِ بِها واستنباطِ الحقائقِ مِنْها كَمَا وَردَ في قانونِ الاثباتِ العراقيِّ المُرقَّمِ 107 لسنةِ 1979 م  فِي نَصِّ المادّةِ (104): “ لِلقاضِي أنْ يَستفيدَ مِنْ وَسائلِ التقدُّمِ العِلمِيِّ فِي استنباطِ القرائنِ القضائيّةِ”.

 

الفرعُ الثاني: الطرفُ المُكلَّفُ بعبءِ الإثباتِ

المكلَّفُ بالإثبات هو تحديد الطرف الذي يقع عليه عبء الإثبات، لأنّه إذا فشل في إثبات ما ادعاه فالحكم يصدر ضده، وفق المبدأ المقرّر في الشريعة الإسلامية «إنّ البيّنةَ على مَن ادّعى واليمينَ على مَن أنكره». أمّا في القانون المصري في ظل وسائل القوانين الحديثة توجد القاعدة ذاتها، فالمدّعي هو الذي يحملُ في الأصل عبءَ الإثباتِ سواء أكانَ دائناً يدّعي ثبوتَ الدائنيّة أم مديناً يدّعي التخلص من المديونية[25].

ويرى الفقه أنّه ليس من الضروري أنْ يكون المدّعي هو من يرفع الدعوى، فالمدعي في مجال الإثبات قد يختلف عن المدعي في الدعوى؛ إذْ إنّ المدّعي هو من يدّعي أمراً مخالفاً للظاهر على مدار الدعوى، سواء أكان هو من رفع الدعوى أو مَن رُفعت ضدّه الدعوى في الأصل[26]، فقد ينتقل عبء الإثبات بين طرفي الدعوى القضائية، وهي مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض[27].

وقد يجزي القانون عبء الإثبات بين المدّعي والمدّعى عليه، إذ  إنّ تكليف المدّعى بإقامة الدليل على كل عنصر من العناصر التي تتكون منها الواقعة مصدر الأثر القانوني يجعل عبء الإثبات ثقيلاً في كثير من الأحوال، بحيث يظلّ على المدعي أنْ يثبت من الواقعة بعض عناصرها الواجب إثباتها إثباتاً مباشراً ينصبّ عليها، لكون القانون لا يفترض ثبوتها لمجرد توافر البعض الآخر من عناصر الواقعة[28].

ويجد إلقاء عبء الإثبات على عاتق المدّعي مبرره في الاعتراف بصحّة الأمر الواقع، واحترام الوضع الظاهر، وبراءة الذمة؛ حيث أدّت الرغبة في رعاية الحقوق المكتسبة، والنظام العام والأمن الاجتماعي، واستقرار الأوضاع القانونية إلى قيام أصل عام يفترض مطابقة الحالة القائمة بين الطرفين وقت رفع الدعوى لحكم القانون حتى يثبت العكس[29].

فإذا كان المستقرُّ عليه هو إلقاءُ عبء الإثباتِ في الدعاوى الإداريّة على عاتق المُدّعي، إلّا أنَّ هناك من ينادي بضرورة توزيع ذلك العبءِ بين طرفي الدعوى بحيث يتحمّلُ كلّ طرف فيها نصيباً منه، يحدّده القاضي الإداري، لتعذّر إلقائه على طرف بمفرده.

وبموجب ذلك يستطيع المدّعى عليه الاكتفاء باتخاذ موقف سلبي لحين صدور الحكم برفض الدعوى استناداً لعدم قيام المدعي بتقديم الإثبات المقنع على صحّة دعواه، أمّا إذا قدّم المدّعي الإثبات الكافي فقد حلّ الدور على المدّعى عليه لتقديم ما يثبت عدم صحة الادعاء وإلا قُضي للمدعي في مواجهته[30].

فقد أفصح مجلس الدولة المصري، في بعض أحكامه عن كيفية تنظيم عبء الإثبات لا سيما في مجالات معينة[31].

وفي هذا الشأن، قضت المحكمة الإدارية العليا بأنَّ: «الأصلَ إنّ عبءَ الإثباتِ يقع على عاتق المدّعي إلّا أنَّ الأخذ بهذا الأصل على إطلاقه في مجال المنازعات الإدارية لا يستقيم مع واقع الحال بالنظر إلى أنَّ احتفاظ الإدارة في غالب الأمر بالوثائق والملفات ذات الأثر الحاسم في المنازعات ممّا يتعذر معه على الأفراد تحديد مضمونها تحديداً دقيقاً، لذا فالمستقر في المجال الإداري التزام الإدارة بتقديم سائر الأوراق والمستندات المتعلقة بموضوع النزاع والمنتجة في إثباته إيجاباً أو نفياً متى طلب منها ذلك، فإذا نكلت عن تقديم الأوراق المتعلقة بموضوع النزاع فإنَّ ذلك يقيم قرينة لصالح المدعي تُلقي عبءَ الإثبات على عاتق الحكومة[32]. ويتحقق وجود عبء الإثبات بطبيعة الحال طبقاً للقواعد العامة بالنسبة للدعاوى التي تنطوي على وقائع متنازع عليها تحتاج للإثبات، وتعتبر محلاً له، وتتطلب تقديم الدليل على صحتها وإقناع القاضي بقيامها مع ما ينطوي عليه ذلك من صعوبات[33].

أمّا إذا كانت الدعاوى خالية من مثل هذه الوقائع ولا تتعلّق إلاّ بتطبيق قاعدة قانونية أو تفسيرها، فإنَّ القاضي هو المنوط به تفسير القانون وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً على الوقائع المعروضة وفقاً لفهمه الشخصي لهذه الأحكام، ولا يوجد في هذه الحالة عبء الإثبات الواقع على عاتق أحد الطرفين[34].

وعبءُ الإثبات في الدعاوى الإدارية وإنْ كان الأصل فيه اضطلاع المدّعي به، إلّا أنَّ ذلك العبء ينتقل بين طرفيها، حيث يتبادلانه إلى أنْ يستقرّ به المطاف عند طرف يعجز عن إثبات عكس ادّعاء الطرف الآخر، ممّا يؤدّي لخسرانه دعواه. وفي إطار ما يتمتّع به القاضي الإداري من دور إيجابي في الدعوى الإدارية؛ حيث يهدف إلى تخفيف وطء عبء الإثبات عن كاهل المدعي؛ إذ إنَّ بوسعه إلزام الإدارة بتقديم ما تحوزه من مستندات أو أوراق يرى أنّها مُنتجة للفصل في النزاع، فإذا نكلت عن ذلك لسبب آخر غير فقدان تلك المستندات قامت قرينة على صدق الادعاء ينتقل بموجبها عبء نفيه إلى جانب الإدارة. كما إنَّ القاضي الإداري سار على النهج ذاته في التساهل مع المدعي في مجال إثبات عدم مشروعية القرار الإداري؛ إذ إنّه يكتفي منه بأنْ يتقدّم بقرينة تشكّك في سلامته، حيث ينتقل عبء إثبات عكس تلك القرينة وإزالة هذا الشك إلى جانب الإدارة، فإذا لم تضطلع بذلك اعتبر ذلك منها تسليماً بطلبات المدّعي[35].

كما قضت المحكمة الإدارية العليا في حكمٍ حديثٍ لها بأنَّ: «الأصل في قواعد الإثبات أنْ تكون البيِّنةُ على مَن ادّعى واليمينُ على مَنْ أنكرَ[36]، إلّا أنّه في مجال القضاء التأديبي يكون واجباً على الجهة الإدارية أنْ تبادر إلى تقديم ما بحوزتها من أوراقٍ فورَ طلب المحكمة إيداعها حتى يتسنّى للقاضي التأديبي أنْ يبسط رقابته على مدى مشروعيّة القرار التأديبي ، وتقاعسُ جهة الإدارة عن تقديم هذه الأوراقِ دليلٌ على صحة ادّعاء الطاعن وسلامة موقفه في الطعن المقدّم منه»[37].

 

المبحثُ الثاني

خصوصيّةُ الاثباتِ والقواعدُ الموضوعيّةُ لهُ

إنّ نظريّةَ الإثباتِ تُصاغُ استناداً على ظروفِ القانونِ الإداريِّ وعلى طبيعةِ الدّعوى الإداريّةِ الّتي تُطبَّقُ بشأنِها تلكَ النظريّةُ . وهي بمُجْملِها تربطُها مجموعةُ روابطَ إداريّةٍ تستندُ على مبدأِ المشروعيّةِ وتستهدفُ إدامةَ الصالحِ العامّ .

يتدخّلُ القاضي في إثباتِ تلكَ الدّعوى بشكلٍ إيجابيٍّ لضبطِ المصلحةِ العامّةِ وديمومةِ حمايتِهَا ، وهو أمرٌ يقتضي منهُ أنْ لا يتركَ الدّعوى للخصومِ بسببِ عدمِ توازنِ أطرافِها ( الإدارةِ والمُنازعِ لها ) منْ حيثُ الامتيازات .

وعلى وفقِ ذلكَ يوجّهُ القاضي الإداريّ الخصومةَ ، لاختلافِ وسائلِ الاثباتِ بينَهم ليعملَ حينَها على تضمينِ الدّعوى المذّكراتِ وكافّةَ الأوراقِ المتعلّقةِ بها ، ليُعدّها حينئذٍ الأساسَ في الإثباتِ .

فالمذكراتُ والمقرّراتُ والأوراقُ هي بمعيّةِ الإدارةِ العامّةِ ممّا يصعُبُ الحصولُ عليها منَ الأفرادِ ، فتقعُ حينَها على عاتقِ القاضي الإداريّ تلكَ المَهَمَّةُ المشارُ إليها في أعلاه.

ولا ريبَ في وقوعِ صعوبةٍ في الإثباتِ في مجالِ الخصوماتِ الّتي يختصُّ بها القضاءُ الإداريّ والّتي تكونُ الإدارةُ طرفاً فيها ، لأنّ الإثباتَ الإداريَّ يقومُ على وقائعَ ونصوصٍ متناثرةٍ وعلى مبادئَ وأحكامٍ قضائيّةٍ وتطبيقاتٍ عمليّةٍ.

إنّ قواعدَ الإثباتِ رغمَ أنّها لا تتعلّقُ بفرعٍ منْ فروعِ القانونِ ، إلّا أنّها تشكّلُ حلقةَ وصلٍ بينَ قانونِ المُرافعاتِ وبينَ القواعدِ الموضوعيّةِ المدنيّةِ والإداريّةِ والتجاريّةِ .

لقد قسّم الفقهاءُ قواعدَ الإثبات ِعلى قسمين ، هما : القواعدُ الموضوعيّةُ والقواعدُ الإجرائيّةُ . فأمّا الموضوعيّةُ فهي الّتي تُحدِّدُ عبءَ الاثباتِ ومحلّهِ وأدلّتِهِ ، وقوّةَ تلكَ الأدلّةِ والأحوالَ الّتي يتقدّمُ فيها كلٌّ منهما على الآخرِ ، وذلكَ مثلُ القاعدةِ الّتي تُقرِّرُ أنّ عبءَ الإثباتِ يقعُ على المدَّعي .

وأمّا القواعدُ الإجرائيّةُ ، فهي تلكَ القواعدُ الّتي تهتمُّ بتنظيمِ أدلّةِ الإثباتِ وتقديمِها أمامَ المحكمةِ ، وكذلك تقومُ بتحديدِ الإجراءاتِ الواجبِ اتّباعُها في حالِ تقديمِ تلكَ الأدلّةِ ، وذلكَ مثلُ القاعدةِ الّتي تُوجِبُ سماعَ كلِّ شاهدٍ على انفرادٍ. 

وسيتمّ تقسيمُ هذا المبحثِ على مطلبينِ ، يتعلّقُ أوّلُهما بخصوصيّةِ الإثباتِ في النظامِ القانونيّ يجعلُها ذاتَ طبيعةٍ واحدةٍ ، وأمّا المطلبُ الثاني فهو: مدى تعلّقِ القواعدِ الموضوعيّةِ للإثباتِ بالنظامِ العامّ .

المطلبُ الأوّلُ: خصوصيّةُ الإثباتِ في النظامِ القانونيِّ يجعلُها ذاتَ طبيعةٍ واحدةٍ

تتمتّع أدلةُ الإثبات في الدعوى الإدارية بخصوصيّة ، ومِنْ أهم الأسباب التي جعلت الإثبات أمامَ المحاكم الإدارية له خصوصيّته المميزةُ إنّما يرجعُ إلى أنّ الإدارة هي طرفٌ في الدعوى ، وهي تتمتّع بامتياز إجرائيّ مهمٍ وهو تسلُّحها بأدلّة الإثباتِ مقابلَ وقوفِ الفرد أعزلَ ومجرداً مـــِـنْ كـــلّ شيء أنّهُ قدْ لا يكونُ مدركاً عنها أيّ شيءٍ أو عما وضع بها من معلومات. ومِنْ نتائج هذه الواقعة وكما هو واضح هو اختلال بالتوازن العادل بين أطراف الدعوى الإدارية، وحتى نضمن تحقيق العدالة وعدم استمرار هذا الوضع بهذه الطريقة كان لا بدّ مِنْ وسيلةٍ فعّالةٍ تضمن تحقيق ذلك وتحاول التخفيف عن عاتق الطرف الأضعف في الدعوى الإدارية، ولتحقيق هذه العدالة كان لا بدّ على القاضي أنْ يقومَ بمواجهةِ الإدارة ودفعها لتقديم ما لديها من إثباتات لمصلحة  الطرف الضعيف ومساندته ، لذلك كان من المنطق إعطاء القاضي الإداري دفّة قيادة الدعوى الإدارية، فليس من المنطقِ أنْ يتركَ القاضي الأفراد لكي يقوموا بإدارة الدعوى وأدلّة الإثبات فيما بينهم، لأنّه من المنطقي ستكون النتيجة للطرف. ولكن يجب ملاحظة أنّ أدلةَ الإثباتِ الكتابيّة في الدعوى الإداريّة ليس لها الخصوصيّةُ نفسُها  التي تتمتع بها الأدلّة الكتابيّةُ في الدعاوى المدنية أو الجزائيّة ، فإذا كانت القاعدة العامة في الدعاوى المدنية أو الجزائية بأنّه لا يمكن إثبات ما هو خلاف السند الرسمي المكتوب إلّا بسندٍ آخر يناقضه أو لا يمكن الطعـن بالسندات الرسميّة إلّا بشائبة التزوير، إلّا إنّ الدليل الكتابيّ في الدعاوى الإداريّة يمكن إثبات خلافه بكافـّــة وسائل الإثبات[38].

يشكّل الإثباتُ الفيصلَ الحاسم في تحديد إتجاه الخصومة والفصل فيها على أساس العدالة على الرغم مِنْ أنّ قواعد الإثبات لا تتعلّقُ بفرع بذاته من فروع القانون، إلّا أنّها تتّصل اتّصالاً وثيقاً بين القواعد الموضوعيّة (مدنيّ ، تجاريّ ، إداريّ ..) وبينها قانون المرافعات، لهذا يذهب الفقه إلى تقسيم قواعد الإثبات إلى نوعين من القواعد القانونية[39]، قواعد موضوعية تنظم الإثبات تنظيماً موضوعياً، ومنها القواعد الّتي تنظّم الإثبات، وحقّ الإثبات، ودور القاضي في الإثبات، والقواعد التي تنظم قواعد الإثبات، وشروط قبولها ومدى حجيّتها، وقواعد إجرائية تنظم الإثبات إجرائياً أو شكليّاً، وهي القواعد التي تنظّم إجراءات الإثبات والأوضاع، والأشكال التي تتبع عند الاستناد إلى دليل من أدلّة الإثباتِ ، كما هو الحال في القواعد الّتي تحدّد طريقة سماع الشهود، أو حلف اليمين أمام الخبير، فجميعها تعدّ قواعد إجرائيّة تنظّم الإثبات الإداري تنظيماً شكلياً، وهي إجراءاتٌ رسمها القانون[40]. على الرغم من صعوبة الفصل بين القواعد الموضوعيّة والاجرائيّة في الاثبات الاداري إلاّ أنّهُ سيتمّ تقسيمُ هذا المطلب على فرعين ، يتضمّن الفرع الأوّلُ القواعدَ الموضوعيّةَ ، والفرعُ الثاني القواعدَ الإجرائيّة ، الّذي سيتمّ فيه التوسع في الحديث عن تلك القواعد بشكل عام .

الفرعُ الأوّلُ: القواعدُ الموضوعيّةُ

القواعدُ الموضوعيّة في الإثباتِ، هي القواعد التي تتعلّق بالإثبات، وعبئه، وطرقه، أيْ : المتعلّقة ببيان طرق الإثبات، وسلوك كل طريق منها، والشروط اللازمة للإثبات به، والدليل وحجيته. ويُرادُ بهَا وسائلُ الإثباتِ الّتي تصدرُ منْ أطرافٍ غيرِ أطرافِ الدّعوى الإداريّةِ ، أوْ أنّها تقتضي تدخّلَ القاضي الإداريّ أوْ غيرِهِ لإنجازِ وظيفتِها في الاثباتِ ، إذْ إنّها ليس بإمكانِها أنْ تُسْهِمَ في الاثباتِ عنْ طريقِ أطرافِ الدعوى بأنفسِهِم ، وعليهِ فإنّها ترتبطُ بموضوعِ الدّعوى أكثرَ مِنْ ارتباطِها بأطرافِ الدّعوى[41].

وتتحدّدُ الوسائلُ الّتي توضّحُ مساحةَ إمكانيّةِ الأخذِ بها في مجالِ القضاءِ الإداريّ ، بحسبِ الآتي :

أوّلاً : الشهادةُ : وهي إخبارُ الإنسانِ في مجلسِ القضاءِ بحقٍّ لغيرِهِ على غيرِهِ ، فهي إخبارٌ عنْ عيانٍ ومشاهدةٍ وليست إخباراً عنْ حُسبانٍ وتخمينٍ[42]، وممّا ينمازُ به الشاهدُ أنّهُ يشهدُ على أحداثٍ ووقائعَ عرضَها بشكلٍ شخصيٍّ ، سواءٌ سمعَهَا بأُذْنِهِ أَمْ رآها بعينِهِ[43]، معَ العلمِ بأنّ السماعَ لا تصحُّ الشهادةُ المبنيّةُ عليهِ سنداً للفصلِ في الدّعوى[44].

لقد اتّفقَ القضاءُ المقارنُ والفقهُ على أنّهُ إذا أجازتْ القواعدُ العامّةُ في الإثباتِ - للقاضي - الاستعانةَ في إثباتِ الوقائعِ الماديّةِ بالشهادةِ ، وكذلكَ في إثباتِ التصرُّفاتِ القانونيّةِ إلى حدٍّ معيّنٍ منَ النصابِ ، يتعيّنُ إثباتُها بالكتابةِ إذا ما تجاوزها ، فإنّ القاضيَ بمَا يمتلكُ منْ سلطةٍ واسعةٍ وحريّةٍ لا تستندُ على قواعدَ مقنّنةٍ للإثباتِ الإداريّ ، لا فرقَ عندَهُ بينَ التصرُّفاتِ القانونيّةِ والوقائعِ الماديّةِ . ويجوزُ بجميعِ الطرقِ المقبولةِ اثباتُها جميعاً ، ومنها شهادةُ الشهودِ . فالقاضي في استعمالِه الشهادةَ يقدّرُ حجمَ الشهاداتِ المقدّمةِ وأقوالَ الشهودِ بالشكلِ الّذي يُطمئنُ فيهِ إليهِ وبحسبِ ظروفِ كلِّ دعوى ، على أنّه ليستْ مُطلقةً حريَّتُهُ في استعمالِهِ للشهادةِ كوسيلةِ إثباتٍ ، إذْ إنّهُ ينبغي عليهِ أنْ يُراعي رؤيةَ المشرِّعِ بأنّهُ قدْ يطلبُ في بعضِ الحالاتِ لإثباتِ واقعةٍ محدَّدةٍ الوسيلةَ الكتابيّةَ كإثباتِ الجنسيّةِ بالشهاداتِ الرسميّةِ .

ثانياً : الخبرةُ : وهي الاستشارةُ الفنيّةُ الّتي يأخذُ بها القاضي أوْ المحقّقُ في مجالِ الإثباتِ لمعونتِهِ في تحديدِ المسائلِ الفنيّةِ الّتي يتطلّبُ تقديرُها تراكماً معرفيّاً فنيّاً أوْ ثقافةً علميّةً لا تتوافرُ لدى عضوِ السلطةِ القضائيّةِ بحكمِ ثقافتِهِ وعملِهِ[45] .

ثالثاً : المعاينةُ : ويُرادُ بها تحرّكُ المحكمةِ تجاهَ مكانِ الواقعةِ المتعيّنِ اثباتُها ، سواءٌ ارتبطَ الأمرُ بعقارٍ أوْ منقولٍ ، أوْ الإطلاعِ على أوراقٍ محدّدةٍ يصعبُ أوْ  يتعذّرُ نقلُها ، أوْ تحديدُها ملفّاً بمراعاةِ الحالاتِ المقرّرةِ ، وللمحكمةِ  في قبولِ طلبِ الانتقالِ للمعاينةِ سلطةٌ تقديريّةٌ ، ولَها أيضاً أنْ تقرِّرَ دونَ الحاجةِ إلى طلبِ الأطرافِ[46].

رابعاً : القرائنُ : وهي إماراتٌ وشواهدٌ أقرّها المشرِّعُ أوْ استنبطَها القاضي منَ الواقعةِ المعروضةِ عليهِ ، تقفُ معَ المدّعي في دعواه أوْ تقفُ ضدَّهُ [47] .

 

الفرعُ الثاني: القواعدُ الاجرائيّةُ

أمّا القواعدُ الإجرائيّةُ في الإثبات، فهي الأوضاع التي تجب عند سلوك كل طريق من طرق الإثبات أمامَ القضاء، وهي التي رسمها القانون لتعلقها بنظام التقاضي، ومِنْ ثمّ فإنّها تتصل بالنظام العام، لأنّ المشرّع قد وضع القواعد الإجرائية لخدمة العدالة حتى إنّه رسم على هديها إجراءات التقاضي، فيلتزم بها الخصوم ويحترمها القضاء، ولا يستطيع أحد فرض الإجراءات على المحاكم، بل ولا تملك المحاكم حقّ تطبيق الإجراءات غير الّتي قرّرها المشرّع، ولا يمكن للخصوم الاتفاق على اتخاذ الإجراءات غير المقرّرة في التشريع، كما توجد صلة وثيقة بين القواعد الموضوعية والإجرائية في الإثبات حيث يتعذّر الفصل بينهما، إذْ تُلغى الفوارق الطبيعية بينهما في الإثبات، وهي فوارق تظهر أثرها في مواضع متعددة سواء من حيث القواعد الواجبة التطبيق أمْ مِنْ حيث المكان، وكذلك مِنْ حيث الحلول الواجب الأخذ بها من حيث الزمان وفي كليهما معاً، لتيّسر على صاحب الحقّ التعرّف على حقه؛ ذلك إنّ قواعد الإثبات ذات طبيعة واحدة لأنّها بطبيعتها لا تتطبق إلّا في حالات الحصول على الحماية القضائية للحقّ وهو ما يجعلنا نُفرد للإثبات الإداري قانوناً خاصّاً مستقلّاً تغلب عليه النزعةُ الإداريّةُ في مجال القانون العام[48].

ونظراً لهذا الاختلاف في قواعد الإثبات بينَ موضوعيّةٍ وإجرائيّةٍ ، اختلفت التشريعات في مختلف النظم القانونية في تحديد مكان قواعد الإثبات، فمنها من ذهب إلى تأكيد استقلالية قواعد الإثبات وجمعها في قانون موحّدٍ مستقلٍّ يُسمّى قانون الإثبات، حيث ذهبتْ بعضُ الأنظمة إلى الأخذِ بهذا الاتجاه في تنظيم قواعد الإثبات، سواءٌ كانت موضوعيّةً أوْ إجرائيّةً بقانون واحد هو قانون الإثبات، وهذا ما سار عليه المشرّعُ في النظام الأنجلو أمريكي وقانون الإثبات الجزائريّ رقم (21) لسنة 1992 وقانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979م وقانون الإثبات المصريّ رقم (25) لسنة 1968م [49].

ويذهب اتّجاه آخر إلى تغليب الصلة بين القواعدِ الموضوعيّةِ وقواعدِ الإثباتِ ، وبالتالي إدراجها في إطار نصوص القانون المدني، في حين نظّمت القواعد الإجرائية في قانون المرافعات، وذلك على أساس أنّ قاعدةَ الإثبات ترتبط بالحقّ الّذي تنظّمه القاعدةُ الموضوعيّةُ ، إذْ هيَ الّتي تمنحهُ قيمةً قضائيّةً ، على أساس أنّ الحقَّ لا قيمةَ له إذا لم يُوجدْ دليلٌ يثبت وجوده وهذا ما أخذَ به المشرّع المصريّ في ظل التقنينِ المدنيّ القديم وكذلك المشرّع الجزائريّ في القانونِ المدنيّ[50].

وذهبت أنظمة أخرى إلى تغليب الصلة بين قواعد الإثبات وقانون المرافعات، فأدخلت قواعد الإثبات في قانون المرافعات واعتبرتها جزءاً منه، ومن هذه الأنظمة النظام اللبناني والألماني ويبرر هذا الاتجاه موقفه؛ بأنّ قواعد الإثبات جميعها تتّصل بتنظيم العمل أمامَ القضاء والإثبات بقواعده لا يكون إلّا أمامَ القضاء في المنازعات المعروضة عليه، كما أنّ الإثباتَ بقواعده وإجراءاته شعبة من شعاب قاعدة أساسية في المرافعات تتّصل بدور القاضي في نظرِ الدّعوى وكونه الملزم بالحكم فيها، وهذا الالتزام يستمد من القانون وليس من مشيئة الأفراد، فمتى أقام الخصوم دعواهم إلى القضاء أصبح من شأن القاضي تسيير الدعوى وأداء واجبه فيها، لأنّ القاضي إنّما يقومُ في هذا الصدد بأداء وظيفة عامة، كما أنّ وضع قواعد الإثبات في قانون المرافعات لا يحول دون القول بأنّ بعضاً من قواعد الإثبات تعدّ قواعد موضوعية ومِنْ ثمّ لا يجبُ أنْ يشملها القانون الإجرائي، لأنّ قانون المرافعات وإنْ كان قانوناً إجرائياً؛ إلّا أنّه يشمل أيضاً قواعد موضوعية مثل تنظيم القضاء وتحديد درجات التقاضي وغير ذلك من القواعد الموضوعية التي يتضمنها قانون المرافعات[51].

إنّ قانون الإجراءات (المرافعات) بشكل عامٍّ ، هو عبارةٌ عن مجموعة القواعد الّتي تنظّم نشاط السلطة القضائية، بهدف الوصول إلى تطبيق القواعد الموضوعية وبذلك، فالقاعدة الإجرائية لا تهتم بموضوع النزاع من حيث تحديد الحقوق والالتزامات الخاصة بالأشخاص، بل تهتم فقط بطريقة طرح النزاع على القضاء، بما يجعل من عملية الفصل في النزاع عملية منظمة من شأنِها تحقيق العدالة المرجوّة من التقاضي[52].

تحكمُ الإجراءاتُ المدنيّةُ والإداريّةُ في العراق بقانون المرافعات المدنيّةِ والذي ينصّ على أنّه «يكونُ هذا القانون هو المرجع لكافّة قوانين المرافعات والإجراءات إذا لمْ يكُنْ فيها نصٌّ يتعارضُ معه صراحة»[53]. وكذلك قانونُ الإثبات العراقي والذي نصّ على أنّهُ «توسيع سلطة القاضي في توجيه الدعوى وما يتعلّق بها من أدلّة بما يكفل التطبيق السليم لأحكام القانون وصولاً إلى الحكم العادل في القضية المنظورة»[54]، وكذلك نصَّ على أنّه «القضاءُ ساحةٌ للعدلِ ولإحقاقِ الحقّ ممّا يقتضي صيانته من العبث والإساءة ويوجب على المتخاصمين ومَنْ ينوب عليهم الالتزامُ بأحكام القانون وبمبدأ حسن النية في تقديم الأدلة وإلّا عرض المخالف نفسه للعقوبة»[55]، وكذلك نصَّ على أنّه «للقاضي أنْ يأمرَ أيّاً منَ الخصوم بتقديم دليل الإثبات الذي يكون بحوزته، فإنْ امتنع عن تقديمِه جاز اعتبارُ امتناعِه حجّةً عليه»[56]، وكذلك نصّ على أنّهُ «يجبُ أنْ تكونَ الواقعةُ المرادُ إثباتُها متعلّقةً بالدعوى ومنتجةً فيها وجائزاً قبولُها»[57].

تحكم الإجراءات المدنيّة والإداريّة في مصر بقانون قانون المرافعات المدنية والتجارية المصريّ أو قانون المرافعات المصريّ هو القانون الذي يتولّى تنظيم القسضاء المصريّ بتحديد نطاقِ المحاكمِ المصريّةِ وترتيبها واختصاصاتها، والإجراءات واجبةُ الاتباع أمامها، والقواعد الخاصة بالقضاة ورجال النيابة العامة والمحامين والكَتَبة والمحضَرين. كما يُحدّد إجراءات التقاضي ورفع الدعوى، ويحدّد المحكمةَ الّتي يمكنُ للشخصِ رفعُ دعواه أمامَها، ووسائل الدفاع أمامها، وطرق إصدار الأحكام وطرق الطعن فيها. كذلك يتولّى العملُ على حماية حقوق المتقاضين، فهو يحدّدُ الأصولَ والإجراءات الّتي يجب أنْ تلتزمَ بها المحاكمُ ؛ لإقامةِ العدلِ بين الناسِ والمتقاضينَ لاستيفاءِ حقوقِهم.

وهو قانونٌ إجرائيٌّ شكليٌّ ؛ بمعنى أنّه يهتم الإجراءات والشكليات التي يجب العمل بها عند التعامل مع السلطة القضائية في مصر. فهو لا يهتم بحماية المصالح الخاصة للأفراد بقدر اهتمامه بحماية الوسائل القانونية التي تتكفّل هي بحماية تلك المصالح. ولأنّ قانونَ المرافعات المصري ينظّمُ عملَ القضاء المدني والتجاري في مصر، فهو بالتالي، يُعدّ موازياً لقانون الإجراءات الجنائية المصري الذي ينظّم عمل القضاء الجنائي المصري، ولقانون مجلس الدولة المصري الذي ينظم عمل القضاء الإداري المصري. ومع ذلك، يحتوي قانون المرافعات على العديد من المبادئ العليا التي تحكم القضاء بمختلف أنواعه (مدنيّ أو جنائيّ أو إداريّ)، والسبب في ذلك هو الأسبقيّة التاريخيّة لقانون المرافعات، ومن أمثلة هذه المبادئ: مبدأ استقلال القاضي، وحياده، وحقّ الدفاع[58].

إنّ قانون الإجراءات المدنيّة والإداريّة -في الجزائر- في تقديره لكيفية طرح النزاع على الجهات القضائيّة، يقسّم هذه الإجراءات إلى أقسام[59]، فهنالك قسمٌ خاصٌّ بالدعوى وقسمٌ خاصٌّ بالاختصاص القضائيّ وقسمٌ خاصّ بالخصومة وآخر خاصّ بالأحكام... إلخ وتتفاوت هذه التقسيمات من مشرّع إلى آخر حسب الزاوية التي ينظرُ منها إلى الإجراءات وبالرجوع لقانون الإجراءات المدنية والإدارية فإنّنا نجدُ أنّ المشرّع إهتمّ بالإثبات على المستويين؛ المستوى الأوّل يتعلّق بكيفية تقديم الدليل أمام القضاء . وفي هذا الإطار نجد على سبيل المثال حرص المشرع على ضرورة تبليغ الأدلة الكتابية وكذلك تحديده لكيفية الطعن في الدليل المقدم (مثل إثارة مسألة تزوير المحررات ودعوى مضاهاة الخطوط وكذلك مسألة التجريح في الشهود وردّ الشهود ...إلخ) أمّا المستوى الثاني فيتمثّل في إعطاء المشرّع لوسائل إثبات يستعين بها القاضي مثل الخبرة والمعاينة والانتقال للأماكن[60].

رغم أنّ المشرّع الجزائري حاول أنْ يُغلّبَ الجانب الإجرائيّ في تطرّقهِ لمسائل الإثبات، إلّا أنّ الجانبَ الموضوعيّ كان حاضراً، حيث تطرّق إلى سنّ الشاهد وقرابته وهذه المسائل من صميم موضوع الشهادة، فهي لا تتعلق بشكل الشهادة ومن ثم لا تعتبر مسألة إجرائية بالمعنى الدقيق، فتحديدُ مَنْ لهم حقّ الشهادة هي مسألةٌ مرتبطةٌ بالموضوع أكثر من الإجراءات، وقد يجد المشرّعُ تبريره في تعرضّه للمسائل الموضوعيّة ، في أنّ ذلك مِنْ شأنه تسهيل مهمة القاضي حتّى لا يرجع في كلّ مرّة للبحث في هذه الضوابط، غير أنّ هذا التبرير لا يكفي ، خاصّة أنّ القاضي يتوجّب عليه أثناء القيام بعمله الاعتماد على القانون الموضوعيّ والقانون الإجرائيّ في آنٍ واحدٍ[61].

ورغم خلاف الفقه حول الطبيعة القانونية للإثبات، فالبعض يرى أنّ له طبيعة موضوعية كونه ينظّم الحقوق المتنازع عليها[62] ويذهب الفقه السائد إلى تغليب الطبيعة الإجرائيّة على مسائل الإثبات باعتبار عملية الإثبات لا تكونُ إلّا أمام القضاء، وبالتالي فإنّ الطبيعة الإجرائية هي الغالبة[63].

لذا فإنّنا نرى أنّ الطبيعة المختلطة لقواعدِ الإثبات بينَ الموضوعيّةِ والإجرائيّةِ ، وتعذّر الفصل بين قواعد الإثبات وإجراءاته يفضل معها تخصيص قانون مستقلّ للإثبات، بما يؤدّي إلى التيسير على صاحب الحقّ في التعرّف على ما يستند حقّه من دليلٍ وطريق تقديمه للقضاء.

ويبدو أنّ النقاش في مسألة مكانة قاعدة الإثبات له بعض الأهمية النظريّة إلّا أنّه قليل الأهمية العملية، ذلك أنّ هذه المسألة لا تستوقف القضاء كثيراً في الواقع العملي، حيث درج القضاء على تطبيق هذه القواعد سواء كان موضعها إلى جانب القواعد الموضوعية أو كان في قانون مستقل.

 

المطلبُ الثاني: مدَى تعلّقِ قواعدِ الإثباتِ بالنظامِ العامّ

إنّ لقواعدِ الإثباتِ نوعينِ منها ما هو موضوعيّ ، وهو ما يتعلّق بمحلّ الإثبات، وأشخاص الإثبات، وعبء الإثبات، وطرق الإثبات، وقوتها، وهو ما يُطلق عليه المبادئ العامة لنظرية الفقه الإثبات[64]. ومنها ما هو إجرائيّ ، وهو ما يتعلّق بإجراءات تقديم الدليل أمام القضاء، إذْ يجمعُ على أنّ القواعد الإجرائية في الإثبات تتعلّق بالنظام العام، إذْ إنّها تتّصل بإجراءاتِ التقاضي، ونظامه، ولذلك تعتبر قواعد آمرة ولا يجوز الاتفاق على مخالفتها أو تعديلها، كما لا يجوز التنازل عنها، ويجب على القاضي مراعاتها من تلقاء نفسه[65]. أمّا القواعد الموضوعيّة في الإثبات ومدّى تعلقها بالنظام العام، فهي ليست من الأمور المُسلَّم بها، بل هناك خلاف بين اتجاهين حول ما إذا كانت تتعلق بالنظام العام أمْ لا[66].

لتحديد ما إذا كانت قواعد الإثبات متعلقة أو غير متعلقة بالنظام العام[67]، أهميته التي تظهر في النتائج التي تترتب على اعتبار القاعدة متعلقة بالنظام العام، وهي جواز التمسك بها في أية مرحلة من مراحل الدعوى ولو لأوّل مرّة أمام جهة النقض، وعدم إمكان الاتفاق على خلافها، صراحة أو ضِمناً ، وإلّا كان الاتّفاق باطلاً ، كما أنّه يجب على القاضي رفض هذا الاتفاق مِنْ تلقاء نفسه.

أمّا إذا اعتبرت قواعد الإثبات غير متعلقة بالنظام العام، فيترتب على ذلك عكس هذه النتائج، فيكون للأفراد حرية بشأنها يمكنهم التمسك بها أو مخالفتها صراحة أو ضِمناً ولا يمكنهم إثارة هذه القواعد لأوّل مرّة أمام جهة النقض[68].

وقد انقسم الفقهُ حولَ هذه المسألةِ إلى اتّجاهين؛ أحدِهما يقولُ بالطبيعةِ الآمرةِ لقواعدِ الإثباتِ والآخرِ يرى بأنّ قواعدَ الإثباتِ ذاتَ طبيعةٍ مُكمّلةٍ أو مفسّرةٍ في جانبِها الموضوعيّ دونَ الجانبِ الإجرائيّ. ومِنْ هُنا يتمّ تقسيمُ هذا المطلبِ على فرعينِ حسبَ ما وردَ أعلاهُ .

الفرعُ الأوّلُ: الطبيعةُ الآمرةُ لقواعدِ الإثباتِ

يذهبُ أنصار هذا الاتجاه إلى اعتبار جميعِ القواعد المنظّمة للإثبات من قبيل القواعد الآمرة وبالتالي لا يجوز للأطراف أنْ يتفقوا على خلافها، كما يرون أنّ المصلحة العامة تقتضي قيام جهاز القضاء بوظيفته على أحسن وجه، دون أنْ يعرقل هذه الوظيفة اتفاقات الأطراف.

وطالما أنّه لا يوجد في النصوص القانونية المحدّدة لوسائل الإثبات (قانون مدني أو قانون الإجراءات) ما يوحي بأنّها مكملة أو مفسرة لإرادة الطرفين، فهي ذات طبيعةٍ آمرةٍ لكونها لمْ تُحِل إلى الاتفاق أوْ العُرفِ ، كما هو الحال عليه بالنسبة للقواعد المفسرّة في القانون[69]. ويرى أنصار هذا الاتجاه أنّ ذلك هو ما يتفق مع الاتجاه السائد الآنَ في مختلف التشريعات نحو مزيد من حرية القاضي في تسيير الدعوى وإجراءات الإثبات([70]).

ففي العراقِ نجدُ أنّ اضطلاع القاضي بدورٍ إيجابيّ سيرفع من كفاءة النصوص، كما إنّه سيسدّ النقص التشريعيّ في ظل غموض النصّ أو غيابها؛ إذْ إنّ القاضي بدورهِ يعمدُ إلى طريقِ الاستنتاجِ والاستنباطِ واستعمالِ طرقِ القياس واعتمادِ أساليب التفسير وجمعِ الأدلّةِ والتحرّي عنها ، هذا لاستكمال قناعتهِ في ما هو كائن من وقائعَ لإصدار الحكمِ، وبذلك سيرتفعُ القاضي بالتطبيق السليمِ للنصوصِ في ظلّ وجودِها، أو البحث عن بديلٍ أفضل عنها في ظلِّ غيابِها، وقد مُنِحتْ هذه الفرصةُ للقاضي في المادةِ (۱/۱) من القانون المدنيّ العراقيّ رقم (٤٠) لسنة ١٩٥١م الّتي نصّت على الآتي: «تسري النصوصُ التشريعيّةُ على جميعِ المسائلِ الّتي تتناولُها هذه النصوصُ في لفظِها أوْ في فحواها»، كما جاءت الفقرةُ (۲) من المادةِ نفسِها بالنصِّ على ما يأتي : “فإذا لَمْ يُوجدْ نصٌّ تشريعيٌّ يمكنُ تطبيقُه حكمتْ المحكمةُ بمقتضى العرفِ فإذا لم يُوجَد فبمقتضى مبادئ الشريعةِ الإسلاميّةِ الأكثرِ ملاءَمةً لنصوصِ هذا القانونِ دونَ التقيّدِ بمذهبٍ معيّنٍ، فإذا لم يُوجدْ فبمقتضى مبادئِ العدالةِ”، وهذا يعني أنّهُ على القاضي أنْ لا يرفضَ الحكمَ في الدعوى بحجّةِ غيابِ النصِّ في جميعِ الأحوالِ لوجودِ بدائلَ عدّةٍ عن النصِّ تنتهي بقواعدِ العدالةِ، وبذلك سيلتقي المشرّعُ والقاضي عندَ المنطقةِ الّتي يسعى كلٌّ منهما للوصولِ إليها ألَا وهي العدالةُ، منْ خلالِ استعمالِ القاضي للقواعدِ الأصليّةِ في الحكمِ (النصوصِ) أو الاحتياطيّةِ على التفصيلِ الواردِ في الفقرةِ (٢) أعلاه، ومنَ العواملِ المساعدةِ للدورِ الإيجابيّ للقاضي عدمُ اعتمادِ القضاءِ العربيّ بشكلٍ عامٍّ  والقضاءِ العراقيّ بشكلٍ خاصٍّ، على أسلوبِ السوابقِ القضائيّةِ بشكلٍ مستقرٍّ، وبالمقابلِ اعتمادُ أسلوبِ الاجتهادِ القضائيّ الحرِّ[71].

أمّا الفقهُ في مصرَ، فيذهبُ أغلبُهُ إلى القولِ بأنّ قواعدَ الإثباتِ ليستْ منَ النظامِ العامِّ ثمّ يعودُ ليتحفّظَ بقولِهِ «إذْ يُوجدُ حقّاً من هذه القواعدِ ما تُوحي طبيعتُهُ أنّهُ منَ النظامِ العامِّ”. وعليهِ ذهبَ بعضُ الفقهاءِ إلى هذا الاتّجاهِ، ولكنْ مع بيانِ ما إذا كانتْ تعدُّ منْ قواعدِ الإثباتِ الموضوعيّةِ المتعلّقةِ بالنظامِ العامِّ، أمْ لا[72].

 

الفرعُ الثاني: الطبيعةُ المكمّلةُ للقواعدِ الموضوعيّةِ دونَ القواعدِ الإجرائيّةِ للإثباتِ

يفرّق هذا الاتجاهُ بينَ القواعدِ الإجرائيّةِ والموضوعيّةِ، فالقواعدُ الإجرائيّةُ هي تلكَ القواعدُ الّتي تنظّمُ إجراءاتِ الإثباتِ تنظيماً إجرائيّاً وشكليّاً، فهي تُبيّنُ الإجراءاتِ الواجبَ إتّباعُها في إثباتِ الدعوى، وكيفياتِ الاستنادِ إلى أيِّ دليلٍ مِنْ أدلّة الإثباتِ، كما هو الحالُ بالنسبةِ لإجراءاتِ سماعِ الشهودِ وقيامِ الخبيرِ بعملِهِ وإجراءاتِ الانتقالِ للمعاينةِ ، فهي إذنْ الأوضاعُ الّتي يجبُ مراعاتُها في سلوكِ أيِّ طريقٍ مِنْ طُرُقِ الإثباتِ أمامَ القضاءِ الإداريّ ، وهذه الإجراءاتُ وضعَهَا المشرّعُ لتعلُّقِهَا بنظامِ التقاضي أمامَ الجهاتِ القضائيّةِ الإداريّةِ ، فهي تتعلّقُ بالنظامِ العامّ[73].

يرجعُ اعتبارُ هذه القواعدِ منَ النظامِ العامِّ إلى أنّ المشرّعَ قدْ وضَعَها قصدَ تحقيقِ العدالةِ والمساواةِ بينَ الخصومِ في الدعوى، ووضعَ على أساسِها إجراءاتِ التقاضي الّتي يَلتزمُ بها الخصومُ والقاضي الإداريّ على حدٍّ سواءٍ، فلا يمكنُ للأطرافِ في المنازعةِ الإداريّةِ اتّخاذُ إجراءاتٍ غيرِ منصوصٍ عليها قانوناً، كما لا يمكنُ للقاضي الإداريّ تطبيقُ إجراءاتٍ غيرِ مقرّرَةٍ ومُحدّدَةٍ في القانونِ[74]. وبالتالي فالقواعدُ الإجرائيّةُ لا تُلزِمُ الخصومَ فقطْ ، بل يلتزمُ بها القاضي أيضاً معَ مراعاةِ ما يُخوِّلُهُ له القانونُ مِنْ حريّةٍ في التقديرِ في بعضِ الحالاتِ.

أمّا فيما يتعلّقُ بالقواعدِ الموضوعيّةِ، فهيَ مجموعُ القواعدِ المتعلّقةِ بمحلِّ الإثباتِ عِبئِه وطُرُقِهِ ،  أيّ ما تعلّق منها ببيانِ الشروطِ الواجبِ توافرُها في محلِّ الإثباتِ، والحالاتِ الّتي يجبُ سلوكُ كلِّ طريقٍ منْ طُرُقِ الإثباتِ، وما لكلِّ دليلٍ منْ حجيّةٍ[75].

ويذهبُ هذا الاتّجاهُ إلى أنّ قواعدَ الإثباتِ الموضوعيّةَ يجوزُ الاتّفاقُ على مخالفتِها، فقدْ قضتْ محكمةُ النقضِ المصريّةِ : “إنّ قواعدَ الإثباتِ وبصفةٍ خاصّةٍ بالنسبةِ لمسألةِ تَحمُّلِ عبءِ الإثباتِ ومسألةِ الإثباتِ بشهادةِ الشهودِ في الحالاتِ الّتي تجبُ فيها الكتابةُ لا تتعلّقُ بالنظامِ العامّ[76]. فهي بحسبِ الأصلِ ليستْ منَ النظامِ العامِّ ، غيرَ أنّ حرّيةَ الأطرافِ في هذا المجالِ ليستْ مُطْلقةً ، إذْ ترِدُ عليها عدّةُ استثناءاتٍ تحدُّ منها، فهناك مَنْ بيّنَ قواعدَ الإثباتِ الموضوعيّةِ ما تُوحي طبيعتهُ بأنّهُ منَ النظامِ العامِّ ، وبالتالي لا يجوزُ للأطرافِ الاتّفاقُ على مخالفةِ ما تقضي بهِ هذه القواعدُ، ومِنْ أمثلتِها القواعدُ الّتي تنصُّ على حُجيّةِ الورقةِ الرسميّةِ لحينِ الطعنِ فيها بالتزويرِ، وحجيّةِ القرائنِ القانونيّةِ القاطعةِ في كثيرٍ منَ الأحوالِ. وكذلكَ القواعدُ المتعلِّقَةُ بالضماناتِ الأساسيّةِ لحقِّ الدفاعِ ، كما هو الحالُ بالنسبةِ لقاعدةِ المجابهةِ بالدليلِ. ويُؤدّي اعتبارُ هذه القواعدِ منَ النظامِ العامِّ إلى نتائجَ هامّةٍ منْها أنّه يجوزُ التمسّكُ بها مِنَ الخصومِ في أيّةِ مرحلةٍ تكونُ عليها الدعوى الإداريّةُ ، ولوْ لأوّلِ مرّةٍ أمامَ مجلسِ الدولةِ ، كما يمكنُ للقاضي إثارتُها مِنْ تلقاءِ نفسهِ إذا لَمْ يَقُمْ الأطرافُ بإثارَتِها[77].

ونحنُ نؤيّدُ هذا الاتجاهَ الّذي أَتَى بهِ (أ. يحيى بكّوش) بأنّ المشرّعَ وضعَ القواعدَ الإجرائيّةَ للحدِّ منْ سُلطةِ القاضي وتحكُّمِهِ ، ومنعهُ منَ القضاءِ حسبَ قناعتِهِ الوجدانيّةِ ، فَمنَ المنطقيّ أنْ تُعدَّ هذه القواعدُ آمرةً ، في حينِ تبقى هذهِ القواعدُ الموضوعيّةُ الّتي تمسُّ بالحقوقِ الخاصّةِ خاضعةً لإرادةِ الخصومِ – كأصلٍ عامٍّ - يتصرّفون فيها تَبَعَاً لرغباتِهِم[78].

ونشيرُ إلى أنَّ الإثباتَ أمامَ القضاءِ الإداريّ بخصوصِ دعوى الإلغاءِ يتعلّقُ بالنظامِ العامِّ وذلكَ بالنظرِ إلى الطبيعةِ الموضوعيّةِ لهذهِ الدعوى، لأنّها تترتّبُ على علاقاتٍ إداريّةٍ يُطبَّقُ عليها القانونُ الإداريُّ، وتدورُ حولَ منازعةٍ إداريّةٍ تثورُ دِفاعاً عَنْ مركزٍ موضوعيٍّ، كما أنّ دعوى الإلغاءِ تهدفُ إلى حمايةِ مصلحةٍ عامّةٍ، بحيثُ لا يُمكنُ تركُ أمرِها للخصومِ ، إنّما يجبُ على المشرّعِ والقضاءِ التدخّلُ لحمايتِهِا وتنظيمِها . فضلاً عنْ ذلكَ فإنّ أطرافَ دعوى الإلغاءِ غيرُ متساوينَ عادةً ، فالإدارةُ تملكُ قَدْرَاً كبيراً منْ وسائلِ الإثباتِ وذلكَ لما تتمتّعُ بهِ منْ امتيازاتٍ،  يكونُ الفردُ عادةً في مركزٍ ضعيفٍ لِمواجَهَتِهَا . كما تَقِفُ الإدارةُ في الدعوى بمركزِ المدَّعَى عليهِ ، وهو مركزٌ يسيرٌ لا يُلقي عليهَا أعباءً ثقيلةً . وإنّ افتراضَ وجودِ اتّفاقٍ بشأنِ تنظيمِ عبءِ الإثباتِ لصالحِ الإدارةِ يُزيدُ الأمرَ صعوبةً على الأفرادِ ، فإذا اتّفقتْ الإدارةُ معَ الأفرادِ على أنْ تمتنعَ عنْ تقديمِ وثائقَ ومستنداتٍ منتجةٍ في الدّعوى عندَ حدوث ِنزاعٍ ما بشأنِهَا ، وأنْ لا يُعدّ هذا الامتناعُ قرينةً تنقلُ عبءَ الإثباتِ عليها، فما هيَ القيمةُ القانونيّةُ لمثلِ هذا الاتّفاقِ؟ لذا فقواعدُ الإثباتِ في دعوى الإلغاءِ لا يُمكِنُ تركُ أمرِها للخصومِ، كما أنّ أيّ اتّفاقٍ يُخالفُ هذه القواعدَ يُعدُّ باطلاً لمخالفتهِ النظامَ العامَّ[79].

ما يهمُنَا منْ هذهِ الوسائلِ هوَ البحثُ عنْ طبيعةِ الوسائلِ كقواعدِ إثباتٍ وما مدَى تعلُّقِها بالنظامِ العامِّ؟

للإجابةِ عنْ هذهِ الإشكاليّةِ تقتضي منّا التمييزُ بينَ طبيعةِ الإثباتِ المتعلّقَةِ بالوقائعِ الماديّةِ وطبيعةِ إثباتِ الخاصّةِ بالتصرُّفَاتِ القانونيّةِ.

الوقائعُ الماديّةُ : يجوزُ إثباتُها بكافّةِ وسائلِ الإثباتِ ، مِنْ أوراقٍ وقرائنَ وشهادةِ الشهودِ ، وهي وقائعُ لا يُمكنُ توقُّعُها في أغلبِ الأحيانِ ، فلا يُتَصوَّرُ تحضيرُ وسيلةِ إثباتٍ لها ، ومثالُهَا : حوادثُ المرورِ، حوادثُ العملِ...إلخ.

ولقدْ أضافتْ المحكمةُ العُليا حتّى إمكانيّةِ الإثباتِ عَنْ طريقِ محاضرِ الشرطةِ أوْ المحاضرِ الّتي يُحرِّرُها المحضرُ القضائيُّ، وهذا ما أكّد عليهِ في قرارِهِ الصادرِ بتأريخِ 5/5/1990 م في قضيّةِ رئيسِ بلديّةِ تيزي وزو  وَمَنْ مَعَهُ ضدَّ ع. ع ومَنْ مَعَهُ[80].

التصرُّفاتُ القانونيّةُ : هي تلكَ التصرُّفاتُ الّتي تأخذ ُشكلَ عقودٍ أوْ تصرُّفاتٍ منفردةٍ ، فالحالةُ الأولى نجدُها في صورةِ عقدٍ مكتوبٍ مَا بينَ الإدارةِ والفردِ ، والثانيةُ تتجسّدُ في شكلِ قرارٍ إداريٍّ تنظيميٍّ أو فَرْديٍّ، ولا يُثارُ غالباً مُشْكِلُ الدليلِ الإثباتيّ بشأنِ هذهِ التصرُّفاتِ ، وذلكَ لصياغتِها في قالبٍ مكتوبٍ وهوَ ما يُضفي عليها الطابعَ الإلزاميَّ.

وعليهِ فالإثباتُ في التصرُّفاتِ القانونيّةِ يُعدُّ منَ النظامِ العامِّ ، لكونِ القانونِ أوجبَ على الإدارةِ احترامَ الشكلِ الكتابيِّ في تصرّفاتِها. كما يجبُ على الأطرافِ أثناءَ تحريكِ الدعوى الإداريّةِ احترامُ مواعيدِ الإثباتِ أمامَ القضاء الإداري، وإلّا فقدَ الإثباتُ مفعولَه، إذْ إنّ القواعدَ الّتي تَحكمُ المواعيدَ ذاتُ صبغةٍ آمرةٍ ، ونادراً ما تكونُ الإدارةُ هي المدّعيةُ فلا يُمكنُ أنْ يحصلَ اتّفاقٌ معَ الفردِ حولَ وسائلِ الإثباتِ.

ولقدْ عدّتْ الغرفةُ الإداريّةُ للمحكمةِ العُليا سابِقاً قواعدَ الإثباتِ المنصوصَ عليها في القانونِ المدنيّ منَ النظامِ العامِّ في القرارِ الصادرِ في 25/7/1995 م قضيّةِ ب.ر.و.م ضدَّ بلديّةِ العلمةِ فيمَا يتعلّقُ بالإثباتِ بموجبِ عقدٍ عرفيّ[81].

التمييزُ بينَ القواعدِ الاجرائيّةِ والقواعدِ الموضوعيّةِ : إنّ قواعدَ الإثباتِ مِنْها ما هوَ موضوعيٌّ يتعلّقُ بمحلِّ الإثباتِ وأشخاصِ الإثباتِ وعبءِ الإثباتِ وطُرُقِ الإثباتِ وقُوّتِها ، ومِنْهَا ما هو إجرائيٌّ يتعلّقُ بإجراءاتِ تقديمِ الدليلِ إلى القضاءِ.

لذلك فإنَّ القواعدَ الاجرائيّةَ متعلّقةٌ بالنظامِ العامِّ فهي قواعدُ آمرةٌ لا يجوزُ الاتفاقُ على مخالفَتِها أوْ تعديلِها كما لا يجوزُ التنازلُ عنهَا ، ويجبُ على القاضي مراعاتُهَا مِنْ تلقاءِ نفسِهِ ، أمّا القواعدُ الموضوعيّةُ فقدْ اختلفَ الفقهاءُ على مدى تعلُّقِها بالنظامِ العامِّ:

يذهبُ رأيٌ إلى تعلُّقِها بالنظامِ العامِّ على الاطلاقِ لارتباطِ هذه القواعدِ بتنظيمِ القضاءِ وحسنِ سيرِ العدالةِ ولا يجوزُ الاتّفاقُ على مخالفَتِها.

ورأيٌ آخرُ يرى عدمَ تعلُّقِها بالنظامِ العامِّ لارتباطِها بمصالحِ الأفرادِ الخاصّةِ ، ولذلكَ يجوزُ الاتّفاقُ على مخالفَتِها وتعديلِها.

أمّا الرأيُ الراجحُ : إنَّ قواعدَ الإثباتِ ليستْ منَ النظامِ العامِّ[82] على أساسِ اعتبارين هما:

الاعتبارُ الأوّلُ: إنّ قواعدَ الاثباتِ تتعلّقُ بحقّ الأفرادِ الخاصّةِ ، فإذا كانَ لهم التنازلُ عنْ حقوقِهِم الخاصّةِ أوْ تعديلِها فلا يجوزُ لهم تعديلُ طرقِ إثباتِها.

الاعتبارُ الثاني: إنّ الإثباتَ حقٌّ للخصومِ ، ففي الوقتِ الّذي يلتزمُ فيه القاضي بمبدأِ الحيادِ يكونُ لهم الاتفاقُ على القواعدِ الّتي يريانَها أقربَ إلى أداءِ العدالةِ.

الخاتمةُ:

ونحنُ نصلُ إلى نهايةِ هذا البحثِ يتوجّبُ علينا أنْ نُحدّدَ أبرزَ الاستنتاجاتِ وأهمَّ التوصياتِ الّتي خلَصنا إليها وذلك في نقطتين، وكما يأتي:

أوّلاً: الاستنتاجاتُ:

يمكنُ القولُ بأنّ أبرزَ الاستنتاجاتِ هي:

إنّ الإثباتَ في الدعوى الإداريّةِ يفتقدُ إلى قانونٍ خاصٍّ ينظّمهُ في الدولِ الّتي تأخذُ بمبدأِ ازدواجيّةِ القضاءِ كما هو الحالُ في مصرَ والجزائرِ والعراقِ، إذْ تُطبّقُ بعضُ النصوصِ المتفرقةِ والقليلةِ الواردةُ في القانونِ الإداريّ ، الّتي تمنحُ القاضي السلطةَ التقديريّةَ ، وكذلك بعضُ المبادئِ الّتي استقرّ العملُ بها ، الّتي تُخفّفُ مِنْ عبءِ الإثباتِ عنْ المدّعي.

إنّ الإثباتَ في الخصومةِ الإداريّةِ  يتميّزُ عنْ الإثباتِ في الخصومةِ المدنيّةِ وهذا راجعٌ إلى طبيعةِ الدعوى الإداريّةِ الّتي تنشأُ بينَ طرفينِ غيرِ متكافِئَينِ ، وهما الإدارةُ بوصفِها ذاتَ سلطةٍ عامّةٍ الّتي تكونُ غالباً في مركز المدّعَى عليهِ ، وهو مركزٌ مريحٌ عكسَ الفردِ الّذي يكونُ في مركزِ المدّعي، الأمرُ الّذي ينتجُ عنه إختلالٌ في التوازنِ بينَ أطرافِ الخصومةِ الإداريّةِ.

عدمُ وجودِ قانونٍ خاصٍّ بالإثباتِ في المادةِ الإداريّةِ في الدولِ الّتي تأخذُ بالازدواجيّةِ ، ففي التشريعِ العراقيّ والمصريّ والجزائريّ نجدُ بعضَ النصوصِ القليلةِ الواردةِ في قانونِ الإجراءاتِ المدنيّةِ والإداريةِ في منازعاتٍ محدّدةٍ ، الّتي تمنحُ القاضيَ الإداريَّ سُلُطاتٍ، وكذلك بعضَ المبادئِ الّتي استقرّ العملُ بها الّتي تخفّفُ منَ العبءِ الواقعِ على عاتقِ المدّعي.

القاضي الإداريّ يتمتّعُ بدورٍ إيجابيٍّ في مجالِ الإثباتِ عكسَ القاضي العادي، حيثُ يكمنُ هذا الدورُ الإجرائيّ المتمثّلُ في حريّةِ القاضي الإداريّ في تقديرِ وسائلِ الإثباتِ المناسبةِ ، فدورُ القاضي الإداريّ حيويٌّ وفعّالٌ في مجالِ تطبيقِ أدلّةِ الإثباتِ.

 

ثانياً: التوصياتُ:

سنُّ قانونٍ للإجراءاتِ الإداريّةِ خاصٍّ بالقضاءِ الإداريّ ومنفصلٍ عن قانونِ الإجراءاتِ المدنيّةِّ، يتضمّنُ كلَّ ما يتعلّقُ بالدعاوى الإداريّةِ ، وذلكَ احتراماً لخصوصيّةِ المنازعةِ الإداريّةِ منْ جهةٍ وتفادياً للإحالاتِ الكثيرةِ الّتي شهدها قانونُ الإجراءاتِ المدنيّةِ والإداريّةِ إلى الأحكامِ المشتركةِ الّتي لم تكُنْ في محلِّها في أغلبِ الحالاتِ ، وكذلك إزالةٌ للنقصِ والغموضِ الّذي اعترى النصوصَ القانونيّةَ المتعّلقةَ بالإجراءاتِ المتّبعةِ أمامَ الجهاتِ القضائيّةِ الإداريّةِ.

إعادةُ النظرِ في تنظيمِ مسألةِ الإثباتِ في الدعاوى الإداريّةِ منْ خلالِ تنظيمِ جميعِ المسائلِ المتعلّقةِ بالإثباتِ بنصوصٍ واضحةٍ وصريحةٍ ومتلائِمةٍ وطبيعةَ النزاعِ الإداريّ، لاسيما تنظيمُ أحكامِ كلٍّ منَ الإقرارِ والاستجوابِ بما يتناسبُ وخصوصيّةَ المنازعةِ الإداريّةِ.

الأخذُ بالسوابقِ والاتّجاهاتِ القضائيةِ السابقةِ لسنِّ قانونٍ خاصٍّ بالإثباتِ الإداريّ باعتبارِه الجهةَ المُنْشِأةَ لكثيرٍ منَ المبادئِ القانونيّةِ والقواعدِ الموضوعيّةِ والإجرائيّةِ معَ الاستفادةِ منَ الاتجاهِ التشريعيّ للقوانينِ المقارنةِ كمصرَ والجزائرِ.

على المشرّعِ العراقيّ والمصريّ والجزائريّ أنْ يعملَ على إيجادِ نظامٍ خاصٍّ بإثباتِ الدعوى الإداريّةِ ، لكي يكتملَ دورُ القاضي الإداريّ في تحقيقِ الدعوى الإداريّةِ على الوجهِ الّذي يتّفقُ وخصوصيَّتَها ومراكزَ أطرافِها.


 

[1]عبير موسى محمد عابد: الإثباتُ القانونيّ أمامَ القضاءِ الإداريّ، أُطروحةُ دكتوراه ، كليّةُ الدراساتِ العُليا، جامعةُ النجاحِ الوطنيّةُ ، فلسطين، 2017 م ، ص55.

[2] رعد حمود خلف: حجيّةُ وسائلِ الإثباتِ أمامَ القضاءِ الإداريّ دراسةٌ مقارنةٌ، أُطروحةُ دكتوراه، كُليّةُ الحقوقِ، الجامعةُ الإسلاميّةُ في لبنان، بيروت، 2020 م ، ص42.

[3] إبراهيم المنجي: المرافعاتُ الإداريّةُ، ط1، منشأةُ المعارفِ، مصر، 1999 م ، ص503-504.

[4] رعد حمود خلف: مصدر سابق، ص43.

[5]  . شريف أحمد بعلوشة: إجراءاتُ التقاضي أمامَ القضاء ِالإداريّ دراسةٌ تحليليّةٌ مقارنةٌ ، ط1، مركزُ الدراساتِ العربيّةِ، مصر، 2016 م ، ص479.

[6] د. أحمد عبد العال أبو قرين: أحكامُ الإثباتِ في الموادِ المدنيّةِ والتجاريّةِ في ضوءِ الفقهِ والتشريعِ والقضاءِ، ط3، دارُ النهضةِ العربيّةِ ، القاهرة، 2006 م ،  ص13-17.

[7] رعد حمود خلف: مصدر سابق، ص41-42.

[8] د. محمود جمال الدين زكي: المبادئُ العامّةُ في نظريّةِ الإثباتِ في القانونِ الخاصّ، مطبعة جامعة القاهرة، القاهرة، 2001 م ، ص۱۰۱.

[9] د. عبد الرزاق السنهوري: الوسيطُ في شرحِ القانونِ المدنيّ، الإثباتُ وآثارُ الإلتزامِ  ، ج2، منشأةُ المعارف، مصر، 2004 م ، ص41.

[10] الغوثي بن ملحة: قواعدُ وطرقُ الإثباتِ ومباشرتُها في النظامِ القانونيّ الجزائريّ، ط1، الديوانُ الوطنيّ للأشغالِ التربويّةِ، الجزائر، 2001 م ، ص16.

[11] د. عباس العبودي: شرحُ أحكامِ قانونِ الإثباتِ المدنيّ، ط1، دارُ الثقافةِ ، الأردن، 2005 م ، ص30.

[12] يحيى بكوش: أدلّةُ الإثباتِ في القانونِ المدنيّ الجزائريّ والفقهِ الإسلاميّ، ط2، المؤسّسةُ الوطنيّةُ للكتابِ الجزائريّ، الجزائر، 1988 م ، ص18.

[13] نبيل صقر، مكاري نزيهة: الوسيطُ في القواعدِ الإجرائيّةِ والموضوعيّةِ للإثباتِ في الموادِ المدنيّةِ ، دار الهدى، الجزائر، 2009 م ، ص52.

[14] شتيوي زهور: الإثباتُ في الدعوى الإداريّةِ ، رسالةُ ماجستير، كليّةُ الحقوقِ والعلومِ السياسيّةِ ، جامعة قاصدي مرباح -ورقلة-، الجزائر، 2013 م – 2014 م، ص11.

[15] رعد حمود خلف: مصدر سابق، ص44.

[16] د. عبد الرؤف هاشم بسيوني: المرافعاتُ الإداريّةُ إجراءاتُ رفعِ الدعوى الإداريّةِ وتحضيرُها، ط1، دار الفكرِ الجامعيّ، مصر، 2017 م ، ص131-132.

[17] شتيوي زهور: مصدر سابق، ص8.

[18] مقيمي ريمة: الإثباتُ في النزاعِ الإداريّ، أطروحةُ دكتوراه، كليّةُ الحقوقِ والعلومِ السياسيّةِ ، جامعةُ العربي بن مهيدي –أم البواقي-، الجزائر، 2019 م -2020 م ، ص14.

[19] محمد علي محمد عطا الله: الإثباتُ بالقرائنِ في القانونِ الإداريّ والشريعةِ الإسلاميّةِ ، أُطروحة دكتوراه، كليّةُ الحقوقِ، جامعةُ أسيوط، 2001 م ، ص65.

[20] عايد الشامي: خصوصيّةُ الإثباتِ في الخصومةِ الإداريّةِ ، دارُ الفتحِ ، مصر، 2008 م ، ص3.

[21] لحميم زليخة: دورُ القاضي المدنيّ في الإثباتِ في ضوءِ قانونِ الإجراءاتِ المدنيّةِ والإداريّةِ الجديدِ، بحثٌ منشورٌ في مجلّةِ دفاترِ السياسةِ والقانونِ، كليّةُ الحقوقِ، جامعة ورقلة، الجزائر، العدد 4، 2011 م ، ص139.

[22] شتيوي زهور: مصدر سابق، ص12.

[23] صالح محسوب: السوابقُ القضائيّة ودورها في الاستقرار القضائي، بحثٌ منشورٌ في مجلّةِ القضاءِ ، العدد 1-4، بغداد، ۱۹۹۹م ، ص30.

[24] غسان الوسواسي: القرائن في الإثبات الجنائي، بحثٌ منشورٌ في مجلّةِ القضاءِ، العدد 1-2، السنة 55، بغداد، ۲۰۰۱م، ص٤٧.

[25] د. عصام أنور سليم: النظرية العامة في الإثبات في المواد المدنية والتجارية، دار الجامعة الجديدة، مصر، ۲۰۰۹م، ص81-82.

[26] د. محمد شريف عبد الرحمن: إثبات التعاقد الذي يبرم بالوسائل السمعية والمرئية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2007م، ص46.

[27] حكم محكمة النقض المدني 25/6/1998م/ الطعن رقم 1798/62 ق.

[28] د. جوزيف رزق الله: النظريّة العامة للإثبات أمام القضاء الإداري، المنشورات الحقوقيّة صادر، بيروت، 2009م ، ص50 وما بعدها.

[29] ماهر عباس ذيبان الشمري: وسائل الإثبات في الدعوى الإدارية، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، كلية الحقوق، جامعة النهرين، 2015م، ص30.

[30] مجلس الدولة الجزائري، الغرفة الثانية، 19/4/2006م، مجلة مجلس الدولة، العدد 8، ص194-195.

[31]  حكم المحكمة الإدارية العليا في ١٥ شباط ١٩٥٧م،  حكم القضاء الإداري في 7 حزيران ١٩٤٩م، السنة العاشرة، ص۹۳۰؛ حكمها في ١٥ كانون الثاني ۱۹5۳م، السنة 7، ص٣١٦.

[32] حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1523 لسنة 36 ق. ع، جلسة 18/7/2006م.

[33] بوكثير عبد الرحمن: عبء الإثبات في دعوى الإلغاء، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق-بن عكنون، جامعة الجزائر-1، 2013م-2014م، 55.

[34] مرية قريمو: الإثبات في المنازعات الإدارية والعوامل المؤثرة فيه، رسالة ماجستير، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خضير –بسكرة-، الجزائر، 2014م-2015م، ص14.

[35] حكم المحكمة الإدارية العليا طعن رقم ۲۱۷۲ لسنة ٣٧ ق، جلسة 28/5/۱۹۹٦م؛ المحكمة الإدارية العليا طعن رقم ٣٦٢٧ لسنة ٣٧ ق جلسة 1/3/۱۹۹۷م؛ المحكمة الإدارية العليا طعن رقم ٦٧٧٧ لسنة ٣٧ ق جلسة 30/12/2001م.

[36] نصّت على هذه القاعدةِ المادةُ (7) من قانونِ الإثباتِ العراقيّ رقم (107) لسنة 1979م.

[37]( حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم ٤۷۰۱/٤٤ ق. ع جلسة 7/12/٢٠٠٦م.

[38] د. علي حسن العامري: الدعوى الإدارية فرنسا-مصر-العراق، ط1، المركز العربي للدراسات والبحوث العلمية، القاهرة، 2022م، ص752-753.

[39] د. محمد محمود هاشم: القضاء ونظام الإثبات في الفقه الإسلامي والأنظمة الوضعية، ط1، منشورات جامعة الملك سعود، الرياض، 1988م، ص115.

[40] د. إبراهيم المنجي: إبراهيم منجي: المرافعات الإدارية، دراسة علمية لإجراءات التقاضي أمام مجلس الدولة، ط1، منشأة المعارف، مصر، 1999م، ص477.

[41] ماهر عباس ذيبان الشمري وسائل الإثبات في الدعوى الإدارية، دار السنهوري، بيروت، 2018 م ، ص 171.

[42] د. عصمت عبدالمجيد بكر ، شرح قانون الإثبات المكتبة القانونية، بغداد، 1997 م، ص 134.

[43] د.عبد الحميد الشواربي الإثبات بشهادة الشهود منشأة المعارف، الأسكندرية، 1996، ص 145.

[44] حكم المحكمة الإدارية العليا ،العراقي، قرار رقم 466 / قضاء إداريّ تمييز / 2014 م في 9/3/2016م نقلاً عن خميس عثمان خليفة المعاضيدي الهيتي، قضاء المحكمة الإدارية العليا ، مطبعة المكتبة القانونية، بغداد، 2020م ،  ص 163

[45] لفته هامل العجيلي، الخبرة في القضاء المدني،  مطبعة الكتاب، بغداد، 2010م، ص 6 .

[46] د. ابراهيم المنجي، المرافعات الإدارية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1999م ، ص 414 .

[47] د. محمود حلمي، القضاء الإداري، ط 2 ، دار الفكر العربي، القاهرة، 1977 م ، ص 450.

[48] رعد حمود خلف: حجية وسائل الإثبات أمام القضاء الإداري دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، الجامعة الإسلامية في لبنان، بيروت، 2020م ، ص19

[49] د. أحمد أبو الوفا: التعليق على نصوص قانون الإثبات، منشأة المعارف، مصر، 1989م، ص18؛ عايدة الشامي: خصوصية الإثبات في الخصومة الإدارية، المكتب الجامعي الحديث، مصر، 2008م، ص9.

[50] الباب السادس «إثبات الإلتزام» من الأمر 75/58 في 26 أيلول 1975 م المتضمن القانون المدني الجزائري، العدد 78، مؤرخة في 30 أيلول، المعدل والمتمم بالقانون 5/10 المؤرخ في 20 حزيران 2005 م جزائري العدد 44، مؤرخه في 26 حزيران 2005م.

[51] عايدة الشامي: مصدر سابق، ص11.

[52] سرايش زكريا: الوجيز في قواعد الإثبات دراسة مدعمة بالفقه الإسلامي، دار هومة، الجزائر، 2015م، ص20.

[53] المادة (1) من قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969م.

[54] المادة (1) من قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1969م.

[55] المادة (5) من قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1969م.

[56] المادة (9) من قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1969م.

[57] المادة (10) من قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1969م.

[58] د. أحمد هندي: قانون المرافعات المدنية والتجارية، دار الجامعة الجديدة، مصر، 2010م ، ص8.

[59] يقسم قانون الإجراءات المدنية والإدارية إلى الكتاب الأول والذي يضم الأحكام المشتركة لجميع الجهات القضائية والذي يتناول في الباب الرابع منه وسائل الإثبات الكتاب الثاني المتعلق بالإجراءات الخاصة بكل جهة قضائية والكتاب الثالث المتعلق بالتنفيذ الجبري للسندات التنفيذية والكتاب الرابع المتعلق بالإجراءات المتبعة أمام الجهات القضائية الإدارية والذي تناول أيضاً أحكاماً متعلّقة بالإثبات وكذلك وسائل الإثبات والتي جاءت تحت عنوان وسائل التحقيق وأغلبها يحيـــل إلى أحكام الإثبات المنظّمة بالكتاب الأول من هذا القانون.

[60] سرايش زكريا: مصدر سابق، ص21.

[61] مقيمي ريمة: الإثبات في النزاع الإداري، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة العربي بن مهيدي- أم البواقي، الجزائر، 2020م ، ص35.

[62] عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، الإثبات، آثار الإلتزام، الجزء الثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1952م، ص18-19.

[63] نجيب أحمد عبد الله: إجراءات دعوى التزوير الفرعية، المكتب الجامعي الحديث، مصر، 2006م، ص3.

[64] د. محمود جمال الدين نكي: المبادئ العامة في نظرية الإثبات في القانون الخاص المصري، مطبعة جامعة القاهرة، ۲۰۰۱م، ص۲۹.

[65] د. أحمد أبو الوفا: التعليق على نصوص قانون الإثبات، مصدر سابق، ص۲۲.

[66] إبراهيم المنجي: مصدر سابق، ص478-479.

[67]  عرف السنهوري النظام العام بقوله: «إنّ القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بهـا تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلّق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد، فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم، حتى لو حققت لهم مصالح فردية، فإنّ المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة». ينظر: عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني الجديد - نظرية الالتزام بوجه عام - مصادر الالتزام، المجلد الأول، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2000، ص434-435.

وجاء في قرار صادر عن الغرفة الإدارية بمجلس قضاء الجزائر بتاريخ 17/1/1982 «لفظ النظام العام يعني مجموع القواعد اللازمة لحماية السلم الاجتماعي والواجب توافرها كي يستطيع كل شخص ممارسة جميع حقوقه الأساسية عبر= =التراب الوطني في إطار حقوقه المشروعة...» ينظر: عليان عدة: فكرة النظام العام وحريّــــة التعاقد في ضوء القانون الجزائري والفقه الإسلامي، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، 2015/2016، ص31.

ويذهب كثيرٌ من شرّاح القانون إلى أنّ النظام العام فكرة مرنة غير محددة، وإنّما تحدد وفقاً للزمـــان والمكان وتبعاً للمذاهب والنظريّات حسب الغرض منها وقصدها في تقدير المصلحة، والقوانين المتعلقة بالنظام العام هــي تلك القوانين الملزمة التي لا يجوز للأفراد مخالفتها لأنّها وضعت للمحافظة على المصالح العامّة وتنظيم المجتمع وأمنه وسلامته بخلاف القوانين المفسّرة أو المكملة. وقد أحال المشرّع الجزائري معظم وسائل التحقيق منها الخبرة وسماع الشهود والمعاينة والانتقال على الأماكن ومضاهاة الخطوط على الأحكام الإجرائية المطبقة على القضاء العادي، إلّا أنّه توجد تدابير خاصة بالقضاء الإداري في هذا المجال ما تعلّق منها بإجراء تسجيل صوتي أو بصريّ لكلّ من العمليات أو جزء منها، والتحقيق الإداريّ هنا أشبه بما هو مقرّر في المادة 65 مكرر 9 من قانون الإجراءات الجزائية رقم 66-155 المؤرخ في 8 يونيو 1966. ينظر: إلياس جـــوادي: الإثبـات القـــضــائي فــــي المنازعات الإدارية دراسة مقارنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، 2013/2014، ص29.

[68] مقيمي ريمة: مصدر سابق، ص36.

[69] لحسين بن الشيخ أث ملويا: مبادئ الإثبات في المنازعات الإدارية، ط6، دار هومة، الجزائر، 2000م، ص122.

[70] يحيى بكوش: أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري والفقه الإسلامي، دراسة نظرية تطبيقية مقارنة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص53.

[71] رعد حمود خلف: مصدر سابق، ص21.

[72] د. جوزيف رزق الله: النظرية العامة للإثبات أمام القضاء الإداري، منشورات الحقوقية صادر، بيروت، 2009م، ص٥٠ وما بعدها.

[73] مقيمي ريمة: مصدر سابق، ص37.

[74] إبراهيم منجي: المرافعات الإدارية، دراسة علمية لإجراءات التقاضي أمام مجلس الدولة، ط1، منشأة المعارف، مصر، 1999م، ص477 – 478

[75] مقيمي ريمة: مصدر سابق، ص38.

[76] حكم النقض المصرية في الطعن رقم ۱۱۸٦/ 50 ق جلسة 13/3/1985م.

[77] نبيل صقر، مكاري نزيهة: الوسيط في القواعد الإجرائية والموضوعية للإثبات، دار الهدى، الجزائر، 2008م، ص60.

[78] يحيى بكوش: مصدر سابق، ص53.

[79] مقيمي ريمة: مصدر سابق، ص39

[80] الياس جوادي: مصدر سابق، ص30.

[81] لحسين بن الشيخ أث ملويا: مصدر سابق، ص144.

[82] مجموعة أحكام قضائية جلسة 18 نيسان 2001 م الطعن رقم 4678 لسنة 1963م (قضائية): قواعد الإثبات ليست من النظام العام - أثّر ذلك - السكوت عن التمسك بها يُعدُّ تنازلاً عن الحقّ في الإثبات بالطريق الذي رسمه القانون وعدم جواز التحدي به لأوّل مرّة أمام محكمة النقض. جلسة 18 نيسان سنة 2001 م الطعن رقم 1832 لسنة 1970 م (قضائية) قاعدة عدم جواز الإثبات بالبيّنة والقرائن في الأحوال الّتي يجب فيها الإثبات بالكتابة ليست من النظام العام – أثر ذلك. ينظر: الياس جوادي: مصدر سابق، ص32.