تاريخ الاستلام 12/12/2023               تاريخ القبول 1/1/2024

تاريخ النشر 25/1/2024

حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية

حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف

حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)

CC BY-NC-ND 4.0 DEED

Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University

Intellectual property rights are reserved to the author

Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)

Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International

For more information, please review the rights and license

DOI 10.61279/efpsp758

اثر تغير الظروف على العقد الدولي

- دراسة مقارنة -

The effect of changing conditions on the contract

 a study in French Decree No. (131) of  2016

م.م اخلاص عوفي شرقي الكناني

الجامعة العراقية - كلية القانون والعلوم السياسية

م.م وهب سامي محيسن العبيدي

وزارة الشباب والرياضة - دائرة الشؤون القانونية والإدارية والمالية

M. Ikhlas Aufi Sharqi Al-Kinani

Iraqi University-College of Law and Political Science

M. Wahb Sami Muhaisen Al-Obeidi

Ministry of Youth and Sports-Department of Legal, Administrative and Financial Affairs

المستخلص

يحتل موضوع إعادة التفاوض مكانة لا يستهان بها في ميدان العقود التجارية الدولية , اذ يرتبط العقد الدولي بشكلٍ وثيقٍ مع عدة عقود، كعقود نقل البضائع والتأمين عليها ضد المخاطر، فضلاً عن ارتباطه بعدة عمليات مصرفية، كالاعتماد المستندي، وبسبب الطبيعة المعقدة لمثل هذا النوع من العقود , وطول مدة تنفيذه، فانّ احتمالية تعرض العقد الى المشاكل الناجمة عن تغير الظروف ستزداد , حتى وان قام طرفي العقد بتحديد ما ينتج عنه من اثار بصورةٍ دقيقة.

وقد أصبح من غير المناسب انهاء العقد الدولي نتيجة للظروف المتغيرة , اذ أنّه كلف الطرفين الكثير من الوقت والمال في سبيل ابرامه , وعند تطبيق القواعد العامة للفسخ , فلابد عندئذٍ أن يرجع الطرفان الى الحال التي كانا عليها قبل ابرام العقد , مما يؤدي الى اضطراب الأحوال الاقتصادية لطرفي العقد , فلو تم فسخ عقد البيع الدولي، فان البائع سيعاني من تغير الأسعار , بل أنّ معاناته تكون على أشدها في حالة هلاك أو تلف البضاعة , في حين سيعاني المشتري من التعنت في استرداد الثمن من البائع , مما يؤدي الى إصابة نشاطه الاقتصادي بالشلل كلياً أو جزئياً.

ونتيجة لما تقدم، كان لإعادة التفاوض دور هام وفعال في الإبقاء على العلاقة العقدية بين طرفيها كونه يوفر لهما الحرية في تحديد مصير عقدهما وفقاً لما تقضي به مصلحتهما المشتركة , ومن ثم الابتعاد عن تدخل القضاء أو التحكيم في علاقتهما العقدية.

قد يكون الأساس القانوني لإعادة التفاوض عقدياً , أي أن يتم الاتفاق عليه من خلال ادراجه كبند في العقد , أو من خلال وضع اتفاق مستقل يقضي بذلك , فان لم يوجد أي اتفاق بين طرفي العقد يقضي بإعادة التفاوض فيه , فان بالإمكان التمسك به على أساس مبدأ حسن النية , وذلك عند حدوث تغير جوهري في الظروف بعد ابرام العقد.

الكلمات المفتاحية : عقدظروف طارئةتفاوضقوة قاهرة

Abstract

 Renegotiation occupies a significant position in the field of international commercial contracts, as the international contract is closely linked with several contracts, such as contracts for transporting goods and insuring them against risks, as well as its association with several banking operations, such as documentary credit, and because of the complex nature of this type of contract, And the longer the period of its implementation, the possibility that the contract will be exposed to problems resulting from the change of circumstances will increase, even if the two parties to the contract specify the resulting effects accurately.

It is not appropriate to terminate the international contract as a result of the changing circumstances, because it cost the two parties a lot of time and money in order to conclude it, and when applying the general rules for termination, then the two parties must return to the situation they were in before the conclusion of the contract, which leads to disruption of the economic conditions of the parties to the contract If the international sales contract is terminated, the seller will suffer from the change in prices, but his suffering will be most severe in the event of the loss or damage of the goods, while the buyer will suffer from intransigence in recovering the price from the seller, which leads to the paralysis of his economic activity, in whole or in part.

As a result of the foregoing, renegotiation had an important and effective role in preserving the contractual relationship between its two parties because it provides them with the freedom to determine the fate of their contract in accordance with what is required by their common interest, and thus avoiding the intervention of the judiciary or arbitration in their contractual relationship.

The legal basis for renegotiation may be contractual, that is, it is agreed upon by including it as a clause in the contract, or through the development of an independent agreement to do so. Intent, when a fundamental change in circumstances occurs after the conclusion of the contract.

Keywords: contract - emergency conditions - negotiation - force majeure.

مقدمة

يعتبر العقد من أهم مصادر الالتزامات , وذلك لكونه خير وسيلة في الحصول على السلع والخدمات المختلفة على الصعيدين الدولي والداخلي , فضلاً عن كونه الأداة التي بواسطتها تستطيع الدول الفقيرة أن تسد الفجوات التي بينها وبين الدول المتقدمة , ومن ثم تحقق أعلى معدلات التنمية والازدهار.

واذا كانت العقود في العصور الماضية تتسم بسهولة ابرامها وتنفيذها , فان التطور الهائل الذي طرأ على المجتمع أوجد عقوداً تتمتع بقدر كبير من الأهمية , وذلك اما بسبب قيمتها الكبيرة , أو غلبة الجوانب الفنية عليها , وهذه العقود تسبقها مفاوضات بين طرفيها قد تطول أو تقصر بحسب طبيعة العقد وظروف التفاوض , وذلك من أجل تحديد مضمون العقد وما يترتب عليه من اثار , فأصبح التفاوض أمراً مألوفاً في هذه العقود.

وعلى الرغم من أن المفاوضات قبل التعاقدية تلعب دوراً مهماً وبناءاً في جعل العقود أكثر استقراراً وأفضل تنفيذاً , الا أن ذلك لا يعني منع الطرفين من إعادة التفاوض في عقدهما , فالعقود التي ترتبط بمدة طويلة نسبياً قد تكون عرضة لأحداث من شأنها أن تجعل تنفيذها مرهقاً أو مستحيلاً لمدة من الزمن , فان وقعت تلك الاحداث , فان على الطرفين أن يتباحثا مجدداً حول عقدهما , وذلك من أجل الحفاظ عليه من الفسخ.

أ . أهمية موضوع البحث:

لايزال موضوع تغير الظروف يشغل أهمية كبرى في مجال عقود التجارة الدولية , وذلك للأسباب الاتية :-

عدم ملائمة التقنيات التي تبنتها القوانين الوطنية في معالجة تغير الظروف بعد ابرام العقد مع تلك العقود , وذلك لأنها لا ترتقي الى المستوى الذي يجعلها أكثر استقراراً وأفضل تنفيذاً , كما هو الحال في نظرية الظروف الطارئة التي سادت في القوانين اللاتينية , ونظرية الفشل التعاقدي التي سادت في القانون العام الإنكليزي، أما إعادة التفاوض فهو تقنية تجيز لطرفي العقد بالتحاور مجدداً حول عقدهما , وذلك بغية ملائمته مع الظروف المتغيرة. 

ونتيجة لما تقدم، اصبح إعادة التفاوض موضع اهتمام كبير على الصعيدين الدولي والوطني , فعلى الصعيد الدولي , حيث أكد عليه الشرط النموذجي للظروف الطارئة , والذي وضعته غرفة التجارة الدولية في باريس في عام (2003) , كما أكدت عليه مبادئ يونيدروا المتعلقة بالعقود التجارية الدولية لعام (2016) , أما على الصعيد الداخلي , فقد نصت عليه بعض قوانين الدول المتقدمة , كما هو الحال في المرسوم المرقم (131) لسنة 2016 الخاص بتعديل القانون المدني الفرنسي.

ب. مشكلة البحث:

اثار موضوع تغير الظروف الكثير من التساؤلات , وهذه التساؤلات تتعلق بشروط التمسك بها في ظل القانونين الفرنسي والعراقي.

ج. منهجية البحث:

بغية الإجابة على هذه التساؤلات كان لابد من تقسيم بحثنا هذا الى مقدمة ومبحثين : يتناول المبحث الأول شروط الحدث وشروط تأثيره على العقد، ثم نذكر ما توصلنا اليه من استنتاجات ومقترحات في الخاتمة.

المبحث الأول

الشروط المتعلقة بالحدث

يشترط في الحدث أن يكون خارجاً عن إرادة المدين , وأن يكون غير متوقع الحدوث ومستحيل الدفع.

المطلب الأول: خروج الحدث عن إرادة المدين

يعد خروج الحدث عن إرادة المدين شرطاً مهماً للتمسك بتغير الظروف , اذ أنّ من غير المنطقي أن يتذرع شخصٌ ما بوجود عائقٍ يمنعه من تنفيذ التزاماته في الوقت الذي تكون ارادته سبباً في وقوعه ,  كما أنّ من غير المنطقي ترك أحد المتعاقدين دون حمايةٍ من تدخل المتعاقد الاخر المباشر , أو غير المباشر في سبيل احداث تغيير في بنود العقد , سواء أكان ذلك التغيير طفيفاً , أم جوهرياً [1]

وعلى الرغم من ضرورة ذلك الشرط , فانّه قد تعرض للإنكار من قبل بعض الفقهاء , وذلك بحجة اختلاطه مع شرطي عدم التوقع واستحالة الدفع , فلو أنّ المدين قد التزم بالعناية والحذر في توقع الحادث , وبذل ما بوسعه بغية تفادي الاثار الناجمة عنه , فلابد وأن يكون هذا الحدث خارجاً عن سيطرته , غير أنّ هذا النقد لم يؤثر في ضرورة وجود هذا الشرط , اذ أنّ هناك فرقٌ كبيرٌ بين عدم توقع الحادث وبين خروجه عن سيطرة المدين , فلو أنّ شخصاً ما أقدم على ابرام عقدٍ لبيع بضائعه , وكان عالماً وقت الابرام بأنّ دولته سوف تصدر قانوناً يمنع تصدير بعض السلع , فانّ صدور هذا القانون يمثل أمراً خارجاً عن سيطرته على الرغم من علمه بها وقت التعاقد , وكذلك الحال بالنسبة لاستحالة دفع الحادث , فاذا وقع فيضانٌ ينذر بإتلاف البضاعة, فانّ بإمكان البائع أن يتغلب على هذا الفيضان على الرغم من خروجه عن ارادته , وذلك من خلال وضع البضاعة في مكانٍ مرتفعٍ لحين زوال ذلك الفيضان[2].  

وقد أكدت القرارات القضائية والتحكيمية على ضرورة توفر شرط خروج الحدث عن إرادة المدين , ففي قضيةٍ تتلخص وقائعها في أنّ البائع قام برفع دعوى للمطالبة بالتعويض عما أصابه من ضررٍ نتيجة تخلف المشتري عن تسلم البضاعة , الا أنّ محكمة التحكيم التجاري الدولي في غرفة التجارة الروسية رفضت دعواه , وذلك بحجة أنّ امتناع المشتري عن تسلم البضاعة ناتج عن عائقٍ خارجٍ عن ارادته , وذلك على الرغم من سداده للثمن والرسوم الكمركية[3], كما أخذ القضاء العراقي بهذا الشرط , حيث قضت محكمة التمييز الاتحادية بعدم جواز التمسك بتغير الظروف في حالة عدم وجود سببٍ خارجٍ عن إرادة المدين[4].

ويتميز شرط استقلال الحدث عن إرادة المدين بأنّه واسع النطاق , اذ لا يقتصر تطبيقه على المدين وحده , بل يمتد ليشمل تابعيه أيضاً , وذلك لأنّ نشاطهم يعد امتداداً لنشاط المدين ذاته , وهذا ما أخذت به هيئة التحكيم التابعة لمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي , حيث اعتبرت المدين مسؤولاً عن خطأ تابعيه الذين يستخدمهم في تنفيذ العقد دون النظر الى درجة الخطأ المرتكب من قبلهم[5].

أما اذا كان المدين متضامناً مع غيره في تنفيذ الالتزام , فان كانت ارادته سبباً في تغير الظروف , فلا يحق له التمسك بإعادة التفاوض بخلاف أقرانه , وذلك عملاً بقاعدة «النيابة فيما ينفع وليس فيما يضر» أي اذا قام المدين بعملٍ نافعٍ , فانّ جميع المتضامنين معه يستفادون من ذلك النفع , أما اذا ارتكب فعلاً ضاراً , فانّ أثره لا يمتد الى المتضامنين معه[6]

ولم يتفق الفقه بشأن معيارٍ يحدد ما اذا كان الحدث خارجاً عن سيطرة المدين , مما أدى الى ظهور معيارين : المعيار الأول هو المعيار الشخصي , حيث ذهب غالبية الفقه الى القول بأنّ الحدث يكون خارجاً عن سيطرة المدين اذا لم تشارك إرادته في وقوعه بأي شكلٍ كان , فان كان لإرادته شأنٌ في وقوعه , فانّ العقد يبقى نافذاً , ومن ثم يحرم المدين من التمسك بإعادة التفاوض[7].

أما بالنسبة للمعيار الموضوعي , فقد ذهب جانبٌ من الفقه الى القول بأنّ خروج الحدث عن إرادة المدين لا يتطلب عدم مشاركة ارادته في وقوع الحدث , بل يتطلب أيضاً أن يكون هذا الحدث بعيداً عن مجال عمله أو نشاطه , وهذا ما تبنته القواعد الموحدة المتعلقة بعقد النقل الدولي للركاب بالسكك الحديدية , والتي نصت على اعفاء الناقل من مسؤوليته اذا كان الحادث ناجماً عن ظروفٍ لا تتصل بإدارة السكك الحديدية , وكان من غير الممكن تجنبها أو تفادي عواقبها على الرغم من اتخاذ الرعاية اللازمة في الظروف الخاصة للقضية[8].

وقد تعرض المعيار الموضوعي الى الانتقاد , حيث تم وصفه بأنّه معيارٌ جامدٌ وضيقٌ , اذ يقلل من فرص التمسك بإعادة التفاوض , خاصةً اذا كان المدين حسن النية , متعاوناً مع دائنه في سبيل تحقيق الغاية من العقد , كما أنّ تبني هذا المعيار من شأنه أن يؤدي الى استبعاد الظواهر الطبيعية كأحداثٍ خارجةٍ عن سيطرة المدين , كالصواعق والاعاصير والفيضانات[9].

ونتيجةً لما تقدم , فقد اتجهت بعض التشريعات الوطنية الى تبني المعيار الشخصي , حيث نصت المادة (1218) من المرسوم المرقم (131) لسنة 2016 الخاص بتعديل القانون المدني الفرنسي على أنّ القوة القاهرة حدثٌ يخرج عن سيطرة المدين دون أن تشترط استقلاله عن مجال عمله، كما نصت المادة (425) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 المعدل على أنّه : «ينقضي الالتزام اذا أثبت المدين أنّ الوفاء به أصبح مستحيلاً لسببٍ أجنبي لا يد له فيه». 

أما بالنسبة للمعيار الموضوعي , فقد تبنته قلةٌ من التشريعات , حيث نصت المادة (11) من قانون النقل العراقي رقم (80) لسنة 1983 المعدل على اعفاء الناقل من مسؤوليته , وذلك اذا أثبت بأنّ عدم تنفيذه لالتزاماته ناشئ عن عوامل خارجية لم تنبع من دائرة نشاطه , ولم يكن بالإمكان توقعها أو تلافي اثارها.

وقد اتجه القضاء العراقي والمصري نحو الأخذ بالمعيار الشخصي , حيث بينت محكمة التمييز الاتحادية في قرارٍ لها[10] بأنّ امتناع المدعى عليه عن الوفاء بالتزاماته لم يكن ارادياً , بل كان بسبب قوةٍ قاهرةٍ تمثلت بانقطاع السيولة النقدية , كما قضت محكمة النقض المصرية بأنّ وقوع عجز بعهدة أمين المخزن يعد قرينة قانونية على وجود خطأ من جانبه , الا اذا أثبت بأنّ ذلك ناجمٌ عن ظروفٍ خارجة عن ارادته[11].

المطلب الثاني: عدم توقع الحدث

احتل شرط عدم توقع الحدث ونتائجه مكانةً كبيرةً في عالم التجارة الدولية , وذلك لأنّه يمثل الحد الفاصل بين قدرة المدين على مقاومة الحدث والاثار الناتجة عنه من خلال الاستعداد المسبق لمواجهته ,  أو عدم قدرته على ذلك[12].

بيد أنّ التطور الهائل في ميدان العلوم قد شكل مساساً حقيقياً بهذا الشرط , اذ تمكنت الشركات الكبرى من توقع أحداثٍ لا يتوقعها التاجر البسيط , وذلك لما تملكه من كفاءةٍ ماليةٍ ووسائل تكنولوجية متطورة , ونتيجةً لذلك , فقد اتجه البعض الى تبني مفهوم «الاحتمال الجاد لوقوع الحدث» والذي يقضي بأنّ الحدث يكون متوقعاً اذا كان من المؤكد أن يحدث , أما لو كان احتمال وقوعه قائماً على الوهم , فانّ التوقع يكون معدوماً , وهذا ما تبنته هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس , حيث رفضت اعتبار التهديدات التي قامت بها دولة جنسية الشركة المدينة بأنّها قوة قاهرة , وذلك لأنّها كانت مجرد أحاديث في الصحف[13].

وينبغي أن يكون الحدث غير المتوقع نادر الوقوع , اذ أنّ كثرة وقوعه تجعل منه أمراً اعتيادياً , كما هو الحال في تغير سعر العملة , وهذا ما أخذت به المحكمة العليا في ليتوانيا[14], حيث رفضت دفع المدعى عليه في أنّ التزامه أصبح مرهقاً نتيجة انخفاض قيمة الأسهم , أما القضاء العراقي , فانّه رفض تطبيق نظرية الظروف الطارئة اذا كانت الاضرار التي أصابت الأشجار ناتجةً عن برودة الجو في فصل الشتاء , وذلك لكونه من الأمور المألوفة[15].

ويتسم شرط عدم التوقع بأنّه لا ينصرف الى الحدث وحده , بل يشمل أيضاً ما يترتب عليه من نتائج , وعليه فلا يستطيع البائع التمسك بإعادة التفاوض اذا توقع سحب رخصة التصدير العائدة له نتيجة خلافاتٍ سياسيةٍ بين دولته ودولة المشتري , أما اذا لم يكن الحدث ونتيجته متوقعين , فانّ ذلك يعني توفر شرط عدم التوقع , كأن يبرم المدين عقداً لتوريد البضائع , ثم تنفجر مركبته نتيجة أعمالٍ إرهابيةٍ[16]

ويجب أن يكون الحدث غير متوقع وقت ابرام العقد , وذلك لكونه الوقت الذي يواجه فيه الأطراف جميع الظروف التي يحتمل تأثيرها على العقد , فاذا أقدم المتعاقد على ابرام العقد مع علمه بالحدث , ثم طلب إعادة التفاوض عند وقوعه , فانّه يعتبر مخالفاً لمبدأ حسن النية , ومن ثم يتوجب حرمانه من التمسك بتغير الظروف , أما اذا توصل أحد الطرفين الى توقع الحدث قبل ابرام العقد , فانّه سوف يكون أمام خيارين : أما أن يرفض ابرام العقد , أو أن يقبله شريطة ادراج بندٍ ينص على الية التعامل مع الحدث المتوقع حصوله([17]).

وقد ثار جدلٌ بين الفقهاء حول تحديد معيارٍ يبين ما اذا كان شرط عدم التوقع متحققاً , فانقسموا بذلك الى ثلاثة اتجاهات : اتجاهٌ يقدر عدم التوقع وفق معيارٍ شخصي , واخر يقدره وفق معيارٍ موضوعي , واخر يقدره وفق معيارٍ مختلط. 

أولاً , المعيار الشخصي :- ذهب جانبٌ من الفقه الى القول بأنّ تقدير عدم التوقع يرتبط بشخص المدين ذاته , اذ ينبغي مراعاة حالته الصحية والنفسية , فضلاً عن مركزه الاجتماعي ودرجة تعليمه , وذلك وفقاً للقاعدة التي تقضي بوجوب تفسير العقد وفقاً لما تقضي به نية الطرفين([18]).

بيد أنّ هذا المعيار لم يكن موفقاً في تقدير مسألة عدم التوقع , وذلك للأسباب الاتية([19]):-

أ . انّ هذا المعيار مؤسسٌ على عوامل نفسية يصعب على الناظر في النزاع أن يتحقق منها.

ب. من الممكن أن يؤدي هذا المعيار الى تنوعٍ في الأحكام القضائية , اذ أنّ لكل مدينٍ ظروفه الشخصية , وعليه فاذا كان الحدث متوقعاً من قبل المدين , فانّه قد لا يكون كذلك لدى شخصٍ اخر , وهذا ما يخالف المنطق القانوني الذي يقضي بتوحيد الأحكام الصادرة في موضوعٍ واحدٍ وعدم التمييز بينها بحسب صفات كل متعاقد .

ج. يؤدي الأخذ بهذا المعيار الى الاخلال بالعدالة , وذلك لكونه يفضل مجموعة من الأشخاص على حساب مجموعةٍ أخرى لمجرد أنّها تتميز بقدراتٍ أكبر تمكنها من توقع الأحداث , وهو ما يؤدي بنا الى القول بأنّ من الممكن أن يكون الحدث متوقعاً من قبل مجموعةٍ ما , أو قد يكون غير متوقع من قبل مجموعة أخرى.

د. لا صحة لما ذهب اليه أنصار المعيار الشخصي فيما يتعلق بتأسيسه على قاعدة تفسير العقد وفق النية المشتركة للطرفين , فتلك النية لا تنصرف دائماً الى هذا المعيار , بل قد تنصرف الى معيارٍ اخر , كالمعيار الموضوعي أو المختلط.     

ثانياً , المعيار الموضوعي :- اتجه جانبٌ من الفقه الى القول بأنّ تقدير عدم التوقع يتم وفقاً لما يسمى بالشخص المعتاد , وهو ليس بشخصٍ شديد الفطنة أو بليد الهمة , بل أنّه مجرد شخص عادي موضوع في نفس الظروف التي يواجهها المدين، وعلى الرغم من أهمية هذا المعيار في توحيد الأحكام القضائية وتحقيق العدالة , فأنّه قد تعرض للانتقاد من جانب أنصار المعيار الشخصي , وذلك بحجة عدم مراعاته لظروف المدين الشخصية , ومن ثم يؤدي الأخذ بهذا المعيار الى تقليص فرصته في التمسك بإعادة التفاوض , ومن الممكن أن يؤدي تبني المعيار المذكور الى نتيجةٍ غريبة , اذ بالإمكان أن يتوقع المدين حادثاً لا يمكن أن يتوقعه الشخص المعتاد[20].

بيد أنّ تلك الانتقادات لم تقلل شيئاً من أهمية ذلك المعيار , وذلك لكونه لا يتطلب البحث في صفات المدين الشخصية , بل يتطلب قياس عدم التوقع وفقاً لشخصٍ متوسط الذكاء , ومن ثم فلا يمكن القول بأنّه معيار يضيق من فرص التمسك بإعادة التفاوض , ثم لو كان المدين قد بلغ من الدهاء حداً يجعله يتوقع الحادث بخلاف غيره من الناس , فلا يمكنه التمسك بإعادة التفاوض بحجة أنّ الرجل المعتاد غير متوقع للحادث , اذ لا يحل له أن يتأذى من حادثٍ محتمل الوقوع , ودخل ذلك في اعتباره وقت ابرام العقد[21].

ثالثاً , المعيار المختلط (معيار الشخص النظير) :- اقترح جانبٌ اخر من الفقه منهجاً وسطاً بين المعيار الشخصي والموضوعي , والذي بموجبه يتم التحقق من مسألة عدم التوقع من خلال شخصٍ مفترضٍ يختلف عن الشخص المعتاد في أنّه يحمل نفس صفات المدين , وعليه فان لم يتمكن ذلك الشخص من توقع الحادث , فانّ من حق المدين أن يتمسك بإعمال اعادة التفاوض والاستفادة من أحكامه[22], الا أنّ هناك صعوبة في تطبيقه , وذلك لكونه يتطلب البحث في صفات المدين ووضعها في شخصٍ مفترض , كما أنّ الخطأ في تطبيقه قد يسهل هروب المدين من تنفيذه لالتزاماته.

وقد اتجهت القوانين صوب تبني المعيار الموضوعي , حيث اشترطت المادة (1218) من المرسوم المرقم (131) لسنة 2016 الخاص بتعديل القانون المدني الفرنسي أن يكون الحدث غير متوقع بشكلٍ معقول وقت ابرام العقد , أما المشرع المدني العراقي , فانّه لم يذكر أي معيارٍ يتبع في تقدير ذلك , حيث جاء في نص المادة (146 / 2) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 المعدل : «اذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها» فعلى الرغم من أنّ هذا النص قد ذكر شرط عدم توقع الحادث , الا أنّه لم يبين ما اذا كان معيار عدم التوقع شخصياً أم موضوعياً أم مختلطاً.

المطلب الثالث: استحالة دفع الحدث

يشترط لتمسك المدين بإعادة التفاوض أن يثبت بأنّه قد بذل ما بوسعه في أداء التزاماته , وانّه قام بالإجراءات اللازمة لدرء الحادث قبل وقوعه , الا أنّه لم يتمكن من دفعه أو تجنب اثاره[23].

ويستند هذا الشرط الى مبدأ حسن النية , لكونه يوجب على المدين تنفيذ العقد وفقاً لما تقضي به الأمانة والنزاهة في التعامل , فلو أنّ انقطاعاً حدث في وسائل المواصلات البرية , فينبغي على المدين أن يبحث عن طريقةٍ أخرى لتنفيذ العقد , كنقل البضاعة عن طريق السكك الحديدية أو استخدام النقل الجوي , واذا اتفق على تنفيذ الالتزام خلال مدة معينة , فينبغي أن لا يتأخر المدين في تنفيذ التزاماته , فان تغيرت الظروف بعد تأخره في التنفيذ , فلا يمكنه التمسك بإعادة التفاوض[24].

وقد أكد القضاء الأمريكي على ضرورة توفر هذا الشرط في قضايا كثيرة ,  حيث بين بأنّ الفشل في تصدير البضاعة نتيجة العقوبات المفروضة على الاتحاد السوفيتي لم يكن سبباً كافياً لإنهاء العقد , اذ كان باستطاعة المشتري تصديرها الى بلدانٍ أخرى أو بيعها في الولايات المتحدة[25], كما بين بأنّ فرض القيود على البضائع المستوردة من قبل الحكومة البرتغالية لا يبرر انهاء العقد في حال توفرت لدى المشتري فرصة لتحويل بضائعه الى دولةٍ أخرى كفرنسا[26].

المبحث الثاني

الشروط المتعلقة بأثر الحدث

يشترط في الحدث الموجب لتغير الظروف أن يؤدي الى جعل تنفيذ العقد مرهقاً للمدين أو مستحيلاً لفترةٍ من الزمن , فان لم يكن الأمر كذلك , فانّ العقد يبقى نافذاً , ومن ثم يكون المدين مسؤولاً عن عدم تنفيذه , وهذا ما أخذ به القضاء الفرنسي , حيث قضت محكمة النقض بأنّ عجز البائع عن اثبات تغير الظروف يؤدي الى اثارة مسؤوليته تجاه المشتري[27], كما أخذ به القضاء العراقي في قضيةٍ تتلخص وقائعها بأنّ المدعي قد أنجز نسبة متقدمة من فقرات العقد , الا أنّه أوقف تنفيذه نتيجة تعرض المنطقة الى ظروف أمنية صعبة , فقضت محكمة التمييز الاتحادية[28] بأنّ انجاز العقد بنسبة متقدمة قرينة على عدم تأثر المدين بالظروف المتغيرة.

وبناءً على ما تقدم , سنقسم هذا المقصد الى غصنين , يتحدث الغصن الأول عن الإرهاق في تنفيذ الالتزام , في حين يتحدث الغصن الثاني حول الاستحالة المؤقتة.

المطلب الأول: الارهاق في تنفيذ الالتزام

عرفت المادة (6 -2- 2) من مبادئ يونيدروا المتعلقة بالعقود التجارية الدولية لعام (2016) الإرهاق بأنّه انقلابٌ في التوازن الاقتصادي للعقد , مما قد يؤدي الى زيادةٍ جوهريةٍ في تكاليف تنفيذه على أحد الطرفين , أو قد يؤدي الى انخفاضٍ جسيمٍ في قيمة ما يتلقاه الطرف الاخر.

وبناءً على هذا التعريف , ينبغي أن يكون هناك اختلالٌ جوهري في التوازن الاقتصادي للعقد , بحيث يؤدي الى زيادةٍ فادحةٍ في تكاليف تنفيذه , كأن يتعهد شخصٌ ما بإنتاج كميةٍ من البضائع , ثم ترتفع أسعار المواد الأولية اللازمة لإنتاجها ارتفاعاً كبيراً , أو يؤدي الى انخفاضٍ جسيمٍ في مقابل التنفيذ المقرر لأحد الطرفين , كحدوث تغيراتٍ حادةٍ في ظروف السوق , وعليه فان حدثت أزمةٌ اقتصاديةٌ بعد ابرام العقد , وأدت الى ارتفاعٍ في سعر الفائدة , فلا يحق لأي طرفٍ أن يتمسك بإعادة التفاوض , وذلك لعدم حدوث اختلالٍ جوهري في التوازن الاقتصادي للعقد[29].

ويشترط في الإرهاق أن لا يقبل المدين بتحمل الخسارة , فان استمر في تنفيذ العقد على الرغم من تغير الظروف , فلا يجوز له طلب إعادة التفاوض , وذلك نتيجة رضائه بصورةٍ ضمنيةٍ بتحمل ما ينشأ عن ذلك من خسارة , وهذا ما ذهب اليه القضاء العراقي , حيث قضى بعدم تطبيق نظرية الظروف الطارئة , وذلك لأنّ استمرار المستأجر في اشغال المأجور حتى نهاية العقد دون المطالبة بانقاص الالتزام المرهق هو قرينة على عدم وجود الإرهاق[30].

ولم يتفق الفقه حول معيارٍ يحدد ما اذا كان التغير في الظروف يسبب الارهاق للمدين , فذهب بعضهم الى تحديد ذلك وفقاً لمعيارٍ شخصي , وذلك من خلال النظر الى ظروف المدين , ومن ثم يكون الالتزام مرهقاً متى ما أصيب بضررٍ شديدٍ جراء اختلال التوازن الاقتصادي للعقد , بحيث لم يعد من العدل الزامه بتحمل مثل ذلك الضرر[31].   

بيد أنّ هذا المعيار يعتمد في تقدير الإرهاق على عناصر غير موضوعية تتعلق بالمدين , فاذا كان المدين بحالٍ أفضل كان حظ الدائن أفضل , وان كان حظ المدين عاثراً تعثر حظ الدائن معه , مما يجعل مركز الدائن قلقاً لاعتباراتٍ لا تتعلق به , وهذا أمرٌ يتنافى مع مقتضيات العدالة , ويوجب البحث عن معيارٍ أفضل يضمن الاستقرار لمركز الدائن دون أن يتعرض هذا المركز للاهتزاز نتيجة تقلب وضع المدين.

ونتيجةً لما تقدم , فقد اتجه غالبية الفقه نحو الاعتماد على المعيار الموضوعي في تقدير الإرهاق , وذلك من خلال النظر الى العقد ذاته دون مراعاة لما يملكه المدين من ثروات , أي لابد من اجراء المقارنة بين قيمة الالتزام في العقد وقيمته وقت وقوع الحادث , فليس ينفي الإرهاق عن المدين أن يكون واسع الثراء , كأن يكون مصرفاً أو شركة أو دولة , ولا أن يكون لديه مقدارٌ من السلعة التي التزم بتوريدها يسمح له بالوفاء بالتزاماته بالرغم من أنّ الحادث الطارئ قد رفع السعر بصورةٍ جسيمة[32].

وقد أدى عدم تحديد نسبة الإرهاق الى قيام جدلٍ قضائي وفقهي كبيرين ,  فعلى الصعيد القضائي , ذهب القضاء الروسي الى تحديد الإرهاق بنسبة (100 %) من قيمة العقد[33], في حين حددت من قبل القضاء المصري بواقع (40 %)[34], أما القضاء العراقي , فانّه قد اعتبر تنفيذ العقد مرهقاً , وذلك اذا كانت الخسارة تتجاوز نسبة (5 %) من قيمة العقد[35].

أما على الصعيد الفقهي , فقد ذهب البعض في تحديد الارهاق الى الاسترشاد بمعيار الغبن الفاحش , واستندوا في تبرير رأيهم الى نص المادة (124/2) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 المعدل , والتي نصت على أنّه : «اذا كان الغبن فاحشاً وكان المغبون محجوراً أو كان المال الذي حصل فيه الغبن مال الدولة أو الوقف فانّ العقد يكون باطلاً» , ويكون الغبن فاحشاً عندما يكون على قدر ربع العشر في الدراهم , ونصف العشر في العروض , والعشر في الحيوانات , والخمس في العقار[36].

بيد أنّ هذا المعيار لا يصلح أساساً لتقدير الإرهاق , اذ أنّ الغاية منه قياس الغبن المعاصر لانعقاد العقد دون الغبن اللاحق عليه , كما أنّ الإرهاق في كل التزام يتأثر بعوامل قد لا يتأثر بها التزام اخر[37].

وقد ذهب جانبٌ من الفقه الى تحديد الخسائر المألوفة بنسبةٍ تتراوح بين (80 %) الى (100 %) مع استثناء أي هامش ربح , أو بنسبةٍ تتراوح بين (100 %) الى (125 %) بما فيها هامش الربح المعتاد , ومن أجل تحديد عتبة الإرهاق , فقد اقترحوا مقارنة التكاليف المتوقعة فعلاً مع التكاليف المقدرة بعد حصول الحدث , على أنّ النسبة التي تتراوح بين (80 % -100 %) قد يتم رفعها في حال افتراض المدين صراحة أو ضمناً بأنّ هناك خطرٌ أكبر , أو خفضها عند افتراضه خطراً قليلاً , الا أنّ التحكيم التجاري الدولي لم يطبق هذا الرأي لصعوبة تطبيقه , حيث من النادر أن يفصح رجال الأعمال عن هوامش ربحهم , وفي حالة وجود نزاعٍ بين طرفي العقد , فانّ ذلك الإفصاح سيكون أشد صعوبة[38].

ونحن نؤيد رأي أستاذنا الدكتور درع حماد[39], والذي بين بأنّ الخسارة المألوفة تتراوح بين (10 % -20 %) من قيمة العقد , وذلك لأنّ هذا الرأي يراعي ظروف المدين ويتماشى مع الظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق , حيث أنّه عانى من أزماتٍ كثيرةٍ ومتنوعة , كالحروب الدولية والحصار الاقتصادي , بالإضافة الى محاربة الإرهاب وانخفاض أسعار النفط العالمية.

المطلب الثاني: الاستحالة المؤقتة

عندما يصبح تنفيذ العقد مستحيلاً بصورةٍ مطلقة , فانّ ذلك يؤدي الى فسخ العقد بقوة القانون , فضلاً عن اعفاء المتعاقد من كافة ما ينشأ عنه من التزامات , أما اذا كانت الاستحالة مؤقتة , أي ثمة بوادر تشير الى إمكانية زوالها , فانّ العقد لا ينفسخ , بل أنّه يظل قائماً , الا أنّ تنفيذه يتوقف حتى زوال تلك الاستحالة , كأن يمتنع المتعاقد عن تنفيذ التزاماته نتيجة فرض الحصار على دولته[40].

وتختلف الاستحالة المؤقتة عن الارهاق بأنّ الأولى تؤدي الى جعل تنفيذ العقد مستحيلاً لفترةٍ من الزمن , كاعتقال المدين أو عماله من قبل السلطة القضائية , في حين يؤدي الارهاق الى قلب التوازن الاقتصادي للعقد الى الحد الذي يجعل من تنفيذه مرهقاً للمدين[41].

وقد تكون مدة الاستحالة المؤقتة معلومة للطرفين , كما في حالة هبوب الرياح غير الموسمية التي تمنع ارسال البضائع لفترةٍ من الزمن , أو في حالة الاندماج بين الشركات أو البنوك , أما اذا كانت مدة الاستحالة مجهولة , كما هو الحال في فرض الحصار الاقتصادي على دولةٍ ما , فانّ الاتفاقيات والقواعد المنظمة لعقود التجارة الدولية قد اعتمدت في تحديدها على طريقتين : تتمثل الطريقة الأولى بحصر مدة وقف تنفيذ العقد بمدة وجود العائق , وهذا ما أخذت به المادة (79/3) من اتفاقية فيينا للبيع الدولي للبضائع لعام 1980 , أما الطريقة الثانية , فهي تتمثل بحصر مدة وقف تنفيذ العقد بمدةٍ معقولةٍ تقدر من قبل الناظر في النزاع , وهذا ما نصت عليه المادة (7 – 1 – 7) من مبادئ يونيدروا المتعلقة بالعقود التجارية الدولية لعام (2016).

أما على صعيد التشريعات الداخلية , فانّ منها قد ترك تحديد مدة الاستحالة المؤقتة الى تقدير الناظر في النزاع , حيث بينت المادة (1218) من المرسوم المرقم (131) لسنة 2016 الخاص بتعديل القانون المدني الفرنسي بأنّ القوة القاهرة المؤقتة تؤدي الى وقف تنفيذ العقد , الا اذا تبين للناظر في النزاع بأنّ هناك ما يبرر فسخه , كأن يصبح تنفيذ العقد بعد زوالها عديم الفائدة , أما التشريعات الأخرى , فإنّها قد حددت مدة زمنية للاستحالة المؤقتة , كتحديد المشرع العراقي مدة وقف تنفيذ عقد العمل بسبب المرض لمدة ستة أشهر من تاريخ إصابة العامل به[42], أو تحديد مدة وقف تنفيذ الأعمال من قبل المقاول لمدة تسعين يوماً[43].

ونحن نرى ضرورة اخضاع تحديد مدة الاستحالة المؤقتة عند عدم الاتفاق عليها الى تقدير الناظر في النزاع , سواء أكان الناظر في النزاع قاضياً , أم محكماً , حيث لو تم تحديد مدة الاستحالة بمدة وجود العائق , فانّ بالإمكان أن يزول العقد قبل انعدام العائق , كما هو الحال في انتهاء الغاية من ابرامه.

ويشترط في الاستحالة المؤقتة أن لا يكون وقت التنفيذ عنصراً جوهرياً في العقد , أي يجب أن يكون مستبعداً من حسابات المتعاقدين , والا فانّ تنفيذ العقد لن يكون مجدياً , فلو أنّ منشأة ما أبرمت عقداً لاستيراد كميةٍ من الملابس بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد , فانّ وقف تنفيذ العقد في الوقت المحدد للوفاء يعد استحالة دائمة , وذلك لأنّ ميعاد التسليم في هذه القضية شرط ضروري في العقد , وكذلك الحال عندما تستورد احدى الشركات بضاعتها بغية المشاركة في معرضٍ دولي , فتحدث الاستحالة المؤقتة في وقت التنفيذ[44].

كما يشترط في الاستحالة المؤقتة أن تؤدي الى جعل تنفيذ العقد مستحيلاً بصورةٍ كلية , أما اذا كانت الاستحالة جزئية , فانّ ذمة المدين لا تبرأ من الجزء الذي لم تلحقه الاستحالة , اذ تقضي القواعد العامة بوجوب تنفيذ ما يمكن القيام به , فاذا تعهد شخصٌ ما بتزويد اخر بكميةٍ من المحاصيل الزراعية , ثم امتنع بعد ذلك عن تنفيذ التزامه بسبب هطول أمطارٍ غزيرةٍ دمرت جزءً من المحصول , فانّ عليه الوفاء بالجزء الاخر[45].

الخاتمة

بعد أن تناولنا موضوع أثر تغير الظروف على العقد توصلنا الى الاستنتاجات والمقترحات الاتية:

أ . الاستنتاجات:

كان إعادة التفاوض ولا يزال يشغل حيزاً كبيراً في ميدان العقود التجارية الدولية , وذلك لما له من دور هام وبناء في المحافظة عليها من الفسخ وما ينتج عنه من اثار سلبية , فإعادة التفاوض يمنح طرفي العقد منهجاً مرناً في تحديد مصير عقدهما.

يلتقي كل من الإرهاق والاستحالة المؤقتة في تنفيذ الالتزام في أن كليهما حدث خارج عن إرادة المدين , وغير متوقع بصورة معقولة وقت ابرام العقد , ويستحيل دفعه باتخاذ إجراءات معقولة , في حين يختلفان من حيث الأثر فالإرهاق يجعل تنفيذ الالتزام أكثر كلفة , في حين تؤدي الاستحالة المؤقتة الى إيقاف تنفيذ العقد لمدة من الزمن.

عند توقف تنفيذ العقد نتيجة وجود عائق ما , فان أثره يختلف بحسب طبيعة العقد , فاذا كان العقد فورياً , فان وقف التنفيذ لا يؤثر على مقدار التزامات الطرفين , أما اذا كان العقد مستمراً , فان وقف التنفيذ يؤدي الى التقليل من مدة العقد بالإضافة الى تقليل مقدار التزامات الطرفين.

ب. المقترحات :

نقترح على المشرع العراقي إعادة النظر في القواعد المنظمة للظروف الطارئة والقوة القاهرة بما يتماشى مع القواعد المنظمة للتجارة الدولية مع النص على إمكانية إيقاف تنفيذ العقد.

 

[1] د. شريف محمد غنام , أثر تغير الظروف في عقود التجارة الدولية , منشورات اكاديمية شرطة دبي , 2010م, ص260. وينظر أيضاً : د. عادل طالب الطبطبائي , مدى انقضاء العقود الإدارية بالقوة القاهرة الناتجة عن الاحتلال العراقي للكويت – دراسة مقارنة , مجلة الحقوق الكويتية , العدد : (3 – 4) , السنة : 16 , 1992م , ص21.

[2] د. شريف محمد غنام , المصدر السابق , ص261و 263.

[3] Tribunal of International Commercial Arbitration at the Russian Federation Chamber of= =Commerce , no. 155 in 22/1/1997 , available on : www.unilex.info , date of visit : 23/3/2017 at (8:7pm).

[4] تتلخص القضية بأن المدعي تعاقد مع المدعى عليه من أجل تأهيل وتحوير وتطوير الأقسام الداخلية للمعهد التقني في المسيب , ولعدم اكمال النواقص في المشروع لسبب يعود الى المدعى عليه , فان المدعي قد طلب انهاء العقد وصرف باقي المستحقات مع التعويض. قرار محكمة التمييز الاتحادية المرقم : 4628/الهيئة المدنية/2016 , تسلسل : 4811 , في :16/11/2016م (غير منشور).

[5] قرار تحكيمي رقم 117 في عام 1998 , مشار اليه لدى : د. أسماء مدحت سامي , الاعفاء من المسؤولية في اتفاقية الأمم المتحدة للبيع الدولي للبضائع (فيينا) , دار النهضة العربية , القاهرة , مصر , 2006م , ص 139.

[6] د. عبد المجيد الحكيم و د.عبد الباقي البكري ود. محمد طه البشير , القانون المدني وأحكام الالتزام , ج2 , ط3 , المكتبة القانونية , بغداد , العراق , 2009م , ص213.

[7] د. محسن شفيق , عقد تسليم مفتاح – نموذج من عقود التنمية , دار النهضة العربية , القاهرة , مصر , ص103. 

[8] د. شريف محمد غنام , المصدر السابق , ص275 وص278.

And see : article (26/2) of Uniform Rules concerning the Contract of International Carriage of Passengers by Rail (CIV) , edition (2006) , available on : http://www.cit-rail.org , data of visit : 25/3/2017 at : (12:24) pm , p19.

[9] د. صفاء تقي العيساوي , القوة القاهرة وأثرها في عقود التجارة الدولية – دراسة مقارنة , مكتبة صباح , بغداد , العراق, ص40.

[10] قرار محكمة التمييز الاتحادية رقم : 2433/الهيئة الاستئنافية/2016 في 24/10/2016 (غير منشور) .

[11] قرار محكمة النقض المصرية , جلسة 25/11/1976 , مشار اليه لدى : عبد الحكم فودة , اثار الظروف الطارئة والقوة القاهرة على الاعمال القانونية , ط1 , منشأة المعارف , الإسكندرية , مصر , 1999م, ص178.

[12] د. صفاء تقي العيساوي , المصدر السابق , ص41.

[13] القرار التحكيمي رقم 2142 , مشار اليه لدى : د. صفاء تقي العيساوي , المصدر السابق , ص49. لم يذكر المؤلف سنة صدور القرار.

[14] تتلخص القضية في أن شركة ليتوانية أبرمت عقداً لبيع أسهمها , وبعد دفع (20 %) من السعر الإجمالي , توقف المشتري عن تنفيذ العقد , فحكم بوجوب التنفيذ لعدم حدوث الإرهاق , ينظر : قرار المحكمة العليا في ليتوانيا في تاريخ  19/5/2003 , متاح على موقع www.unilex.info , تاريخ الزيارة :1/4/2017م الساعة الثامنة مساء. 

[15] قرار محكمة التمييز العراقية رقم : 2974/حقوقية/965 في 22/2/66 , منشور في مجلة القضاء , ع1 , السنة 21 , 1966م , ص120. , حيث تتلخص القضية بأن المميزين استأجروا حاصلات النخيل والأشجار مقابل أجر يبلغ (1325 دينار) ونتيجة لتأخرهما في سداد الأجرة , فقد أقام المميز عليهما دعوى لدى محكمة البداءة ليطلب الحكم بإلزامهما بدفع (150 دينار) مع المصاريف وأجور المحاماة , وعندما وصلت الدعوى الى محكمة التمييز , قررت المحكمة رفض تعديل العقد.

[16] أسيل باقر جاسم , النظام القانوني لشرط إعادة التفاوض – دراسة في عقود التجارة الدولية , بحث متاح على الموقع :

http://repository.uobabylon.edu.iq  , ص123.

[17] Ingeborg Schwenzer , force majeure and hardship in international sales contracts , Victoria University of Wellington Law Review , vol.4 , no. 39 , 2008, p713.

وفي قضية تتلخص وقائعها بأن بائعاً هولندياً أبرم عدة عقود مع مشتر سنغافوري لبيع مسحوق الحليب , وذلك بشرط احتوائه على نسبة أقل من النسبة المعينة للنشاط الاشعاعي في دولة سنغافورة , وبعد ابرام العقد , فقد واجه البائع صعوبات في العثور على السلعة المطلوبة , مما جعله يمتنع عن تنفيذ العقد , وبعد وصول النزاع الى القضاء , فقضت المحكمة بأن اللوائح السنغافورية لا تشكل عائقاً , وذلك لان البائع كان على علم بها قبل ابرام العقد , ينظر القرار الصادر عن محكمة هيرتوغينبوش الهولندية بتأريخ 2/10/1998 , متاح على الموقع www.unilex.info , تاريخ الزيارة : 30/3/2017م في الساعة السابعة مساء.  

[18] حسين عامر , القوة الملزمة للعقد , ط1 , مطبعة مصر , بدون سنة طبع, ص86.

[19]  Amin R. Dawwas , the concept of foreseeability under the un convention on contracts for the international sale of goods , journal of law published by academic publication council in Kuwait university , vol. 19 , no. 4 , p26.

وينظر كذلك : د. شريف محمد غنام , المصدر السابق , ص252.

[20] حسين عامر , التعسف في استعمال الحقوق وإلغاء العقود , مطبعة مصر , القاهرة , مصر , 1960م, ص239.

And see : Amin R. : op.citp26.

[21] عبد الحكم فودة , المصدر السابق , ص50.

[22] د. صفاء تقي العيساوي , المصدر السابق , ص53.

[23] د. أسماء مدحت سامي , المصدر السابق , ص153.

[24] د. حسن علي الذنون , النظرية العامة للالتزامات , مطبعة الجامعة المستنصرية , بغداد , العراق , ص154. 

[25] The case (Amtorg Trading Corp. v. Miehle Printing Press & Manufacturing Co.) , available in : Daniel Girsberger & Paulius Zapolskis , FUNDAMENTAL ALTERATION OF THE CONTRACTUAL EQUILIBRIUM UNDER HARDSHIP EXEMPTION , JURISPRUDENCE , 2012, 19(1) ,  p135

[26] The case (Congimex, etc. SARL v. Tradax Export SA) available in the same source , p136.

[27] في قضية تتلخص بأن بائعاً فرنسياً أبرم عقداً لبيع الافران مع مشتر بولندي , على أن يكون الأخير موزعاً حصرياً له في بولندا وسلوفاكيا , وبعد مدة من ابرام العقد , امتنع البائع عن تسليم البضاعة بالسعر المتفق عليه نتيجة حدوث الإرهاق , وبعد أن قام المشتري بمقاضاته , قضت محكمة النقض الفرنسية بالزام البائع بدفع الغرامة التأخيرية , لكونه لم يتمكن من اثبات الاختلال الجوهري في التوازن العقدي.

See : Cour de Cassation , France , n. 12-29.550 13-18.956 13-20.230 , en 17/2/2015 , Disponible sur :   http://www.unilex.info , Date de la visite : 22/3/2017 (À 2:00).

[28] قرار محكمة التمييز الاتحادية المرقم , 27/الهيئة الموسعة المدنية/2016 , تسلسل : 60 , في 16/3/2016م (غير منشور).

[29] ففي قضية تتلخص بأن المدعين قاموا بإبرام عقد قرض مع أحد البنوك , ونتيجة لحدوث الازمة المالية , فقد أدى ذلك الى زيادة سعر الفائدة , فطلب المدعين من البنك إعادة التفاوض بشأن شروط سداد القرض , الا أن البنك رفض ذلك , وعند= =وصول الامر الى القضاء , فقد حكم على المدعين بوجوب سداد مبلغ القرض. ينظر : قرار المحكمة العليا في ليتوانيا الصادر في 13/11/2013 , متاح على الموقع : www.unilex.info , تاريخ الزيارة : 30/3/2017 , الساعة الخامسة مساء.

[30] احيلت المقاولة الى المتعاقد في عام 1980 وانجزت عام 1988م , ثم رفعت دعوى التعويض من قبل المدين عام 1989م , فقضت محكمة التمييز بعدم تطبيق نظرية الظروف الطارئة , ينظر القرار : رقم 511 في 20/11/1991م مشار اليه لدى : إبراهيم المشاهدي , المختار من قضاء محكمة التمييز – قسم القانون المدني والقوانين الخاصة , مطبعة الزمان , بغداد , العراق , 2000م , ص193.

[31] د. شريف محمد غنام , المصدر السابق , ص155.

[32] عبد الحكم فودة , المصدر السابق , ص54. وينظر كذلك : د. سليمان مرقس , نظرية العقد , دار النشر للجامعات المصرية , القاهرة , مصر , 1956م , ص343. 

[33] Alexei G. Doudko , Hardship  in  Contract :  The  Approach  of  the UNIDROIT  Principles  and  Legal  Developments  in  Russia , Rev. dr. unif. 2000-3 , p496.

[34] د. عصمت عبدالمجيد بكر , نظرية الظروف الطارئة ودور القاضي في تطبيقها , منشورات وزارة العدل , بغداد , العراق , 1993م , ص52.

[35] د. حسن علي الذنون , النظرية العامة للالتزامات , مطبعة الجامعة المستنصرية , بغداد , العراق, ص158.

[36] د. عصمت عبدالمجيد بكر , المصدر السابق , ص50.

[37] د. عبد الحميد الشواربي , المشكلات العملية في تنفيذ العقد, دار المطبوعات الجامعية, الاسكندرية , مصر , 1988م, ص130.

[38] Denial Girsberger & Paulius Zapolskis , FUNDAMENTAL ALTERATION OF THE CONTRACTUAL EQUILIBRIUM UNDER HARDSHIP EXEMPTION , JURISPRUDENCE , 2012, 19(1). ,  p128.

[39] د. درع حماد , النظرية العامة للالتزامات , ج1 , مكتبة السنهوري , العراق , بغداد , 2016م, ص256.

[40] د. عبد الحي حجازي , عقد المدة أو العقد المستمر والدوري التنفيذ , مطبعة جامعة فؤاد الأول , مصر , 1950م , ص154. وينظر كذلك : د. صفاء تقي العيساوي , المصدر السابق , ص64. وينظر أيضاً : د. عادل طالب الطبطبائي , المصدر السابق , ص47.

[41] حسين عامر , القوة الملزمة للعقد , مصدر سابق , ص89 وص445. وينظر كذلك : قرار محكمة النقض المصرية الصادر في 6/3/1977 , مشار اليه لدى : عبد الحكم فودة , المصدر السابق , ص147.

[42] المادة (43/ثانياً/أ) من قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015.

[43] المادة (41/2) من الشروط العامة لمقاولات اعمال الهندسة المدنية لسنة 2005.

[44] د. أسماء مدحت سامي , المصدر السابق , ص124.

[45] حسين عامر , القوة الملزمة للعقد , مصدر سابق , ص435. وينظر كذلك : عبد الحكم فودة , المصدر السابق , ص207. وفي قضية تتلخص بأن البائع اتفق مع المشتري على تسليمه عشرين شاحنة محملة بالطماطم , غير أن المشتري لم يحصل الا على شحنة واحدة , ولدى وصول الامر الى القضاء , حكم بأن التزام البائع لا يزال ممكناً , لان الامطار لم تتسبب في هلاك المحصول برمته.

See : Oberlandesgericht Hamburg , no. 1 U 143/95 in 4/7/1997 , available on : www.unilex.info , date of visit : 30/3/2017 at (8:09) pm.