تاريخ التقديم 1/2     تاريخ القبول 20/2      تاريخ النشر 25/4

حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية

حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف

حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)

CC BY-NC-ND 4.0 DEED

Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University

Intellectual property rights are reserved to the author

Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)

Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International

For more information, please review the rights and license

DOI: 10.61279/xdj6d924

مأزق روسيا الجيوبوليتيكي والطروحات الفكرية لألكسندر دوغين المعالجة له

Russia’s geopolitical predicament and the intellectual propositions of Alexander Dugin addressing it

 أ.د سرمد عبد الستار أمين

الباحثة: حنين جاسم علي

 الجامعة العراقية-كلية القانون والعلوم السياسية 

Phd professor .Sarmad Abdulsatar Amin

  Hanin Jasim Ali

   Iraqi University - Law and Political Science  College  

المستخلص

منذ وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى السلطة في الكرملين وليس هناك ما يشغل باله ومعه صناع القرار السياسي والإستراتيجي في روسيا الاتحادية أكثر من المهمة التي يعدُّونها محورَ كلِّ شيء في الوقت الحاضر وهي استعادة مكانة روسيا الدولية وفهم أهمية المجال الحيوي لروسيا وما يطرحه المفكرين الروس من نظريات تعالج مأزقها الجيوبوليتيكي الذي أفرزه سقوط الاتحاد السوفيتي السابق ومِن ثَمَّ الفراغ الإستراتيجي الذي نجم من جرَّاء هذا السقوط المدوي لقطب التوازن الثاني في العالم. ومن جانبه فقد أثار الفراغ الناشئ عن الغياب السوفيتي تنافسًا اقليميًا ودوليًا مريراً لشغله نظراً للمزايا التي تتمتع بها منطقة آوراسيا الواسعة والمترامية الأطراف والتي يعرف الجميع أهميتها بالنسبة لكل منهم وبالنسبة للاستراتيجيات الدولية بشكل عام. وتبرز أهمية الدراسة في أنّها بيان علاقة الأثر والتأثير بين المكان والسياسة.

الكلمات المفتاحية: الجيوبوليتيك، المأزق الجيوبوليتيكي، ألكسندر دوغين، الأوراسية الجديدة، النظرية السياسية الرابعة

Abstract

  

  Since his arrival to power in Russia, Vladimir Putin and the other decisionmakers has been planning for regaining the Russian international prestige. This vision has been guided by Russian thinkers who theorize the possibility of dealing with the geopolitical crises of the country after the collapse of the Soviet Union (SU) and the shifting to the unipolarity led by the United States (US). The vacuum of post-SU era resulted in regional and international competitions due to the strategic traits of the Eurasian region and its peripheries. This study aims to explore the causal relationship between place and politics.

Keywords: geopolitics, geopolitical impasse, Alexander Dugin, new Eurasianism, the fourth political theory.

المقدمة

لقد أدَّتِ التطورات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة على مختلف الأصعدة، وتحديداً في مجال التطور التكنولوجي الذي اختصر الزمن واختصر المسافات وفتح آفاقا جديدة للتنافس والتعاون، إلى أن يصبح دور العامل الجغرافي ومن وراءه الافتراضات النظرية للجيوبوليتيك محل مساءلة ومراجعة وصلت حد التشكيك بجدواها في عالم يتغير بوتيرة أسرع ممَّا كان يظن الجميع. فمع اختراع الصواريخ العابرة للقارات ووسائل الاتصال التي تتفوق على سطوة الحواجز الطبيعية والحدود السيادية ظهرت مفاهيم جديدة للأمن في فضاءات أوسع ومديات أكثر شمولاً تتجاوز تلك المرتبطة بالعوامل المادية الصرفة وخصوصاً تلك المتعلقة منها بالبعد الجغرافي وفرضيات الجيوبوليتيك، وظهرت عناصر أخرى للتأثير في عملية صنع وتنفيذ الإستراتيجية الشاملة للدول أكثر تماهياً مع الأفكار الموجهة أو الحاكمة لحركة عالم ما بعد الحرب الباردة.

وعلى الرغم من كل ذلك يحاول هذا البحث اثبات أهمية ودور العوامل الجغرافية والخصائص الجيوبوليتيكية في إدراك المفكرين لمشاكل دولهم وبالتالي طرح نظريات تحاول التوصل إلى حل والتخلص من حتميات الجغرافية. فالخصائص الجغرافية كالموقع والحدود والمناخ تؤثر على سلوك الدولة السياسي، فقد قال نابليون سابقاً «أن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها». إذ أن ما تمتلكه الدولة من مقومات استراتيجية تصب في تعزيز قدرتها على لعب دور دولي مميز. فالعلاقة بين جغرافية الدولة وسياستها علاقة ترابطية حيث تكون معطيات الدولة الجغرافية سواء اكانت ميزات أم افتقار هي البوصلة الأولى التي ينطلق منها المفكر الاستراتيجي عند محاولته دراسة واقع الدولة وانشاء خارطة طريق لها.

انطلاقاً من هذه القناعة فقد اعْتُمِدَت النظرية الأوراسية والأوراسية الجديدة بصورة خاصة لتمثل الإطار أو المجال الطبيعي الذي تحتاجه روسيا الجديدة في مسعاها للعودة إلى النظام الدولي من موقع القوة الموازنة والمؤهلة للقيادة أو المشاركة فيها على قدم المساواة مع الغرب. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنَّما تعدَّاه ليشمل التأسيس لبناء نظري (النظرية الرابعة) يصلح أن يكون نداً للنظرية الليبرالية ويؤدِّي الغرض منه في جعل معارضة روسيا للنظام الدولي نابعة من أبعاد جيوسياسية وأيديولوجية وعن طريق رؤية جديدة للعالم.

 هدف البحث:

يسعى البحث إلى تقديم رؤية تحليلية كاملة حول تأثير المكان والعوامل الجغرافية على خصائص وميزات الدولة الجيوبوليتيكية وبالتبعية على القرارات السياسية ومشاريع المفكرين الإستراتيجيين الروس. كما ويهدف إلى توضيح طروحات المفكر الروسي ألكسندر دوغين في الأوراسية الجديدة والنظرية السياسية الرابعة.

إشكالية البحث:

تنطلق الاشكالية من سؤال يتمثل في كيف ساهم المفكر الروسي ألكسندر دوغين في إثراء الفكر الجيوبوليتيكي الروسي لمعالجة مشكلتها الجيوبوليتيكية؟ وينطلق منه بعض الأسئلة الفرعية:

كيف يؤثر موقع روسيا في تشكيل فروضها الجيوبوليتكية؟

ماهي تحديات المجال الحيوي الروسي؟

كيف ساهمت الأوراسية الجديدة والنظرية السياسية الرابعة في إثراء الفراغ الأيديولوجي بعد زوال الاتحاد السوفيتي.

فرضية البحث:

ينطلق البحث من فرضية مفادها أن الجغرافيا السياسية لروسيا الاتحادية أفرزت لها مشكلة ومأزق جيوبوليتيكي، مما ولد لديها إستراتيجية جيوبوليتيكية طموحة تسعى إلى التغلب على عقدة المكان.

منهجية البحث:

من أجل الإجابة عن تساؤل البحث وأثبات فرضيته تم توظيف المنهج التحليلي، من خلال وصف وتحليل معطيات الجغرافية والخصائص الجغرافية مع الطروحات الفكرية المعالجة.

هيكلية البحث:

قٌسِمَ البحث على مقدمة ومبحثين فضلاً عن الخاتمة، يتناول المبحث الأول الخصائص الجيوبوليتيكة لروسيا الأتحادية في حين ينفرد الثاني في تقديم الأسس الفكرية المفكر الروسي ألكسندر دوغين.

المبحث الأول

الخصائص الجيوبوليتيكية لروسيا الأتحادية

المطلب الأول:_ مشكلة روسيا الجيوبوليتيكية.

تواجه روسيا معضلات فيما يخص الجغرافية, فمع طول الحدود الروسية إلا أنَّها تعاني من ضعف طبيعي يشكل تهديداً حقيقياً لأمنها القومي، إذ تواجه روسيا مشكلة جيوسياسية خطيرة بسبب موقعها الجغرافي وحدودها الواسعة التي تبلغ البرية منها نحو (20017) كيلومتراً. في حين تبلغ حدودها البحرية حوالي (37653) كيلومتراً وهذه الحدود غير مؤمنة عسكرياً تأميناً جيداً، إذ تفتقر إلى شبكة نقل إستراتيجية تربط تلك الحدود يمكن لروسيا عن طريقها تعبئة ونقل قواتها العسكرية التقليدية ونشرها على الحدود بسرعة في حالة وقوع هجوم عسكري مفاجئ. فضلاً عن أنَّ حدودها الشمالية والغربية والجنوبية تعاني من غياب الحواجز الطبيعية كالجبال والأنهار والبحار. أمَّا بالنسبة لحدود روسيا الشمالية فإنَّ موسكو تتجه دائماً نحو الغرب نحو سهوب شمال أوروبا ودول البلطيق الثلاث، في حين تضغط أوروبا دائماً نحو حدودها الشرقية عن طريق توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بضم الدول الواقعة في تلك المنطقة. أمَّا بالنسبة للحدود الجنوبية فهناك شقاق كبير فيما يتعلق بالحدود مع كازاخستان وآسيا الوسطى وإيران وأفغانستان. في حين يتمثل الضعف المحتمل لروسيا على طول حدودها الجنوبية الشرقية مع الصين والذي يبلغ حوالي (3645) كيلومتراً، لكنَّها مع ذلك آمنة نسبياً.[1] ينظر الى خريطة رقم (1).

خريطة رقم (1) الجغرافية السياسية الروسية

المصدر:https://mawdoo3.com/%D8%A3%D9%8A%D9%86_%D8%AA%D9%82%D8%B9_%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7_%D9%81%D9%8A_%D8%A3%D9%8A_%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A9.

كذلك توجد معضلة أخرى فيما يخص الجغرافية وهي صعوبة المناخ، إذ تُعدُّ حالة التجمد السائدة في معظم أجزاء سيبيريا من العوائق الرئيسة أمام التنمية وكذلك النشاط البركاني في جزر «الكوريل» والبراكين والزلازل في شبه جزيرة «كامشاتكا» والفيضانات الربيعية وحرائق الغابات في فصلي الصيف والخريف بعموم سيبيريا وأجزاء من روسيا الأوروبية. فضلاً عن أنَّ الأوضاع المناخية القاسية والتضاريس وبعد المسافة تعوق استغلال الموارد الطبيعية.[2] ممَّا أدَّى إلى خلق مشكلة ديمغرافية، إذ يتكتَّل (75%) من السكان الروس على الحدود الغربية بين روسيا وأوروبا «روسيا الأوروبية» التي لا تتجاوز مساحتها (25%) من إجمالي مساحة روسيا وحدودها الجنوبية في المنطقة بين البحر الأسود وبحر قزوين؛ نظراً للظروف المناخية المعتدلة هناك، ومن ثَمَّ تركَّزت كل الأنشطة الزراعية والصناعية والحيوية بالقرب من منطقة التهديد الأولى بالنسبة لروسيا. في حين يعيش (25%) من الروس في الأراضي الممتدة من جبال الأورال إلى المحيط الهادئ في «روسيا» الآسيوية» بالقرب من الحدود مع كازاخستان ومنغوليا والصين.[3]

وثمة عامل آخر يمثل تحدياً جيوإستراتيجياً لروسيا، ومن أهم عوامل ضعف موقعها الجيوبوليتيكي وهو حاجة روسيا الماسة في الوصول إلى المياه الدافئة والحصول على معبر مؤمن لها. فضمن المعطيات الجغرافية روسيا محاطة بإجمالي (13) بحراً من بينها (12) بحراً من ثلاثة محيطات، ومع ذلك فهي دولة مغلقة لا تمتلك منفذاً بحرياً مفتوحاً وصالحاً للملاحة. ومع أنَّ المحيط القطبي الشمالي والمحيط الهادئ يشكلان الحدود الشمالية والشمالية الشرقية على طول (38.808كم) إلا أنَّ مياههما تتجمَّد طوال العام لقربها من المدار القطبي الشمالي. ويبقى المنفذ إلى البحر الأسود الذي يفصله عن البحر المتوسط مضيق البسفور هو المنفذ البحري الأكثر صلاحية للملاحة والذي تتشارك فيه مع أوروبا وأعضاء حلف شمال الأطلسي[4]*, ممَّا يشكِّل تحدياً أمنياً لروسيا الاتحادية.[5]

كما أنَّها تمتلك عدداً من الموانئ على البحار غير المتجمدة مثل البلطيق وبارنتس والبحر الأسود والمحيط الهادي بالقرب من اليابان لكن تكمن الإشكالية في وقوع معظم هذه الموانئ على بحار مقفلة أو شبه مقفلة تسيطر دول أخرى على مداخلها مثل مدخل بحر البلطيق تسيطر عليه الدنمارك ومدخل البحر الأسود تسيطر عليه تركيا وبحر اليابان تسيطر عليه اليابان.[6]

نتيجة لما سبق يمكن القول إنَّ خسارة روسيا للموانئ التي كانت تحت مظلتها إبَّان الاتحاد السوفيتي في البحر الأسود تحديداً ألحق الضرر بمصالحها خصوصا في مسألة تصدير المنتجات الروسية؛ لأن البحر الأسود يمثِّل البوابة البحرية لروسيا في الوصول الى خطوط الملاحة الدولية والمياه الدافئة.[7] وهكذا، فإنَّنا نرى روسيا تسعى بكل الوسائل الممكنة للتشبث بإطلالتها على البحر الأسود الأمر الذي دفعها إلى استئجار قاعدة سيفاستوبول من أوكرانيا بموجب اتفاقية كان من المفترض أن تنتهي في عام 2017. ثم جاء استحواذ روسيا على شبه جزيرة القرم ممَّا أعطى قوة دفع للوجود الروسي في المياه الدافئة للبحر الأسود بموقعه الاستراتيجي. حيث تضمن قاعدة سيفاستوبول الإشراف الوحيد لروسيا على المياه الدافئة للبحر الأسود مما يمكنها لوجستيًا من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وهكذا يمر طريقها إلى البحر الأبيض المتوسط عبر تركيا. ومع ذلك فإن وجود الأخيرة ضمن حلف الناتو يشكل تهديداً استراتيجياً لروسيا.[8]

إذن، من الطبيعي أن تبحث روسيا في ضوء معطياتها الجغرافية الجديدة عن طرائق للتخفيف من آثار خسارتها لعديد من المواقع البحرية المهمة والأساسية لروسيا في البحر الأسود وبحر قزوين وبحر البلطيق، إذ يبقى طموحها القديم الحديث هو الوصول إلى المياه الدافئة.

وفقاً لما سبق فروسيا دولة تتميز بموقع إستراتيجي ولها خصائص جغرافية فريدة أضفت على سياستها بعد جيوبوليتيكي، لكنها في نفس الوقت أثقلت كاهل الروس بمعضلة جيوبوليتيكية نظراً لجغرافية المنطقة وتظافر العوامل الاقليمية والدولية من ضمنها الطموح الروسي. وبهذا يفترض بنا أن نقدم البيئة الاقليمية للمشكلة الجيوبوليتيكية التي فرضتها الجغرافية السياسية على روسيا الاتحادية.

المطلب الثاني:_ جيوبوليتيكا روسيا وبيئتها.

من المعروف أنَّ روسيا الاتحادية كموقع جغرافي تشغل الجزء الأكبر من منطقة قلب الأرض التي تحدث عنها هالفورد ماكندر في طروحاته النظرية عن (القوة البرية)، إذ حدَّد قلب العالم بأنَّه «يمتد من نهر الفولغا غرباً إلى شرق سيبيريا ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى هضاب إيران وأفغانستان وبلوشستان في الجنوب, وتشمل حدود منطقة القلب إلى شرق أوروبا حتى نهر الألب». وتمتاز منطقة القلب بأنَّها منطقة سهليه ذات تصريف داخلي، وتُعدُّ قلعة دفاعية وأفضل نموذج للدفاع بالعمق كما أنَّها محاطة من الشمال بمسطح مائي متجمد أغلب أيام السنة ويشكل منطقة حماية طبيعية للقلب.[9]

ولخص ماكيندر نظريته في الثوابت التي نشرت سنه 1919م في كتابه «المثل الديمقراطية والحقيقة», وهي:_

مَن يحكم شرق أوربا (الطريق الى القلب) يسيطر على القلب.

مَن يحكم القلب يسيطر على جزيرة العالم (اسيا وأوروبا وأفريقيا).

مَن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم.[10] 

ويفسر ماكندر ضرورة معالجة التوسع الروسي نحو المياه الدافئة، إذ يؤكِّد أنَّ أيَّ قوة بحرية لن تقف في وجه القوة البرية بحكم أنَّ الأخيرة ستكون مسيطرة على أطراف الجزيرة العالمية بما في ذلك القواعد البحرية وأنَّ القوة البرية بقدراتها البشرية والموارد الطبيعية ستكون في وضع أقوى يمكنها من غزو أية قارة أخرى وفرض سيطرتها.[11]

كذلك، أكَّد الفريد ماهان في نظريه عن القوة البحرية أهمية الجزيرة العالمية وشدَّد على أنَّ روسيا هي أهم جزء في العالم الشمالي وأنَّها تمثل موقعاً مهيمناً على الأرض في آسيا والطريقة الوحيدة لمحاربة العملاق الروسي محصورة بصورة رئيسة إلى الحدود الشرقية والجنوبية.[12]

وعلى غرار أسلافهم يُعدُّ المحافظون الجدد الأطلسيون أنَّ التروتسكيين هم العدو الأساسي لحضارة البر (أي العدو الأساسي لروسيا)، إذ يشتركون في الرؤية المتعلقة بمواجهة قوى البحر لقوى البر؛ لأنَّهم وحسب الكسندر دوغين منقادون ومسترشدون بالجيوبوليتيك.[13]

ويؤكد مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبينغيو بريجينسكي في كتابه «رقعة الشطرنج» محورية الصراع على أوراسيا، بل يربط مصير السيطرة الأمريكية بمنع أي قوة أخرى من التمدد في هذه المنطقة والمقصود بطبيعة الحال روسيا الاتحادية، إذ يرى بريجينسكي أنَّه في حال توسع أي قوة في أوراسيا تفقد أمريكا هيمنتها ويصبح من الضروري ألَّا تتمكَّن أي قوة أوروبية آسيوية منافسة من السيطرة على أوراسيا ومن ثم التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي السياق نفسه تمثِّل أوكرانيا منطقة مهمة من رقعة الشطرنج الأوروبية الآسيوية ومفتاح الاتجاهات الجيوسياسية في أوراسيا، إذ تصبح وظيفة جيوإستراتيجية عن طريق منع روسيا من التوسع كقوة برية نحو البحر الأسود واتخاذ مسارها الجيوبوليتيكي التاريخي نحو المياه الدافئة، ممَّا أدَّى إلى دعوة بريجينسكي لتحرير أوكرانيا من النفوذ الروسي.[14]

نتيجة لذلك ينظر اليوم إلى البلدان الصغيرة على حدود روسيا بوصفها رأس جسر محتمل للأعداء بما في ذلك أوكرانيا، بوصفها سلاح في أيدي القوى الغربية وعازمة على استخدامه ضد روسيا.[15] وهو ما يحدث اليوم في الساحة الأوكرانية.

كل ما سبق ذكره من مميزات جغرافية و(عوز جغرافي) لروسيا الاتحادية فضلاً عن أهمية موقعها في خرائط النظريات الجيوستراتيجية الكبرى شكَّل تحديات حقيقية في وجه الطموحات الروسية في الوقت نفسه الذي غذَّت فيه الطموحات الغربية للتقرب من الحزام الأمني لروسيا، وهو ما جرى ترجمته على صورة استمرار حلف الناتو بعد زوال الاتحاد السوفيتي كذلك مسألة الدرع الصاروخي[16]* في الأراضي التي تمثل مجال حيوي لروسيا واستمرار ضم كثير من بلدان الطوق الروسي إلى حلف الأطلسي مثل بولندا، ولتوانيا، وأستونيا، ولاتيفيا، وصولاً إلى جورجيا وأوكرانيا، ممَّا يعني إحاطة أطلسية بالحدود الروسية مباشرة وبذلك تكتمل عملية التطويق الشامل لروسيا بعد أن نشر التحالف قواعده في (الخليج الفارسي) وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى، فضلاً عن قواعدها في دول أوروبا الشرقية. ومن شأن ذلك كله أن يخلق لنا لعبة شطرنج كبرى لا وجود لروسيا  فيها.[17] وهو الأمر الذي عدَّه وزير الخارجية الروسي لافروف سياسة جديدة لاحتواء روسيا.[18]

وتجدر الإشارة إلى أنَّ آخر توسُّع للحلف جرى في ظل الحرب الروسية الاوكرانية وهو انضمام فنلندا للحلف رسمياً في الرابع من شهر نيسان عام 2023, ممَّا أنتج واقعاً جيوبوليتيكياً جديداً في ظل زيادة الحدود المشتركة بين الناتو وروسيا بأكثر من الضعف حيث أصبحت اليوم اجمالي الحدود (2.565كم)، بعد أن كانت (1205كم)، ينظر للخارطة (2). ممَّا يشكل تحدياً امنياً لموسكو ويهدد الأمن والمصالح الروسية على الحدود الشمالية الغربية. وقد صرح الرئيس الفنلندي قبل رفع علم بلاده في مقر الناتو بأنَّه: «لقد انتهى عصر عدم الانحياز العسكري في تاريخنا», مما يشير إلى نهاية حالة عدم الانحياز.[19] 

خريطة رقم (2) الحدود المشتركة بين الناتو وروسيا

المصدر: https://alkhattabirw.com/

نتيجة لما سبق يمكن القول إنَّ وجود الاتحاد السوفيتي خفَّف من عبء الجغرافية على روسيا وبتفككه عادت مواريث العوز الجيوبوليتيكي؛ فروسيا الاتحادية تواجه تحديات جغرافية ودولية من الغرب كوَّنت لها مأزق جيوبوليتيكي. وقد صاغ المفكرون الروس نظريات لمعالجة هذا المأزق وهو ما سوف يذُكِرَ في المبحث التالي.

المبحث الثاني

الأسس الفكرية للمفكر الروسي الكسندر دوغين

المطلب الأول: الأوراسية الجديدة.

كان هناك فراغ أيديولوجي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 بسبب نهاية الشيوعية كأيديولوجيا مهيمنة وميل روسيا الاتحادية لاحقاً إلى الليبرالية الديمقراطية، في الوقت نفسه أدرك الإستراتيجيون الروس استمرار السياسة الغربية العدوانية ضد روسيا. انطلاقاً من هذا الواقع كان هنالك جدل فكري يدور بين المنظرين الإستراتيجيين الروس، وعلى رأسهم ألكسندر دوغين[20]* يبحث في إمكانية قتال القوى الليبرالية لبعضها بعضاً. ومن هنا كان لا بدَّ من إيجاد نظرية تملأ الفراغ الفكري الإستراتيجي وتنطلق بافتراضاتها إلى معالجة الواقع الروسي.[21]

يرى ألكسندر دوغين الذي يعد أكثر الشخصيات الجيوبوليتيكية الروسية المعاصرة شهرة، وهو الذي وصفته أوساط عالمية كثيرة بأنَّه العقل الجيوبوليتيكي الذي يقف وراء التوجهات الإستراتيجية الكبرى لروسيا المعاصرة وصاحب النظرية الأوراسية الجديدة. يرى دوغين في تعريف الأوراسية بأنَّها «فلسفة سياسية ذات ثلاثة مستويات خارجية ووسطى وداخلية». على المستوى الخارجي تشتمل هذه النظرية على عالم متعدد الأقطاب، أي: هناك أكثر من مركز دولي لصنع القرار أحدها أوراسيا التي تضم روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق. أمَّا الأوراسية على المستوى المتوسط فتتميَّز بالتقاء دول الاتحاد السوفياتي السابق إلى جانب نموذج عابر للحدود أي تشكيل دول مستقلة. أمَّا على مستوى السياسة الداخلية فهي تعني تحديد الهيكل السياسي للمجتمع وفقاً للحقوق المدنية وعلى أساس أقسام من نموذج الليبرالية والقومية.[22]

عمل دوغين على تطوير الأفكار الأوراسية الكلاسيكية وتحويلها إلى «مشروع جيوبوليتيكي» ضمن الإستراتيجية الروسية وكان الهدف من ذلك مواجهة الهيمنة الامريكية، بمعنى قيادة روسيا للعالم الاوراسي؛ وذلك لأنَّ الروس يهيمنون على الأراضي المحورية في ذلك العالم.[23] ويرى دوغين أنَّ مشكلة الدولة الروسية تتجسد في أنَّها غير محظوظة من ناحية الاستقلال الجيوبوليتيكي لأنَّها محاطة بعدد كبير من الدول المجاورة,[24] وهو ما يسهل من سياسة الاحتواء الأمريكية الساعية نحو تطويق روسيا بسلسلة من الدول المعادية لها. وتتمثَّل المشكلة الثانية والتي يسميها “الانتقام الجغرافي” في عدم تمتع روسيا بموانع أو حواجز طبيعية ما يجعلها غير محمية استراتيجياً من أي غزو خارجي وهو ما يضع الروس أمام خيارين أما التكامل ضمن مجال كبير تحت قيادة الغرب أو إقامة مجال كبير جديد «الأوراسية الجديدة» يمكن من خلاله مواجهة الغرب.[25] وتتمثَّل المشكلة الثالثة في صعوبة الوصول إلى المياه الدافئة. كل المشاكل التي شخصها دفعته إلى طرح «مشروع الإمبراطورية الأوراسية».[26] ويستند مشروع التكامل الاوراسي على التكامل السياسي والامني والاقتصادي والثقافي بين دول أوراسيا التي ترغب بالتخلص من القطبية الأحادية، ويقوم التكامل على التعاون وفق المصالح المشتركة.[27]

نستطيع القول إنَّ دوغين آمنَ بالأوراسية الجديدة بوصفها عقيدة تحمل خلاصاً لكل المشكلات التي تعانيها روسيا، بل خلاصاً لكل مشكلات الإنسانية، وادعى أنَّ الأوراسية الجديدة ستكون العقيدة القائدة في المستقبل التي ستجعل من روسيا قوة عظمى[28]، إذ يدافع عن أهمية روسيا كرائدة في مشروع الإمبراطورية الأوراسية. ويرى دوغين أنَّ أساس البنية الجيوبوليتيكية لهذه الإمبراطورية التي سيتم إنشاؤها هو مبدأ «العدو المشترك», والتي تقوم على رفض أنَّها العدو المشترك لشعوب أوراسيا؛ لأنَّ الغالبية العظمى من البلدان والشعوب من أوراسيا لها خصائص قارية.[29]

تأسيساً على ما سبق يطرح ألكسندر دوغين ثلاثة محاور لتشكيل الإمبراطورية الأوراسية.

محور موسكو_ برلين:_ وهو ما يمثل عنده المحور الغربي للإمبراطورية المنشودة، وتقوم أوروبا الوسطى هنا بدور الجسر الرابط بين روسيا وألمانيا. ويتفق دوغين هنا مع ماكندر والجنرال الألماني كارل هوسهوفر بشأن التحالف بين روسيا وألمانيا الذي ينتج السيطرة على أوراسيا. وفي هذا المحور يجب دعم توجهات فرنسا القارية لدمجها مع المشروع الأوراسي، أمَّا بريطانيا فهي ضحية هذا المحور فينبغي استهدافها عبر دعم الحركات الانفصالية في إيرلندا وأسكتلندا؛ لأنَّ إنهاء بريطانية ينهي أهم قاعدة أطلسية في أوروبا.[30]

محور موسكو_ طوكيو:_ يوجد أكثر من قوة في هذا المحور وتمثِّل اليابان القوى الأولى تليها الصين والتي تشابه وضع فرنسا في المحور الاوربي.[31] يتيح هذا المحور مصالح متبادلة بين روسيا واليابان لأن الأخيرة تعاني من مشكلة عدم توفر الموارد الطبيعية (الموجودة في روسيا) أي إنَّ كلَّ ما تحتاجه اليابان تجده متوفراً في روسيا وكل ما ينقص روسيا تجده متوفراً في اليابان الأمر الذي يخلق مصالح متبادلة بين البلدين.[32] أما الصين فهي دولة قارية الا أن معظم توجهاتها كانت أطلسية لذلك يدعو دوغين للضغط على الصين للانضمام الى المحور الأوراسي. وبالنسبة للهند فتكمن أهميتها في هذا المحور بفعل موقعها الجيوبوليتيكي على أطراف القارة الاوراسية.[33]

محور موسكو_ طهران:_ يُعدُّ المحور الأهم لروسيا من بين المحاور الثلاثة؛ لأنَّه يحقِّق الهدف المتمثل بكسر الخنق الإستراتيجي الأطلسي المقام حولها ويُمكِّن روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة. وفي مسألة اختيار إيران؛ لأنَّها الأنسب بحسب رؤية دوغين، إذ إنَّها تتوافق مع التوجهات القارية الأوراسية من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية، لذا فهي حليف مهم لروسيا.[34]

تُعدُّ الأفكار التي عرضها دوغين في غاية الأهمية؛ لأنَّها تشير إلى الأفكار نفسها التي تدور في أذهان النخبة الحاكمة الروسية.[35] فالعقيدة الأوراسية بمختلف مراحل تطورها تمثِّل التوجهات الفكرية لدى صانع القرار الروسي, فقد أسهمت الأوراسية الجديدة بأحداث انعكاسات على سياسية روسيا الاتحادية منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. إلا أنَّ المفكرين الأوراسيين لم يقفوا عند وضع الأفكار الأوراسية فحسب، بل طُوِّرت على يد الكسندر دوغين عن طريق عرض النظرية السياسية الرابعة التي تُعدُّ مكملة لأطروحته الأوراسية، وتُعدُّ الغطاء الأيديولوجي لها.

المطلب الثاني: النظرية السياسية الرابعة.

قدَّم الكسندر دوغين مشروعه الأوراسي وفق النظرية الأوراسية الجديدة, لكن كان لا بدَّ من وجود فلسفة لملء الفراغ الأيديولوجي، ولهذا عرض النظرية السياسية الرابعة لكي تكتمل شروط مشروع الإمبراطورية الأوراسية ومقاومة الوضع الراهن. ومن وجهة نظره فإنَّ النظرية الرابعة تمثل الصيغة الأيديولوجية لنظام متعدد الأقطاب.[36] وبهذا الصدد يصنف دوغين النظريات السياسية الرئيسية إلى ثلاثة أنواع هي:_[37]

الليبرالية (بجناحيها اليميني واليساري).

الشيوعية (تشمل الماركسية والاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية).

الفاشية (تتضمن الاشتراكية القومية المتمثلة بالحزب النازي الالماني والحزب الفاشي الايطالي).

وقد انتقد النظرية السياسية الأولى «الليبرالية» التي ظهرت نتيجة الإصلاحات اللوثرية، وهي رمز من رموز البروتستانتية، ثم ظهرت النظرية السياسية الثانية «الشيوعية» كردة فعل على النظام البرجوازي وبعدها ظهرت «الفاشية». وقد تحالفت الأولى والثانية ضد الثالثة «الفاشية», بعد ذلك دارت حرب باردة بين النظرية الأولى والثانية وانتصرت الأولى. ومن ثَمَّ فإنَّ الليبرالية هي الوحيدة المتبقية، ودوغين يحاول تقديم رؤية فكرية أيديولوجية جديدة لتصبح بديلاً عن الليبرالية.[38]

يصف الكسندر دوغين مهمة النظرية السياسية الرابعة بأنَّها «ثورة محافظة» لرفض ومقاومة ما بعد الحداثة «الليبرالية» وما نتج عنها من العولمة بأدواتها التكنولوجية واللوجستية والمجتمع ما بعد الصناعي، أي: مجمل التجربة السياسية ذات النهج الليبرالي.[39]

وتتمحور أفكار النظرية السياسية الرابعة حول أيديولوجية أوراسية أرثوذكسية محافظة قومية وغير إثنية فيرفض القومية الروسية المنغلقة على حدود روسيا الاتحادية، إذ يعتقد أنَّ الشعب الروسي هو شعب إمبراطوري بالطبع والتاريخ لا يمكن أن يحبس داخل حدود قومية. بناءً على هذه الأفكار يؤكِّد دوغين ضرورة التدخل الروسي للسيطرة على المناطق التي يقطنها المتحدثون باللغة الروسية، فضلاً عن العرق السلافي في جورجيا والقرم وكذلك دول البلطيق. وهي الأفكار التي تُعدُّ المحرِّك الرئيس وراء التدخلات الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور الآن في اوكرانيا.[40]

ومن ثَمَّ تُعدُّ النظرية السياسية الرابعة تطوراً للأوراسية، وهي بديل لما بعد الليبرالية فهي تهدف إلى تشكيل حلف واسع ضد القوى الأطلسية بأبعاد جيوبوليتيكية وغطاء أو مبرر أيديولوجي؛ لمواجهة الهيمنة الأمريكية والحضارة الغربية الليبرالية.

الخاتمة واهم الاستنتاجات

تعد روسيا من بين أبرز القوى الدولية التي سعت في ماضيها وحاضرها للسيطرة على مجالها الحيوي وتوظيف الجيوبوليتيك في إستراتيجيتها بالنظر إلى الخصوصية التي يفرضها الموقع على تصورات ورؤى صانع القرار الإستراتيجي الروسي فيما يجب أن يكون عليه واقع حال ومستقبل الدور العالمي لروسيا الاتحادية في ظل واقع دولي شديد التنافسية يرى فيه البعض أن يحمل الكثير من خصائص ومزايا الحرب الباردة التي أسدل الستار عليها مع مطلع العقد التاسع من القرن الماضي.

وقد عمل المفكرين الروس أمثال ألكسندر دوغين على إعطاء حوافز ورؤى لصانع القرار الروسي في كيفية التعامل مع خصائص الجيوبوليتيك الروسي ومع المتغيرات الدولية ومتطلبات بناء المشروع الروسي خصوصاً في خطواته التمهيدية المتمثلة في الاتحاد الأوراسي. ومن أجل ذلك عملت روسيا على استعادة مناطق «الخارج القريب» التي تمثل مجالها الحيوي لما تمتاز به من أهمية جيواستراتيجية تعيد التذكير بقدرة روسيا على لملمة أطرافها وتوظيف هذا الفضاء الموحد في خدمة مشروعها على المستوى العالمي.

لقد توصلت الدراسة إلى جملة استنتاجات أهمها: _

إن الجيوبوليتيك لأي مجتمع هي ثقافة سياسية متأثرة بالجغرافيا وهي هندسة لسياسة الدول الخارجية ومفسر ومساعد لتحقيقها وهي التعبير الأمثل عن طبيعة علاقة الدولة بمحيطها الخارجي وسياساتها الخارجية وتصورها عن ذاتها ومحيطها وتأثيرها وتأثرها بالعالم الخارجي وكيفية صياغة السياسات والنشاطات التي تحقق لها أكبر العوائد وتجنبها المخاطر.

جاء مأزق روسيا الجيوبوليتيكي معبراً عن طبيعة الموقع الروسي المميز وخصائصه في العالم والذي يشكل عند كبار مفكري الجيوإستراتيجية قلب العالم النابض الذي يتيح لمن يسيطر عليه السيطرة على الجزيرة العالمية ومن بعدها على العالم بصورة أو بأخرى.

 لقد تفاقمت أزمة الجيوبوليتيكا الروسية بسبب تصاعد حدة الصراع الدولي في منطقة جوارها المباشر وكذلك في الظهير الأبعد والذي يمثل بالنسبة لروسيا تهديداً لأمنها القومي إذا ما تمكنت القوى الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية من دمجه في بيئة تحالفاتها الأمنية والسياسية وتحقيق الهدف المركزي بالنسبة لهذه القوى وهو تطويق روسيا الجديدة وعزلها عن مجالات تأثيرها الإقليمي والدولي وإجهاض مشروعها في استعادة مكانتها كقوة دولية قادرة على تحقيق التوازن المطلوب في العالم.

لقد مثلت طروحات المنظرين الروس شعوراً عالياً بالمسؤولية لإيجاد مخارج ذات موثوقية عالية لهذا المأزق وإسقاطاته مثلما مثلت فهماً عميقاً لخصائص هذا الموقع وإمكانات توظيفه في معادلة القوة والصراع بين روسيا كقوة بر مركزية وبين القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية كقوى بحرية في استعادة واضحة لمشهد المواجهة المحتومة بين الطرفين، والتي تعكسها فروض نظريات قلب الأرض والقوة البحرية والإطار المركزي.

لقد تمخض عن هذا الشعور العالي بالمسؤولية من جانب المنظرين الروس للمأزق الجيوبوليتيكي الروسي عن توجه مباشر لإعادة إحياء مشروع أوراسيا الكبرى التي تمهد لقيادة مركزية روسية لهذا الفضاء العملاق وتؤسس لقيامة جديدة للإمبراطورية الروسية كما تخيلها آباؤها المؤسِّسون في القرون الماضية، وهو مشروع يتناغم مع مشاريع إعادة إحياء الإمبراطوريات القديمة بثياب جديدة كأبرز معالم الصراع الدولي الجديد.

 

[1]   سماح مهدي صالح العلياوي: استراتيجيات التنافس الأمريكي_ الروسي على منطقة الشرق الأوسط منذ العام 2000, الطبعة الأولى، المكتب العربي للمعارف، مصر, 2022, ص130_ 131.

[2]    المصدر نفسه، ص129.

[3]    فيرونيكا حليم فرنسيس: جيوبوليتيك السياسة الخارجية الروسية «دراسة في اثر الجيوبوليتيك في علاقة روسيا بدول الجوار», المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة الإسكندرية، المجلد 4, العدد 8, 2019, ص151.

[4]   *  حلف شمال الأطلسي “الناتو “وهو اختصار لاسمها باللغة الانكليزية “North Atlantic Treaty Organization” ،هي منظمة تأسست عام ١٩٤٩ بناءً على معاهدة شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في واشنطن في ٤ نيسان عام ١٩٤٩ ، يوجد مقرها في بروكسل عاصمة بلجيكا، وهي موكلة بحماية أمن أوربا الغربية ومفوضة تحديداً بحماية حرية أعضائها وأمنهم، والحفاظ على الاستقرار ضمن منطقة أوربا والأطلسي، وتولي أمر الأزمات الدولية والحيلولة دونها، والعمل بصفتها منتدى استشارياً على قضايا الأمن الأوربية، وأخيراً دعم قيم منظمة الأمم المتحدة وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، والقانون الدولي. ينظر إلى:_ 

_ مارتن غريفيثس وتيري أو كالاهان، مصدر ذُكِرَ سابقاً، ص ٤١٦.

_ أليساندر فيجيس، مستقبل “الناتو” وتوسعه شرقاً وفي البحر المتوسط، مجلة السياسية الدولية، العدد 152، مؤسسة الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية،  القاهرة، 2003، ص20.

[5]   ابراهيم حردان مطر: رهانات الحرب الروسية على اوكرانيا واحتمالاتها، من كتاب جيوبوليتيك الأزمة الأوكرانية ومعطيات الترهل القطبي في عالم مابعد الحرب الباردة، الطبعة الأولى، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، برلين، 2022، ص23.

[6]    عبد المنعم هادي علي: روسيا _إيران دراسة في واقع الجوار والتنبؤ فيه، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الكوفة، ٢٠٠٦، ص٥٤. 

[7]   حسن ناصر عبدالحسين الشمري: تحديات استعادة المكانة الدولية لروسيا الاتحادية، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد 50، 2018، ص131.

[8]    ظاهر عبد الزهرة الربيعي_ ثناء ابراهيم فاضل الشمري: الموقع الجغرافي الروسي وجيوبولتيكية قاعدة طرطوس، مجلة ابحاث البصرة للعلوم الإنسانية، المجلد ٤٢، العدد ٦، ٢٠١٧، ص285.

[9]     عباس غالب الحديثي: نظريات السيطرة الجيواستراتيجية وصراع الحضارات، دار اسامة للنشر والتوزيع، عمان, 2004, ص37.

[10]    محسن عبد الصاحب المظفر: المسرح البيئي العسكري البداية الجيوبوليتيكية والنهاية الجيوستراتيجية, الطبعة الأولى, شركة دار العارف للأعمال ش. م.م., بيروت, 2014., ص90.

[11]    ابراهيم حردان مطر، مصدر سبق ذكره، ص24.

[12]    حميد ياسر الياسري_ احمد حامد خليوي البركي: الموقع الروسي في المنظور الجيوبولتيكي الغربي, لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية, العدد 14, 2014, ص12.

[13]   الكسندر دوغين, الحرب العالمية الثالثة: هل هي البداية؟, ترجمة: جلال خشيب, مركز ادراك للدراسات والاستشارات, 2017,    https://idraksy.net/third-world-war-beginning/   تاريخ الزيارة 2023/3/28.

[14]   ابراهيم حردان مطر، مصدر سبق ذكره، ص24_ 25.

[15]    Stephen Kotkin, Russias Perpetual Geopolitics Putin Returns to the Historical Pattern, Foreign Affairs ,2016

 https://www.foreignaffairs.com/articles/ukraine/2016-04-18/russias-perpetual-geopolitics,

 Date of visit 2023_ 4_ 5.

[16]*  يقصد بنظام الدفاع الصاروخي الأمريكي المضاد للصواريخ بناء شبكات حماية تتكون من أنظمة صاروخية، تستند إلى نقط متعددة محورية جغرافية قادرة على إسقاط أي صاروخ باليستي عابر للقارات معاد يستهدف أراضي الولايات المتحدة وحلفائها.  بمعنى أنَّ تقنية المشروع تقوم على رصد الأقمار الصناعية الأمريكية المنتشرة في الفضاء الخارجي بوجود الصاروخ لحظة تشغيله وقبل إطلاقه، والرادارات مكلفة بتتبع الصاروخ أثناء تحليقه وتشويشه ومن ثَمَّ إعطاء إشارة إلى قواعد الاعتراض بسرعة واتجاه الهدف لتدميره.

 ينظر إلى:_ عبد الحميد العيد الموساوي، إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية حيال جنوب غرب آسيا مطلع القرن الحادي والعشرين، دار الكتاب العلمية للطباعة والنشر، بغداد، 2013، ص263.

_رعد قاسم صالح العزازي، الاتفاقية الأمريكية الروسية النووية الجديدة _ستارت 2_ رؤية تحليلية، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العدد 30،الجامعة المستنصرية، 2010،ص138.=

=طارق طيب محمد طيب القصار، الموقف الألماني من مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي، مجلة جامعة تكريت للعلوم القانونية والسياسية، العدد 8، جامعة تكريت، 2010،ص223_224.

[17]   Clara Portela, Humanitarian Intervention, Nato and International Law, The Report is published by the Berlin Information center for transatlantic security, Berlin, December, 2000, p4.

[18]    عماد قدورة: محورية الجغرافيا والتحكم في البوابة الشرقية للغرب: أوكرانيا بؤرة للصراع، مجلة سياسات عربية، العدد 9, 2014, ص49.

[19]    Sune Engel Rasmussen &  Daniel Michaels , Finland Joins NATO in Historic Move, Sparking Russian Outcry, THE WALL STREET JOURNAL, April 4, 2023, https://www.wsj.com/articles/finland-joins-nato-in-historic-move-prompted-by-russia-as-sweden-waits-3839c7a3, Date of visit 2023_ 4_ 5.

[20]  * هو ألكسندر غيليفيتش دوغين, ناشط وفيلسوف سياسي وباحث في علم الاجتماع السياسي والفلسفة واللاهوت والجيوبولتيك ومؤسس العقيدة الاوراسية الجديدة، ولد في موسكو عام ١٩٦٢ من اب جنرال في جهاز المخابرات الروسية الKGB، درس في مقتبل حياته في اكاديمية الطيران المدني الا انه طرد منها بفعل اراءه السياسية عام ۱۹۷۹ ، وقد عمل دوغين على دراسة اللغات الاجنبية وانضم الى مجموعات من المثقفين الروس المناهضين للنظام الشيوعي والمهتمين بقضايا الدين والفلسفة التقليدية وشارك معهم في ترجمة اعمال الفلاسفة الأوروبيين التقليديين، واستمر دوغين بمواقفه المعارضة للنظام السوفيتي والايديولوجية الشيوعية والتي لم يكن مؤمناً بها اذ كان يتبنى الفلسفة الدينية التقليدية التي تقوم على افكار الكنيسة الارثوذكسية الروسية، وانخرط ببعض التنظيمات ذات الطابع القومي في الثمانينيات من القرن العشرين الا ان انهيار الاتحاد السوفيتي غير موقفه من النظام السوفيتي بشكل جذري اذ وصف هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة بأنها هزيمة حضارة اليابسة مقابل حضارة البحر.  ينظر الى:

_ John B. Dunlop, Aleksandr Dugins Foundations of Geopolitics, Demokratizatsiya Jour- nal, vol 12,No 1,  2004,p3.

[21]   فرونيكا حليم فرنسيس، مصدر سبق ذكره، ص157.

ينظر ايضاً_ سومر منير صالح: (الأوراسيانية) جيوبوليتيكيا القطبية الدولية الناشئة لروسيا (واقع وتحديات)، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 36, العدد1، 2020, ص301. 

[22]   فراس عباس هاشم: استعصاءات الجغرافيا روسيا واختراق المخيال الجيوبوليتيكي لمساحة الفضاءات العالمية، الطبعة الأولى، شركة دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان, الاردن, 2022, ص41.

[23]   Александр Дугин، ОСНОВЫ ГЕОПОЛИТИКИ, Издательство АРКТОГЕЯ. Москва, 1997, C.123-124.

[24]   Alexander Dugen, last war of the world-island: the geopolitics of contemporary Russia, Arktos media Ltd, London, 2015, P.p9-10.

[25]   Александр Дугин، OCHOBbI TEOIIOJIHTHKH, Op.Cit., C.239-244.

[26]   Ibid, C.98-100.

[27]   محمد جاسم حسين: الدور الروسي وملء فراغ القوة في المناطق الحيوية (دراسة جيوستراتيجية)، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة النهرين، ٢٠٢١, ص98.

[28]   مروان عوني كأمل_  نوار عامر شاكر، روسيا الاتحادية وخيارات التغيير تجاه النظام الدولي، مجلة تكريت للعلوم السياسية، العدد 20، جامعة تكريت، 2020، ص154.

[29]   الكسندر دوغين: أسس الجيوبوليتكا مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، الطبعة الأولى، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004، ص260_ 261.

[30]    نور الدين عبدالله نايف: توظيف المجال الحيوي في الإدراك الاستراتيجي الروسي بعد عام ٢٠٠٠، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، ٢٠٢١, ص58.

[31]    حسن فاضل: دور الأوراسية الجديدة في تطور الفكر الاستراتيجي الروسي، الطبعة الأولى, بيت الحكمة، بغداد، ۲۰۱۹, ص75.

[32]    Александр Дугин، OCHOBbI TEOIIOJIHTHKH, Op.Cit, C125_130.

[33]    WErme Ersen, Neo-Eurasianism and PutinsMultipolarismin Russian foreign policy, Turkish Review of Eurasian Studies, Asia Pacific Research Center, No 4, 2004, p.26-28.

[34]    Alan Ingram, Alexander Dugin: geopolitics and neo-fascism in post-Soviet Russia، Department of Geography, University of Cambridge, UK, Without a year, p.1040-1041.

[35]    Dmitry Shlapentokh، Dugin Eurasianism: a window on the minds of the Russian elite or an intellectual ploy?، studies in East European thought، Vol 59، No 3، California، 2017، P.215_236.

[36]   ALEXANDER DUGIN, EURASIAN MISSON AN INTRODUCTION TO NEO-EURASIANISM, Op.Cit, p.10.

[37]    جلة سماعين: النظرية السياسية الرابعة: روسيا وافكار القرن الحادي والعشرين، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 445, بيروت, 2016, ص171.

[38]    فراس عباس هاشم، مصدر سبق ذكره، ص35.

[39]   Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, Translation: Mark Sleboda & Michael Millerman, Arktos Media Ltd, London, 2012, p.21.

[40]   حسام حرجان عجاج العيساوي_ سيف نصرت توفيق: النظريات المفسرة للتدخل الخارجي في الاستراتيجية الروسية، مجلة الدراسات التاريخية والثقافية، المجلد 14، العدد (١\٥٨) ، 2023، ص45.