حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية
حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف
حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)
CC BY-NC-ND 4.0 DEED
Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University
Intellectual property rights are reserved to the author
Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)
Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International
For more information, please review the rights and license
تعويض اندثـــــــار الآلات
د. درع حماد
جامعة الفلوجة
مقدمة
يضع المشرع القاعدة القانونية لتمثل نظاما عاما للمجتمع، فالقاعدة القانونية قاعدة للسلوك الاجتماعي تتضمن تكليفا للاشخاص باتباع مسلك معين، وهي في هذا تسبق في وجودها ذلك النموذج السلوكي الذي تضعه، ولما كانت القاعدة القانونية موضوعة سلفا، فانها لا يمكن أن تتنبأ بما يعرض في المستقبل من فروض واحتمالات، ولما كانت اشاعة النظام في المجتمع وتحقيق الاستقرار فيه يقتضي الأخذ بالغالب الشائع مما يجري في الحياة الاجتماعية وتنظيمه، فالتكليف الذي يتضمنه القانون لا يكون الا تكليفا عاما للمخاطبين به، عاما في مخاطبة الاشخاص بصفاتهم لا بذواتهم ومجردا عن الوقائع والتفاصيل الجزئية، وهذه الصفة المزدوجة للقانون وهما العمومية والتجريد هما اللتان تعطيان القانون صفة الدوام فيطبق على الوقائع الحالية كما يمتد الى المستقبل مما يحعل القاعدة القانونية مستمرة لا يستنفدها الزمن، بل مستمرة في التطبيق مما يعطيها مع الاستمرار في التطبيق فهما وادراكا لمضمونها يجعل من اتباعها وتطبيقها أمراً سهلاً ميسوراً على القضاء، فاذا توالت السنوات والعقود على هذا التطبيق، لن تجد من يخطيء في فهم القاعدة القانونية أو تفسيرها.
لكن يجب أن يكون مفهوما أن مناقشة خاصية العمومية والتجريد بهذه الطريقة لا تتضمن دعوة مبطنه أو صريحة لجمود القانون، فالقانون يخضع للتطور وتجديد ومواكبة حياة المجتمع يقوم به المشرع عادةً، فاذا تأخر عن ذلك، شمر القضاء عن ساعد الجد لتحقيق مواكبة القانون للواقع وبصورة تحقق العدل والمساواة بين الناس أو تحقيقا لاستقرار المعاملات اذا تعارضت هاتان الغايتان النبيلتان.
واذا عرضنا وقائع القضية الماثلة والحكم الصادر فيها وحيثياته، نجد أن الوقت لا يزال مبكرا على ادراك غاية وأهداف العمومية والتجريد في القاعدة القانونية، فعمومية القاعدة القانونية وتجريدها يقتضي بيان العناصر الأساسية التي ترسم صورة الواقعة ثم عرض هذه العناصر على النموذج القانوني الذي وضعه المشرع من خلال القاعدة القانونية، فإن وجد تماثلا أنزل الحكم الوارد في القاعدة على الواقعة المعروضة.
إن التطبيق المتكرر للقاعدة القانونية يكسبها استقراراً مستمراً على نحو يفهم منه مضمونها خصوصا من قبل الجهة التي تقوم بتطبيقها ونعني به القضاء ، والحكم محل التعليق يعرض هذه المشكلة.
أولا: الوقائع.
تظهر وقائع القضية على نحو ما أورده الحكم التمييزي أن المدعي أقام دعواه أمام محكمة بداءة النحف أنه كان قد باع بتاريخ 8/3/2011 المعمل العائد له والخاص بتعبئة ماء (R.O.) الى المدعى عليه، وانه تمت إعادة الحال بين الطرفين بموجب حكم صادر من نفس المحكمة، لكن المدعى عليه استمر باستغلال المعمل مما أدى الى حصول استهلاك في المعمل موضوع الدعوى وطلب الزامه بأداء مبلغ مائتان وخمسون مليون دينار ، فاصدرت محكمة البداءة حكما برد الدعوى فتم الطعن بالحكم البدائي استئنافا، فقضت محكمة استئناف النجف بتأييد الحكم البدائي من حيث النتيحة ورد الطعن الاستئنافي. قام المدعي بالطعن بالحكم الاستئنافي تمييزا فقضت محكمة التمييز حكمها الوارد في الفقرة التالية.
ثانيا: الحكم التمييزي.
الحكم الصادر من محكمة التمييز بالعدد: 226/ الهيئة الاستئنافية منقول/2024 بتاريخ: 22/1/2024 [1] وقد قضى بالاتي « .... ولدى عطف النظر على الحكم المميز وجد أنه غير صحيح ومخالف للقانون لأن الثابت من وقائع الدعوى أن المدعي/المميز قد باع الى المدعى عليه/ المميز عليه معمل الرواف للمياه الصحية مع كافة مشتملاته بموجب عقد البيع الخارجي المؤرخ 8 /3/2011 ولبطلان العقد فقد أقام المدعى عليه الدعوى المرقمة: 1218/ب/2018 لاسترداد البدل وقد صدر حكم بذلك واكتسب الدرجة القطعية حيث أقام المدعي هذه الدعوى للمطالبة بالتعويض عن استهلاك المعمل وأن محكمة الاستئناف قد ردت الدعوى باعتبار أن عقد بيع المعمل الخارجي باطل قانونا دون أن تلاحظ أن العقد المذكور باطل قانونا باعتباره تصرف قانوني الا أنه يشكل واقعة مادية من خلالها وضع المدعى عليه يده على المعمل واستغل مكائنه وتوابعها وبالتالي فإنه لا يضمن الاضرار الحاصلة والناشئة عن الاستعمال الاعتيادي أما بالنسبة للاضرار الناشئة عن الاستعمال غير الاعتيادي فانه ضامن لها وبالتالي كان على المحكمة إجراء المعاينة على المعمل بصحبة خبراء مختصين والوقوف على حصول الاضرار وسببها وعلى ضوء إكمال التحقيقات تصدر المحكمة القرار الذي تراه مناسبا وفق القانون ولمخالفة الحكم المميز لوحهة النظر القانونية المتقدمة قرر نقضه .......».
ثالثا: التعليــــق
يثير الحكم التمييزي جملة من المسائل يتعين الوقوف عندها في كيفية المعالجة وطريقة التسبيب وكما يأتي:
عدم انعقاد عقد بيع المعمل
استهل الحكم التمييزي الاسباب التي برر بها حكمه مؤيدا فيها حكم محكمة استئناف النجف بأن عقد بيع المعمل عقد غير منعقد، وحسب تصورنا المعقول أن بطلان بيع المعمل استند الى انتفاء ركن الشكلية في هذا العقد، فبيع المكائن والالات والمعدات من العقود الشكلية التي لا تنعقد الا بإستيفاء متطلبات الشكلية وهي تسجيل عقد البيع المتعلق بها لدى دائرة الكاتب العدل، والجزاء المتخلف عن عدم استيفاء متطلبات الشكلية هو بطلان العقد. (المادة 30 من قانون الكتاب العدول رقم 33 لسنة 1998)
ويبدو ان محكمة البداءة والاستئناف قد اثارتا التمسك ببطلان العقد باعتباره تصرفا قانونيا فانتهيا الى انه لا يولد حقا ولا يرتب التزاما ، لكنهما اي المحكمتان لم يتكفلا بتصفية الموقف الناشيء عن العقد الباطل، فاذا كان العقد الباطل لا ينعقد لا يفيد الحكم اصلا، فان المتعاقدان يعادان الى الحالة التي كانا عليها قبل العقد. (138 مدني عراقي)، ويبقى بعد ذلك سؤال مفاده هل تحكم المحكمة باعادة المتعاقدين الى الحالة التي كانا عليها قبل العقد من تلقاء ذاتها أم لا بد لكل واحد من المتعاقدين أن يطالب برد ما تسلمه المتعاقد الاخر منه بمناسبة العقد.
العقد الباطل واقعة قانونية ترتب بعض الاثار.
إن بطلان العقد بإعتباره تصرفا تتخلف عنه واقعة قانونية، وهذه الواقعة تخرج العقد من دائرة التصرفات القانونية وتحيله واقعة مادية من جهتين: الجهة الاولى هي الاضرار المترتبة على بقاء محل العقد الباطل تحت يد المشتري بموجب العقد الباطل ، وهي مسألة دقيقة يتعين التعامل معها بقدر كبير من الدقة ، فالاضرار التي تحصل في المضرور قد حصلت بإذن البائع ، والاذن يرفع عن حيازة المشتري صفة الغصب، فتكون الحيازة بهذا المعنى مشروعة ، فـ «الجواز الشرعي ينافي الضمان» (م6 مدني عراقي) فتكون يد المشتري يد أمانه ، فلا يسأل عن الاضرار التي تلحق بالمبيع بعقد باطل الا تلك الاضرار التي وقعت بتعديه ، ويتعين بيان الوقت الذي أصبح فيه المشتري متعديا، لمسائلته بحسبانه غاصبا، وهي مسالة تستخلص من سلوك الطرفين خلال الفترة اللاحقة على بطلان العقد. وهذه الاضرار يكون المشتري مسؤولا عنها طبقا لقواعد المسؤولية التقصيرية.
أما الجهة الثانية ، مسؤولية المشتري الحائز عن الاعمال النافعة ، وهي المكاسب التي حصل المشتري عليها من المبيع بعقد باطل من زوائد ومنافع وثمار، ويجب عليه ردها الى البائع لعدم وجود أساس قانوني للاحتفاظ بها، ومسؤولية المشتري هنا تقوم على أساس قواعد الكسب دون سبب ، واذا كانت الاحكام المنظمة للكسب دون سبب تضع تمييزا واضحا في رد الثمار والزوائد بين ما اذا كان المشتري حسن النية أو سىء النية ، فلا يرد الثمار في الحالة الاولى وبردها في الحالة الثانية ، فان هذا التمييز لا محل له بالنسبة للاثراء بلا سبب المترتب على العقد الباطل، اذ لا يتصور أن يكون المشتري حسن النية ، فبطلان العقد يتعلق بقاعدة قانونية آمرة يفترض علم الكافة بها ولا يمكن الادعاء بحسن النية في مثل هذا الفرض، ولهذا فان أمر الرد لا تثار فيه هذه المسألة ولا تصلح دفعا يحتج به المشتري على البائع.
بطلان عقد البيع وتطبيق أحكام عقد الايجار.
ناقش الحكم التمييزي طلب المدعي (البائع) التعويض عن استهلاك المعمل ، وهي الاضرار الناتجة عن اندثار المعمل وهي في الحسابات الاقتصادية يطلق عليها الاهلاك، وهي طريقة محاسبية يتم من خلالها توزيع قيمة الاصول (المعمل) على مدى سنوات عمرها الافتراضي ومن خلال توزيع تلك القيمة يسهل تحديد ما تخسره تلك الاصول من قيمتها بدقة، لكن الحكم التمييزي اطلق عليها تسمية أخرى هي الاضرار الناشئة عن استعمال المعمل وأوجب وضع تمييز بين الاضرار الناشئة عن الاستعمال العادي والاضرار الناشئة عن الاستعمال غير العادي، وقرر أن المدعى عليه لا يضمن الاضرار الناشئة عن الاستعمال العادي، أما الاضرار الناشئة عن الاستعمال غير الاعتيادي فانه ضامن له، ولم يظهر في الحكم التمييزي الاساس القانوني لمثل هذا التمييز والاحكام التي تترتب عليه ، بل لم يورد النص القانوني الذي يؤسس عليه هذا الحكم، فمن أين جاءت هذه التفرقة؟
لا يوجد في عقد البيع الذي نظمه المشرع العراقي مثل هذا التمييز، لكنه يوجد في الأحكام المنظمة لعقد الايجار، فتقرر المادة (764) من القانون المدني أن «1- المأجور أمانة في يد المستأجر. 2- واستعمال المستأجر على خلاف المعتاد تعد فيضمن الضرر المتولد عنه».[2] فهل تم التعامل بشأن الاضرار الناتجة عن اندثار المعمل بموجب أحكام عقد الايجار ؟
لا يوجد مسوغ قانوني لتطبيق أحكام عقد الايجار على علاقة الطرفين أو لتصفية هذه العلاقة، فالعقد الذي أبرم بين الطرفين هو عقد بيع باطل أي غير منعقد، وإذا لم يكن هناك عقد بين الطرفين، فان الذي ينظم علاقتهما هو الواقعة القانونية سواء كانت هذه الواقعة نافعة أو واقعة ضارة .
لكن محكمة التمييز الموقرة اذا كانت قد أخذت على محكمتي أول درجة وثاني درجة انهما لم تلتفتا أن العقد الباطل باعتباره تصرفا قانونيا الا أنه يشكل واقعة مادية وضع من خلالها المدعى عليه يده على المعمل واستغل مكائنه وتوابعها ، لكنها عادت للاخذ بما أخذته على محكمة الاستئناف ولم تلاحظ وجود الواقعة التي تخلفت عن التصرف، وكانها اعتبرت عقد البيع الباطل تصرف قانوني في صورة عقد الايجار وقضت بتطبيق أحكام عقد الايجار بالنسبة للأضرار الناشئة عن الاستعمال الاعتيادي فلا يضمنها المستأجر وتلك الناشئة عن الاستعمال غير الاعتيادي فيضمنها وهي نتيجة غريبة، ورغم أن محكمة التمييز لم تشر الى عقد الايجار بشكل صريح، لكنها طبقت أحكامه في العلاقة بين الطرفين.
هل يمكن القول بتحول البيع الى ايجار بموجب نظرية تحول العقد؟
لا شك لدينا بإستحالة تطبيق نظرية تحول العقد على الحالة المعروضة، ذلك أن فكرة تحول العقد تفترض وجود أركان عقد آخر صحيح، فاذا العقد باطلا وتوافرت فيه أركان عقد آخر، فانه يكون صحيحا باعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن المتعاقدين كانت نيتهما تنصرف الى ابرام هذا العقد. (م140 مدني)
وفكرة التحول هذه ليست متاحة دائما ويمكن تطبيقها ايا كان العقد، فالتحول يفترض ان تقع العقود في طائفة واحدة أو تحمل مضمونا متقاربا، فالبيع يتحول الى هبة باعتبارهما عقدان يردان على الملكية اذا كان البيع بغير ثمن أو بثمن تافه، والعكس صحيح أيضا إذا كانت الهبة بثمن جدي، لكن أن ينقلب البيع الباطل الى إيجار دون أن تتوفر فيه أركان وعناصر عقد الايجار، فان ذلك يستحيل قانونا.
وفضلا عما تقدم، فإنه يشترط لإعمال نظرية التحول أن تنصرف نية المتعاقدين الى العقد الذي توفرت أركانه اذا تبين بطلان عقدهما الأول ، فهل البيع الذي انصرفت فيه نية المتعاقدين الى نقل الملكية مقابل ثمن يتحول الى عقد إيجار محله منفعة المأجور؟
لا شك لدينا بأستحالة مثل هذا التحول، وهذه الاستحالة تبرز أكثر في العقود التي يشترط القانون لإنعقادها شكلا معينا، اذ القول بتحول العقد الشكلي الى عقد آخر غير مسمى يعد من قبيل التحايل على القواعد القانونية الآمرة التي تشترط استيفاء الشكل في بعض العقود، وفي هذا السياق كنا ولا نزال نؤمن أن عقد بيع العقار غير المسجل في دائرة التسجيل العقاري عقدا باطلا ولا يتحول الى عقد غير مسمى كما ذهب الى خلاف ذلك بعض الشراح ، كما لا ينشأ منذ البداية عقدا غير مسمى كما ذهب آخرون أيضا وهم بصدد بحث الاساس القانوني للتعويض عن الاخلال بالتعهد بنقل ملكية عقار الذي اشات اليه المادة (1127) من القانون المدني العراقي، بل أن هذا التعويض يستند الى العقد بحسبانه واقعة قرر القانون تعويضا عن وقوعها، كما نعتقد، أيضا، أن طلب التمليك بموجب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (1198) لسنة 1977 يستند الى التعهد بنقل الملكية باعتباره واقعة وليس تصرفا قانونيا اتجهت اليه الارادة.
الاساس القانوني للمطالبة بالتعويض عن الاندثار.
يمكن أن نجد الاساس القانوني للتعويض عن اندثار المعمل في نص المادة (193) من القانون المدني التي تنص على أنه «يضمن الغاصب اذا استهلك المال المغصوب أو اتلفه أو ضاع منه كله أو بعضه بتعديه أو بدون تعديه». كما تنص المادة (195) على أنه « اذا تناقصت قيمة المال المغصوب بعد الغصب فليس للمغصوب منه الا أن يقبله كما هو دون إخلال بحقه في التعويض عن الاضرار الاخرى، لكن أذا طرأ على قيمة المغصوب نقصان بسبب استعمال الغاصب أو بفعله لزمه الضمان». فالمشتري حكمه حكم الغاصب، فقد صارت يده على الشيء يد ضمان يكون فيها عرضة للمسؤولية التقصيرية عن الضرر الذي لحق المال المغصوب سواء حدث الضرر نتيجة تعديه أو بدون تعد منه، والاندثار (أو الاستهلاك) أمر واقع مؤكد الحدوث ، فعمر الالة أو الماكنة يمتد الى عمر افتراضي لها ، بحيث يصبح تشغيلها الاستفادة منها مكلفا لصاحبها قد يجعل من استخدامها في عملية الانتاج غير ذات جدوى بالنظر لما تتطلبه من إصلاح وتبديل قطع وكثرة الاعطال، ولهذا تتخلى الشركات والاشخاص عن هذه الالات بعد انتهاء عمرها الافتراضي، فتصبح عديمة الجدوى اقتصاديا، ولما كان المشتري استغل المعمل ورفض اعادته الى صاحبه طيلة مدة وضع يده عليه، فانه يكون قد تسبب في استهلاك (اندثار) مكائن المعمل وملحقاته طيلة فترة وضع اليد عليها مما يجعل المدعي مستحقا للتعويض دون توقف الحكم بالتعويض على تحديد الاستعمال غير العادي ، فالمشتري ليس مستأجرا حتى يمكن تأسيس التعويض على طريقة الاستعمال، بل هو غاصب يضمن تعويض اي أضرار لحقت مالك المعمل (البائع) ومن هذه الاضرار استهلاك المعمل، واستهلاك المعدات والالات ضرر محقق الوقوع لا مجال لإنكاره، لأنه ضرر وقع فعلا، فالشركات على سبيل المثال عندما تستعمل مكائن والات معينة، فانها تقوم بتوزيع كلفتها على مدار عمرها الافتراضي الانتاجي ، فتقل قيمة تلك المكائن أو الالات (الاصول) مع مرور الزمن ، الى أن تصبح تلك الاصول عديمة الجدوى فيتم احلال غيرها محلها.
فاذا تأكدنا من توفر الشرط الاساس في الضرر الذي يطالب به البائع (المدعي) وهو أن يكون الضرر مؤكدا، يبقى الشرط الثاني وهو أن يكون هذا الضرر مباشرا، ومعنى الضرر المباشر هو ما كان نتيحة طبيعية للعمل غير المشروع وهو الاحتفاظ بحيازة المعمل وعدم رده الى صاحبه، لكن السؤال هل حيازة المدعى عليه (المشتري) غير مشروعة اذا كان البائع هو الذي سلم الشيء اليه، والقاعدة تقول أن الجواز الشرعي ينافي الضمان والبائع هو الذي اجاز للمشتري استعمال الشيء بموجب العقد المبرم بين الطرفين رغم أنه عقد باطل؟
قلنا من الآثار الأساسية للعقد الباطل، والتي لا يلتفت لها كثيرون، أنها ترفع عن فعل واضع اليد على الشيء صفة الغصب، ومن ثم لا يضمن الغاصب أي أضرار تتعلق بالمال المغصوب طبقا للقاعدة السالفة، لكن هل مثل هذا الجواز يبقى قائما ولا يلزم المشتري برد المال المغصوب؟
الاحابة على هذه النقطة يفرضها المنطق قبل القانون. فالغاية من القاعدة تسوية أوضاع معينة ليس من العدل الحكم بالتعويض عنها، فتسلم المشتري المبيع بعقد باطل، يجعله قد اثرى بغير وجه حق على حساب البائع مما يجعله مسؤولا عن التعويض عن وضع يده على الشيء ، ولكن لأن المتعاقدين قد لا يعلمان ببطلان عقدهما، فان من العدل أن لا يكون المشتري مسؤولا عن الضمان بحسبانه غاصبا، وقد جرى القضاء في العراق على اعتبار انتفاع البائع بالثمن مقابل انتفاع المشتري بالمبيع ولهذا لا يحكم بالتعويض في مثل هذا الفرض، وهو في رأينا غير دقيق، والاصح ان يقال أن كلا الطرفين قد انتفع بمال الاخر بموجب إباحة أو إجازة.
لكن هل يلزم المشتري برد الشيء المبيع؟ الاجابة نعم يلزم المشتري برد الشيء، وهل يلزم بضمان الاضرار التي لحقت بالمالك بعد امتناعه عن رد الشيء . الاجابة نعم يجب عليه أن يدفع تعويضا كاملا عن الاضرار التي لحقت بالالات والمعدات ذاتها وأن يعيد زوائدها أو ثمارها التي انتجت بها خلال فترة الغصب كما يضمن استهلاك هذه المواد التي نتجت عن استهلاك بعض عمرها الافتراضي ، وهذه الاضرار الاخيرة هي الاضرار التي طالب البائع بها .
اذن قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان ليست قاعدة مطلقة يمكن التعويل عليها في الانتفاع بالشيء بصورة مطلقة وممتدة مع الزمن، فاجازة الاستعمال تزول بمجرد إبداء المالك رغبته بالرجوع عنها بأي صورة أي سواء كان ذلك بصورة صريحة أو ضمنية وسواء كان الرجوع عن الاجازة قد تم بطريقة تحريرية أو شفهية، فالمهم أن المالك قد عبر عن رادته في الرجوع عن الاجازة، فاذا لم يقم المشتري برد الشيء فور اتصال علمه برجوع المالك عن إجازته ، انقلبت يده الى يد غاصب، وعليه أن يتحمل ما يتحمله الغاصب من ضمان حتى لو كان الضرر قد نشأ بفعل قوة قاهرة، ومن باب أولى إذا كان الضرر قد نشأ بفعله هو.
مشكلة تسبيب الحكم
يلاحظ على الحكم القضائي محل التعليق أنه جاء خلواً من الأسباب، بل لم تتم الاشارة حتى الى النصوص القانونية التي استند اليها الحكم المميز وجاء تطبيقا لحكمها، فالتسبيب هو الذي يعطي القناعة بصحة الاستنتاح الذي توصلت اليه المحكمة.
ويبدو أن مسألة تسبيب الأحكام أصبحت مشكلة مزمنة في الاحكام الصادرة من محكمة التمييز الموقرة ، فقد تجد الاسباب متناقضة وأحيانا مقطوعة الصلة بما توصلت اليه، وقد تكون الاسباب غير موجودة أصلا، رغم أجماع الفقه والقضاء المقارن سواء في فرنسا أو مصر وقوانين مختلف دول العالم التي تنظم نظرية الاحكام القضائية على وجوب تسبيب الأحكام القضائية، فالتسبيب واجب في كل الاحكام القضائية أيا كانت طبيعة الدعوى التي تنظرها المحكمة، لأن التسبيب جزء أصيل من الحكم القضائي.
وحتى يصح التسبيب ركنا في الحكم القضائي، يجب أن يكون واضحاً بغير إبهام أو غموض وأن تكون الاسباب اذا تعددت جوانبها وتظافرت لاسناد الحكم القضائي أن تكون غير متنافرة مع بعضها، بل يسوقها منطق موحد للوصول الى النتيجة التي توصل اليها ذلك الحكم.
وينبغي أن تكون الأسباب والحيثيات التي يوردها القاضي مستمدة من عناصر القضية المعروضة وليس من وقائع أو مستندات لم تطرح للمناقشة أمام القضاء، فمن المباديء المستقرة في فقه وقضاء المرافعات المدنية أن ليس للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي.
والأسباب التي يعرضها القاضي في حكمه تشتمل على نوعين من العناصر هي العناصر الواقعية والعناصر القانونية، ذلك أن القاضي يفصل في نزاعات الافراد إما عن وقائع قانونية أو عن تصرفات قانونية وهذا يقتضي وضع هذه الوقائع أو تلك التصرفات في سياق معين أدركه وفق منطق بنيت عليه عقليته القضائية وهي عقلية تتخذ من النماذح القانونية التي وضعها القانون ومعه الفقه لفهم الاشياء، فاذا توصل الى سياق معين لما عرضه الخصوم عليه استدعى الى ذهنه القوالب القانونية المناسبة لما عرضه الخصوم وطبق النصوص التي وضعها المشرع (أو من مصادر القانون الاخرى كالعرف والعدالة)، ولهذا فان الخطأ في الوضع السياقي لنزاعات الخصوم يترتب عليه الخطأ في تطبيق القانون كنتيجة منطقية لمثل هذا الخطأ. فالقاضي عندما يضع نزاع الخصوم وفق سياق معين، فانه يقوم بتكييف مقطع النزاع بين الطرفين، اذ يجب أن تكون الاسباب كاشفة عن الوصف القانوني لنزاع الطرفين ومن ثم يتجه القاضي الى تطبيق القاعدة القانونية المناسبة. وهكذا تجد أن تسبيب الأحكام له ارتباط وثيق بتكييفها رغم أن الفقه يضع الحدود الفاصلة بين المفهومين، فالتكييف هو وصف الوقائع التي جرت بين الطرفين من وجهة نظر القانون، وهذا الوصف يعني أن القاضي يبحث عن العناصر والسمات الأساسية للوقائع ثم يجد القالب القانوني الذي وضع له المشرع خصائص معينة توافرت في الوقائع المعروضة فيطبق الحكم الذي تضمنه القانون، وبقول آخر فالتكييف هو مقاربة بين القانون والواقع والعكس هو الادق.
واذا كان التكييف على نحو ما بسطناه انفا هو إظهار الوصف القانوني للوقائع ، فان التسبيب أوسع نطاقا وأكثر شمولا، فهو بيان للحيثيات التي أدت الى نتيجة الحكم وهو منطوقه، ولاشك من العرض السالف أن التكييف يعد جزءا أساسيا من أسباب وحيثيات الحكم القضائي، ويعمد القاضي اللامع الى توظيف مسألة التكييف في أسبابه شرحا وتأصيلا لبيان مدى قدرته وادراكه لمجريات النزاع الذي يفصل فيه، بل ويرد على ادعاءات الخصوم بتكييفات مغايرة للنزاع المعروض للوصول الى تطبيق نصوص قانونية تخدم موقفهم في النزاع، وهكذا يكون التكييف وسيلة عملية لليقين أن القاضي يدرك حقيقة الواقع ويدرك القانون أيضا، فيكون حكمه متمشيا مع الحقيقة في مدلولاتها القانونية فيتحقق الاقتناع بالحكم وتقوم الثقة فيه ومن ثم الثقة في القضاء والعدالة.
وتسبيب الأحكام القضائية له فضائل لا سبيل الى نكرانها، لعل أهما هو بسط محكمة التمييز رقابتها على سلامة التطبيق القضائي للقانون على الوقائع ، أي سلامة الحكم القضائي وصحته الاجرائية والموضوعية ، فمحكمة التمييز لها دور بالغ الاهمية في توحيد الاجتهادات القضائية في تطبيق القانون، فايراد أسباب الحكم وسيلة المحكمة العليا في التحقق من أن الحكم قد بني على أسباب سائغة ، فهي تراقب عمل القاضي في حكم معين من خلال الأسباب التي أوردها في ذلك الحكم .
وللحكم القضائي أهمية كبيرة في الفهم السليم للقانون، ولعل المجموعات القضائية التي تتضمن أحكام محكمة التمييز معين لا يستغني عنه القاضي الناشيء والمحامي والاستاذ وطالب القانون ، لكن هذا الفهم لا يتأتي الا من خلال الاسباب التي يعرضها القاضي والنتيجة التي توصل اليها، فيتأكد قارىء الأحكام القضائية من سلامة فهمة وصحة إدراكه في مسألة قد تكون التبست عليه، فغاية التسبيب وان كانت توفر القناعة بمعقولية الاسباب التي استند اليها الحكم القضائي ومن ثم الشعور بتحقق العدالة، فان للتسبيب دورا معرفيا يساعد على الفهم العملي لنظريات القانون ومدى حظها من التطبيق القضائي.
ويبدوا أن اعتذارا واجبا يتعين علينا أن نقدمه للقاريء في هذا الموضع بعد أن بسطنا موضوع التسبيب في الاحكام القضائية من خلال تعليق يفترض فيه الايجاز، لكن نستميح القاريء العذر في أن موضوع تسبيب الاحكام أصبح مشكلة متفاقمة لا سبيل لتجاوزها الا بالاشارة اليها ببعض التوسع .
واذا عدنا الى القرار محل التعليق نجد أنه جاء خلواً من الأسباب تماما، ولا يمكن الإحالة الى أسباب الحكم الصادر من محكمة الاستئناف، لأن الحكم التمييزي نقض الحكم الصادر من محكمة الاستئناف مما يقتضي ايراد أسباب لحكم النقض الصادر من محكمة التمييز، فلا تصلح الاسباب الاستئنافية اسبابا للحكم التمييزي عند نقضه ، فمحكمة الاستئناف حكمت برد دعوى المدعي بالتعويض، لأن عقد بيع المعمل باطل فلا يفيد حكما وهو نظر غير سليم، لأن العقد وإن وقع في دائرة البطلان، فانه تترتب عليه اثار مادية وهي إعادة المتعاقدين الى ما كانا عليه قبل التعاقد، وتتحول يد المشتري الى يد غاصب من يوم طلب البائع إعادة تسليم المبيع، وقد لاحظت محكمة التمييز هذا الجانب من المسالة، لكنها (محكمة التمييز) وقعت في تناقض لا يجوز لمثلها أن تقع فيه ، وهو أنها طبقت أحكام عقد الايجار عليه من خلال وضعها معيار طريقة الاستعمال، فان كان الاستعمال عاديا لا يحكم للبائع بالتعويض وإن كان استعمال المشتري بالعقد الباطل غير اعتيادي وجب عليه التعويض، فهي وإن لم تصرح بتطبيق أحكام عقد الايجار، لكن مثل هذا التمييز بين نوعي الاستعمال لا وجود له الا في عقد الايجار، واذا لم تكن نظرية تحول العقد لا تجد لها مجالا في التطبيق، كما اسلفنا، فإنه كان على محكمة التمييز الموقرة أن تدفع المنطق الذي بدأته في بيان أسباب نقض الحكم الاستئنافي الى نهايته والنظر الى عدم رد المعمل الى البائع على أنه واقعة قانونية وهي واقعة الغصب.
وفي الغصب لا يوجد مثل هذا التمييز بين الاستعمال الاعتيادي للشيء أو الاستعمال غير الاعتيادي له، فالغاصب يلزم برد المال المغصوب والتعويض عن جميع الأضرار التي لحقت صاحب الشيء من وقت انتهاء الاباحة أو الاذن ، وهذه الاباحة قد انتهت بطلب المدعى عليه رد البدل وصدور الحكم لصالحه بذلك، فليس من السائغ أن يطلب رد البدل لبطلان العقد ويحتفظ بمحل العقد المبيع بعقد باطل ، وحيث أن المدعي لم يطالب باي أضرار أخرى كما هو ظاهر من القرار التمييزي، فكان يتعين إجابة طلبه بالتعويض من خلال تقدير هذا التعويض بالاستعانة بخبراء مختصين بالتكاليف المحاسبية وليس خبراء في مجال بيان الاستعمال الاعتيادي أو الاستعمال غير الاعتيادي، ومن ثم يصدر الحكم على وفق متضمنات تقرير الخبير/الخبراء مادام واضحا ومسببا ويكون ذلك التقرير من بين الاسباب التي يستند اليها الحكم القضائي.
لقد جاء الحكم القضائي متناقضا فيما اورده من سبب لنقض الحكم المميز، ففي الوقت الذي اعتبر أن العقد الباطل تتخلف عنه واقعة قانونية، وهنا يحب أن تتفرع كل حيثيات وأسباب الحكم من هذه الجزئية (التكييف) ومن ثم تطبيق أحكام الغصب على طلب المدعي.
ومع هذا التناقض، فان محكمة التمييز أوجبت التمييز بين الاستعمال الاعتيادي والاستعمال غير الاعتيادي ولم تبين الأساس القانوني لهذا التمييز والنصوص القانونية التي تفرض مثل هذا التمييز، ومثل هذه النصوص كما قررنا في أكثر من موضع، لا توجد الا في عقد الايجار، وفي حالة تبني فكرة الايجار استنادا للتقسيم المذكور، وجب بيان لماذا كيفت المحكمة علاقة الطرفين انها علاقة ايجارية ، وهنا سنقع في تناقض اخر ، اذا كانت العلاقة ايجارية بين الطرفين كيف نقول انها واقعة قانونية، فالحكم التمييزي قدم أسبابا وحيثيات لا يسوقها منطق واحد، بل تناقضا هائلاً لا يمكن الوقوع فيه اذ يتعذر تجاور فكرتين متناقضتين في حكم واحد، ذلك أن إحداهما تنفي الأخرى، والافكار التي جاءت في الحكم التمييزي بدورها غير صحيحة عدا فكرة الواقعة القانونية، وما عداها لا يعتبر تسبيبا مطلقا.
يحلو للبعض أن يبرر عدم ايراد الاسباب بشكل كاف بكثرة الدعاوى وعدم وجود الوقت الكافي لنظر الدعاوى جميعا، لكن مسالة التسبيب ليست قضية بسيطة، بل ركن في القرار القضائي وهي شرط لصحته، فالمادة (159) من قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 توجب أن تكون الاحكام مشتملة على أسبابها وأن تستند على أحد أسباب الحكم المبينة في القانون، والمادة (161) من ذات القانون توجب كتابة أسباب الحكم وتقرر المادة (162) وجوب بيان الأسباب التي قام منطوق الحكم على أساسها، وإذا كان الحكم القضائي غير مستوف لشروطه القانونية، فان ذلك يعد من أسباب نقضه، لأن من شروط الحكم القضائي أن يكون جامعاً لشروطه القانونية ومن بين هذه الشروط ذكر الاسباب والحيثيات.
وفضلا عما تقدم، فان المحكمة اخذت حيزا من الوقت في ايراد أسباب الحكم ، وهي أسباب كما رأينا متناقضة تنحدر الى حد الانعدام ، فالوقت كان موجودا لكتابة أسباب الحكم، لكنها أسباب كتبت بطريقة غير صحيحة مما أثر على السلامة القانونية لحكم صادر من أعلى هيئة قضائية في البلاد.