حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية
حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف
حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)
CC BY-NC-ND 4.0 DEED
Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University
Intellectual property rights are reserved to the author
Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)
Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International
For more information, please review the rights and license
تاريخ الاستلام 13/12 تاريخ القبول 11/2
تاريخ النشر 25/٤/2025
التكييف الْقَانُونِيَّ لِلْحَقِّ فِي النِّسْيَانِ (دراسة مقارنة)
Legal adaptation of the right to be forgotten
(a comparative study)
أ.د سعد حسين عبد ملحم الحلبوسي
جامعة الفلوجة- كلية القانون
الباحثة / إنعام ديكان خضير الجنابي
وزارة الصناعة والمعادن
Prof. Dr. Saad Hussein Abdul Melhem Al-Halbousi
College of Law, University of Fallujah
Researcher / Inaam Dikan Khadir Al-Janabi
Ministry of Industry and Minerals
المستخلص
يثبت للإنسان مجموعة من الحقوق التي لا يستطيع العيش بدونها , وحق الانسان في نسيان ماضيه بما يحمله من تفاصيل ترتبط بحياته الخاصة لتسهيل اندماجه في المجتمع بصورة سلسة , هو أحد هذه الحقوق اللازمة لحياته , فلكي يشعر الإنسان بالهدوء والسكينة لا بد أن يقر له بحق الاحتفاظ ببياناته ومعلوماته الشخصية وعلاقاته العاطفية وارتباطاته الاسرية وراء ستار النسيان , فمتى أُسدل ستار النسيان على هذه الوقائع الماضية فلا يجوز رفعه إلا بإذن الشخص.
يهدف هذا البحث إلى بيان اساس نشوء الحق في النسيان ، والوقوف على طبيعته القانونية ، للنص عليه بشكل حق مستقل عن الحق في الخصوصية .
الكلمات المفتاحية: بيانات – التكيف – الدولة – القانون – الراي
Abstract
Human being has a set of rights cannot live without them. One of these rights which necessary for his life is right of a person to forget his past with all the details related to his private life in order to facilitate smooth integration into society. In order for a person to feel calm and safe, it is necessary to recognize the right to keep personal information, emotional relationships, and family ties are hidden behind the curtain of oblivion, and it is not permissible to disclose such data without the person’s permission.
This research aims to explain the basis for the emergence of the right to be forgotten, and to determine its legal nature, to stipulate it as a right independent of the right to privacy.
Keywords: Data - Adaptation - State - Law - Opinion
المقدمة
أولاً:- التعريف بموضوع البحث
للنسيان والذاكرة دور مهم في الحياة النفسية لكل إنسان , وكلاهما مفيد ومهم في حياتنا العامة , فالذاكرة في واقع الأمر هي مزيج من التذكر والنسيان , والنسيان وإن كان يعد ظاهرة سلبية عندما يشتت ذكريات الإنسان , ويعطل مسار حياته ويمنع تطوره , لكنه يعد أيضاً ظاهرة إيجابية , إذ يتيح للإنسان فرصة التكيُف والانسجام مع الوسط الاجتماعي , ولا سيّما عندما يتعرض لأحداث قاسية ومؤلمة مرت به في حياته لو ظلت محفورة في وعيه لكدرت معيشته وذهبت بعقله , هنا يأتي النسيان ليطوى صفحة من الماضي في الوقت الحاضر حتى يتيح للحاضر أن يظهر على صفحة الوعي الآني بصفاء ووضوح دون غموض أو تداخل , أي من حق الشخص أن يُدخِل وقائع من حياته في طي النسيان , فمتى أسدل ستار النسيان عليها فلا يجوز رفعه بدون إذنه , فيمكن القول إن هذه الوقائع نسيت بالسكوت عن إثارتها فترة طويلة من الزمن .
ثانياً:- أهمية موضوع البحث
تظهر أهمية الحق في النسيان في إنّه يرتبط ارتباط وثيق بالحياة الخاصة للأفراد والتي باتت على المحك وأصبحت في خطر شديد بسبب التقنيات الجديدة وعالم الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي , إذ أصبحت أسرار وخصوصيات الأفراد في فشو دائم , مما يقوض خصوصيتهم ويجعل تناسي هذه الأسرار أمراً معقداً , مما يصعب على الفرد ممارسة حقه في نسيان ماضيه , ومن هنا ندرك حجم المخاطر التي يتعرض لها الأفراد , وتتعاظم الخطورة مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وتنامي اعداد مستخدميها باطراد واستمرار.
ثالثاً:- إشكالية البحث والتساؤلات المرتبطة بها.
تتجسد اشكالية البحث في إنّه رغم كون الحق في النسيان من الأفكار المتداولة فقهياً, وإن كان التعبير عنه جاء تحت مسميات وأفكار تبدو في ظاهرها مختلفة عنه , غير إنّه ظلّ حقٌ غير متفق على مدلوله الدقيق وغير محدد النطاق ومختلف في طبيعتهِ القانونية بين كونه حق ملكية ، أو كونهُ حقاً من الحقوق اللصيقة بالشخصية ، أو كونهُ عنصراً من عناصر الخصوصية , أو صورة من صورها ، أو أنّهُ حق مستقل قائم بذاتهِ , خاصةً وإن هذا الحق لم ينظم قانوناً تحت هذه التسمية وإن كان المُشَرّع الفرنسي أقرّ آليات قانونية لحمايته في البيئة الرقمية من خلال قانون المعلوماتية والحريات الصادر في: 6 يناير 1978.
وتثير الاشكالية المتقدمة التساؤلات الآتية:
ما هو الأساس الذي يُستند إليهِ في اقرار الحق في النسيان ؟.
هل نصوص القانون العراقي النافذ، والقوانين المقارنة اعترفت بالحق في النسيان، ولو بصورة ضمنية ؟
هل يُقر القضاء الحق في النسيان ويعترف به؟ .
هل المادة (17) من الدستور العراقي لسنة (2005) النافذ كافية لإقرار الحق في النسيان في ضوء صياغتها الحالية ولا سيما الفقرة أولاً التي نَصّت: « لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة» , أم إن حماية هذا الحق تتطلب إفراد نص دستوري خاص به ؟ .
ما هي الطبيعة القانونية للحق في النسيان: هل هو حق ملكية، أم هو صورة من صور الحق في الخصوصية، ام انه حق مستقل بذاته ؟ .
رابعاً:- منهجية البحث
لغرض الوقوف على تكييف الحق في النسيان تم اتباع المنهج التحليلي الذي يقوم على دراسة النصوص القانونية , والآراء الفقهية والأحكام القضائية, وتحليلها للوصول إلى الرأي السليم بخصوص هذا التكييف , كما تَمَّ اتباع المنهج المقارن من خلال المقارنة مع النصوص الواردة في الدساتير والقوانين , والمرتبطة بالحق في الخصوصية، خاصةً في فرنسا ومصر.
خامساً:- خطة البحث
بناء على ما تقدم وللإحاطة بتفاصيل هذا الموضوع ، نقسم خطة البحث على مبحثين ، نبحث في أولهما أساس نشوء الحق في النسيان ، ونخصص ثانيهما لبحث الطبيعة القانونية للحق في النسيان ، وذلك على النحو الآتي:ـ
المبحث الأول
أساس نشوء الحق في النسيان
إنّ حق الشخص في أن تدخل وقائع حياتهِ الماضية في طي النسيان , ليس حقاً جديداً , بل نجده مكرساً في البيئة القانونية التقليدية , فقد يكون مقرراً في نصوص القانون المدني , وقد تقره قواعد وأخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام[1] .
وإنّ فكرة النسيان ليست جديدة في الفكر القانوني , فقد وجدت في بعض الأنظمة والإجراءات القانونية المدنية التقليدية , التي لا تتعلق بشكل مباشر بالحق بالنسيان بالمعنى المقصود بالدراسة بقدر ما يتعلق الأمر في سعي هذه الإجراءات إلى النسيان بطريقة آلية , كما في نظام العفو الشامل , ونظام التقادم , ومحو الصحيفة القضائية للمجرمين وتعديل قيودها باستمرار , فلا يجوز حرمان الإنسان من حقه في نسيان ماضيه البغيض أو نسيان جرمه بسبب فعل وجريمة ارتكبها في الماضي , هذا وقد نجد إن معظم القوانين الفرنسية والدولية قد اعترفت بالحق في النسيان بشكل ضمني , ومنها اعترفت بشكل صريح , وأيضاً أقرت أحكام القضاء هذا الحق وحرصت عن تقرير الاجراءات الخاصة بحمايته , وعليه نقسم هذا المبحث إلى مطلبين , المطلب الأول: الاعتراف التشريعي بالحق في النسيان، والمطلب الثاني: الاعتراف القضائي بالحق في النسيان .
المطلب الأول: الاعتراف التشريعي بالحق في النسيان
بدأ ظهور الحق في النسيان على المستوى الدولي بصورة ضمنية , مع التوجيه الأوربي الصادر في: 24 اكتوبر سنة 1995 بشان حماية الأشخاص الطبيعية إزاء معالجة بياناتهم ذات الطابع الشخصي , وفي الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية الموقعة في 4 نوفمبر لسنة 1950 إذ نَصّت في المادة (8) منها على: «1- لكل شخص الحق في احترام حياته الخاصة والعائلية ومسكنه ومراسلاته . 2- لا يجوز أن تتعرض السلطة العامة لممارسة هذا الحق إلّا وفقاً للقانون ... , لحفظ سلامة الوطن أو الأمن العام , أو الرخاء الاقتصادي أو لحفظ النظام أو لمنع الجرائم ...» .[2]
كما نَصّت الاتفاقية رقم (108) بشأن حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي , والصادرة عن المجلس الأوربي في عام 1981 , والمطبقة في فرنسا منذ عام 1995 ، في المادة الخامسة منها على: « البيانات ذات الطابع الشخصي التي تكون محلاً لمعالجة آلية , يحتفظ بها بشكل يسمح بتحديد هوية الأشخاص المعنيين لمدة لا تتجاوز الغاية التي من أجلها تم التسجيل»[3] , كذلك التوجيه الأوربي الصادر في: 24- اكتوبر 1995 إذ يلزم هذا التوجيه عند إنشاء سجلات , أو بطاقات تتضمن بيانات ذات طابع شخصي , بعدم حفظ هذه البيانات لمدة تتجاوز المدة الضرورية اللازمة لمعالجتها كما يتضمن هذا التوجيه الأوربي النص على حق الشخص المعني في أن يطلب محو البيانات الخاصة به والتي تكون متاحة على الخط المباشر, وأخيراً جعل المُشّرع الأوربي من عدم احترام هذه الالتزامات جريمة يعاقب عليها جنائياً .
يُعَد النظام القانوني الفرنسي من أوائل الأنظمة التي أقرت الحق في النسيان , فهو يتضمن العديد من النصوص التي تشير بشكل ضمني للحق في النسيان , كما في قانون المعلوماتية والحريات الصادر في: 6 يناير لعام 1978 , إذ تنص المادة (40) منه على: « كل شخص تكون بياناته الشخصية محل معالجة يمكنه أن يطلب من المسؤول عن المعالجة تحديد بياناته , أو محوها متى انتهت المدة الضرورية لها « , كما نَصّ هذا القانون في المادة (6- الفقرة 5) منهُ على ضرورة ألّا تتجاوز مدة الحفظ والخزن للبيانات ذات الطابع الشخصي المدة اللازمة للغرض الذي جمعت من أجله أو عولجت من أجله[4] , كذلك في فرنسا أحكام قانونية أخرى متعلقة بالحق في النسيان , منها ما ورد في قانون الصحافة الفرنسي الصادر في سنة 1881 في المادة (35) إذ قضى في هذه الاحكام بعدم جواز اثبات صحة وقائع القذف المنسوبة إلى الشخص الذي مضت عليه عشر سنوات من القذف[5] , وكذلك في قانون الثقة في الاقتصاد الرقمي , رقم (575) , والمؤرخ في 21 يونيو 2004 , إذ تقرر الفقرة الثانية من المادة السادسة منهُ على: « لمستخدمي الأنترنيت الحق في طلب سحب المحتوى غير المشروع أو الواضح عدم مشروعيته»[6] .
إن عبارة الحق في النسيان لا توجد بصريح لفظها , لكن فحوها , وما تهدف إليه متواجد في بعض المبادئ والإجراءات والأفكار القانونية , التي كان لها الدور الفعال في حفظ حقوق الأفراد كالحق في الخصوصية , ومن هذه النصوص ما يتعلق بأحكام المسؤولية المدنية وبالذات أحكام التعويض عن الضرر المادي والأدبي , ومنها الإجراءات المقررة في القوانين كالتقادم , وحق الرد (حق التصحيح) ، وأيضاً نَصَّ القانون الجنائي على إجراءات تحفظ حقوق الأفراد من تدخل الغير في الحياة الخاصة لهم منها التقادم ، إذ يشترك التقادم مع الحق في النسيان في فكرة الوقت ودورهُ في تخطي ومحو آثار مرحلة معينة ، إذ إنّ التقادم الجزائي وبالأخص تقادم الدعوى العمومية الذي يقوم على فكرة أنّ مرور مدة زمنية معينة من ارتكاب الفعل المجرم , دون اتخاذ أي اجراء من إجراءات المتابعة أو التحقيق كفيل بأن يمحو عن الذاكرة الجماعية فظاعة الجريمة , وقسوة ارتكابها وتأثيرات ذلك على الرأي العام والأمن العام بوجه عام , فتهدأ النفوس وتستقر الخواطر , ومن الإجراءات التي نص عليها القانون الجنائي , وتتضمن إقراراً ضمنياً للحق في النسيان (العفو الشامل) , (رد الاعتبار) , (محو الصحيفة القضائية)[7] , ونذكر أيضاً بعض ما ورد في نصوص الدستور العراقي والمصري والقوانين المدنية والجنائية العراقية , والمصرية والفرنسية والتشريعات الأخرى والتي تُشير بصورة ضمنية إلى الحق في النسيان , فقد نَصّت المادة (202) من القانون المدني العراقي على: « كل فعل ضار بالنفس من قتل أو جرح أو ضرب أو أي نوع من أنواع الايذاء يلزم بالتعويضات من أحدث الضرر» كذلك تنص المادة (204) على:» كل تعد يصيب الغير بأي ضرر آخر ... يستوجب التعويض « .
اذاً في القانون والدستور العراقي , أو المصري أو الفرنسي, فنجد الحق في النسيان مقرر في نصوص متفرقة تضمنها الدساتير, والقوانين المختلفة تُشير إلى الحق في النسيان بطريقة ضمنية , أو من شأنها أن تُسهم في تقرير وجوده[8].
فالدستور العراقي لعام 2005 , نَصَّ في المادة (17- أولاً) على:» لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية , بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة» ، كذلك نجد أن المُشرّع المصري في الدساتير المختلفة ابتداءً من دستور عام 1923 , وحتى دستور 2019 يؤكد على حماية المواطن وحماية حريته واعطائه الحق في إبداء رأيه دون قيود , وبعيداً عن تدخلات الغير فيما يخصه , وقد حمى كل شيء يخص الحياة الخاصة للأفراد والتي من ضمنها الحق في العيش بحرية , دون تدخل الغير في حياته , أو الرجوع إلى ما طواه الزمن في عالم النسيان .
فقد نَصّت المادة (45) من الدستور المصري لعام 2019 على إن: « لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون» , وتنص المادة (51) , من الدستور المصري ذاته على إنّ: «الكرامة حق لكل إنسان , ولا يجوز المساس بها , وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها» وكذلك تنص المادة (57) على إن: « اي اعتداء على حرمة الحياة الخاصة يشكل جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية والمدنية الناشئة عنها بالتقادم» , وقد نَصّت المادة (68) من الدستور المصري لعام 2019 أيضاً على إن: «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب , والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطن بشفافية , وينظم القانون ضوابط الحصول عليها واتاحتها» , فنجد إنّ هذه النصوص بمجموعها تقرر صراحةً بعدم المساس بحرمة الحياة الخاصة للأفراد , وتكرس ولأول مرة حقاً دستورياً في مواجهة الكافة بحماية الكرامة الإنسانية , فلا يجوز الإضرار أو المساس بها , كما إنّ من شانها أن تؤسس ضمناً للأفراد الحق في النسيان بصفة عامة , لأنّ الغرض من هذا الحق هو حماية وحفظ كرامة الإنسان , وذلك بستر ماضيه البغيض ونسيانه , ذلك الماضي الذي أصبح غريباً عنه , حتى يستطيع العيش وسط أقرانه مرفوع الراس محفوظ الكرامة , فلا يخشى ظهور ماضيه البغيض ومطاردته[9] .
كما يظهر الحق في النسيان في نص المادة (9) من التقنين المدني الفرنسي ، التي نصت على إنه: « لكل شخص حق احترام حياته الخاصة , وللقضاء دون المساس بحق الشخص في تعويض ما يصيبه من ضرر , أن يتخذ كافة الإجراءات مثل الحراسة والحجز... , وغيرها من الإجراءات التي تمنع المساس بألفة الحياة الخاصة , كذلك نجد المشرع الفرنسي جعل الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي إذ نصت المادة المعدلة (368) من قانون العقوبات الفرنسي على إنه: « يعاقب بالحبس من شهر إلى حتى سنة ... كل من يوقع الاعتداء على ألفة الحياة الخاصة للغير « , ويرى الفقه الفرنسي إن الفة الحياة الخاصة يشكل أفضل أساس يمكن الاستناد عليه للقول بوجود الحق في النسيان للأفراد[10] .
كما توجد نصوص قانونية أخرى ذات الصلة بحق النسيان بشكل غير مباشر (ضمني) , إذ تنص على الحماية القانونية لحق الإنسان في عدم المساس بحياته الخاصة , فلا تسمح لأي شخص ثالث الوصول إلى بياناته الشخصية الخاصة به[11], مثلاً النصوص التي تتعلق بحماية سجلات الأحوال المدنية من ذلك نص المادة (64) من قانون الأحوال المدنية المصري , رقم 260 لسنة 1960 , والمعدل بالقانون رقم 11 لسنة 1965 , والقانون رقم 143 لسنة 1994 , والذي ينص على عدم الحصول على البيانات الشخصية للمواطنين , إلاّ وفقاً للقواعد والإجراءات المنصوص عليها في القانون ذاته , على إنّه لا يجوز أن تتضمن تلك البيانات أي معلومات تتعلق بالمعتقدات السياسية أو السوابق الجنائية السابقة للأفراد , إلّا في الأحوال التي يحددها القانون , لأن هذه البيانات تعد بيانات شخصية وحساسة للغاية , وهناك النصوص التي تمنع استخدام بيانات الضمان الاجتماعي لأغراض غير الضمان الاجتماعي[12].
ونجد الاعتراف الضمني بالحق في النسيان في ثنايا هذه النصوص السابقة , وهو اعتراف المُشرّع بوجود بيانات ذات طابع شخصي تخص الحياة الخاصة للأفراد , وينبغي أن تخضع جميعها لضوابط خاصة وقيود محددة لحفظها وتجميعها وتخزينها , وتوفير آليات ووسائل فعالة تومن حفظها طوال فترة خزنها كي لا يتم اطلاع الغير عليها , أو الاعتداء عليها ومن ثم انتهاك حرمة الحياة الخاصة لأصحابها .
المطلب الثاني: الاعتراف القضائي بالحق في النسيان
يشهد الحق في النسيان تطوراً جديداً , وخاصة بعد أن حرص القضاء على حمايته باعتباره عنصراً من عناصر الحياة الخاصة , وبالذات بعد قرار محكمة العدل الدولية , حول الزام (شركة جوجل) ومحركات البحث الإلكترونية الأخرى بمسح الروابط المتعلقة بالبيانات الشخصية , وتعويض المتضرر عند المساس بحياته الخاصة الماضية بعد إسدال ستار النسيان عليها[13] .
وبعد اقتراح المفوضية الاوربية عام 2012 قانونا يمنح لمستخدمي الانترنيت في الحق في محو البيانات على شبكة الانترنيت , وافقت هيئة البيانات في اسبانيا عام 2010 , على إلزام (شركة جوجل) بمسح الروابط الشخصية من محركات البحث , ولكن هذه الشركة استأنفت القرار من جانبها مما دفع المحكمة الاسبانية إلى تحويل القضية إلى محكمة العدل الأوربية , وثَمَّ ادخال تعديلات على محركات البحث وعلى بعض نتائج هذا البحث , حتى تصبح بصورة متطابقة مع التوجيهات الأوربية , بخصوص حماية البيانات الشخصية للأفراد , إذ استندت محكمة العدل الأوربية إلى قانون الاتحاد الأوربي الذي يعد محرك البحث هو المسؤول عن العمليات التي تجري على البيانات الشخصية , والتي تظهر على صفحاته وتشمل المحتوى الذي تم نشره بالفعل في وسائل الإعلام , إذ إنّ هذه البيانات تحتوي على جوانب عدة من المعلومات الخاصة بحياة الأفراد , ويؤكد الحكم بأن حق الأشخاص هو الأقوى والأولى بالحماية عندما يتعلق الأمر بالنشر, أو التصرف ببياناتهم الخاصة , على الرغم من حق الناس بصفة عامة في معرفة جوانب معينة من شخصيته من خلال المعلومات المتوافرة عنه على شبكة الأنترنيت , فيتم الحصول على المعلومات المتعلقة به , وبالذات الشخصيات العامة والمشهورة[14] .
وقد كرست محكمة باريس الابتدائية المستعجلة , الحق في النسيان صراحةً في حكمها الصادر في: 25 يونيو سنة 2009 , في القضية التي تتلخص وقائعها بقيام صحيفة اليومية الاقتصادية متاحة على الأنترنيت ومفهرسة على محرك (البحث جوجل) , بنشر مقالين في قاعدة البيانات بها في سنة 2002 , تعرض فيها الجزاء الذي أصدرته لجنة عمليات البورصة , بحق أحد رؤساء ادارة شركات الأوراق المالية[15] , وذلك بعقوبة الحضر , وعدم ممارسته لنشاط الإدارة , الذي سبب له أضراراً بالغة , لذا قام برفع دعوى للمطالبة بحذف المقالين , واستناداً إلى نص المادة (809) من قانون الإجراءات المدنية الفرنسية , حكمت له المحكمة , وعلى أساس حقه في النسيان بالزام الصحيفة اليومية الاقتصادية باتخاذ كافة التدابير اللازمة , لضمان أن يكون كل اطلاع على المقالين مصحوباً معه بوصلة تحيل إلى باقي الإجراءات القضائية التالية التي وصلت إلى براءة المدعي مما نسب اليه تماماً مع تقديم طلب لمحرك البحث Google بعدم فهرسة هذين المقالين ضمن نتائج البحث ، وايضاً حكمت للمدعي بالتعويض عن الأضرار التي أصابت المدعي من جراء نشر الخبر في تلك المقالين من هيئة عملية البورصة , ولم تجد المحكمة أساساً قانونياً تستند اليه في حكمها سوى الحق في النسيان , وهذا يشير إلى الاعتراف صراحةً بوجود هذا الحق[16] .
وقد تأكد صراحةً الحق في النسيان في حكم محكمة باريس الابتدائية الصادر في: 15 فبراير 2012 وتتلخص , وقائع القضية التي صدر فيها الحكم حول امرأة شابة تعمل سكرتيرة قانونية , قامت بفترة سابقة من حياتها بتصوير بعض الأفلام الإباحية , ثم اقلعت عن هذه النوعية من الأفلام واتجهت إلى العمل القانوني , وارادت أن تطوي هذه الصفحة الماضية وتدخلها في طي النسيان , فقامت برفع دعوى أمام محكمة باريس الابتدائية , طالبت فيها سحب هذه الأفلام من التداول على نحو مستعجل , لأنّ تداولها يشكل مساساً خطيراً بحرمة حياتها الخاصة , وحقها في محو ومعالجة بياناتها ذات الطابع الشخصي[17] .
إذ أشار الحكم صراحةً إلى حق المدعية في دخول ماضي حياتها في طي النسيان إذ جاء فيه: « إن المدعية عندما صورت تلك الأفلام , رضيت بتوزيعها على الجمهور , ولكنها لم تقبل بترقيمها وبثها على شبكات الأنترنيت , وإذا كانت الأفلام محل النزاع لم تتضمن مشاهد تخص حياتها الخاصة , إلّا انها تشهد على فترة معينة من حياتها تريد فيها أن تستفيد من حقها في النسيان ...» , وقد قضى الحكم لها بالتعويض عن الضرر المعنوي الذي أصاب المدعية من جراء عدم سحب الأفلام محل النزاع من محركات البحث في Google وربط اسمها بالمواقع الاباحية , كما قضى بقبول طلب المدعية بحصولها على العناصر المرتبطة بحساب «Gmail « الخاص بناشر الموقع الذي يحتوي على الأفلام محل النزاع , بعد أن قدمت المدعية مبرراً مشروعاً في دعوى المسؤولية المدنية الخاصة بطلب هذه العناصر والتي رفعتها ضد هذا الموقع .
ولا تفوتنا الإشارة إلى إن الحق في النسيان لم يغب عن محكمة القضاء الإداري , إذ حكم مجلس الدولة الفرنسي وللمرة الأولى بالزام (AMF) (محكمة قضاء الموظفين) بأن تقوم برفع قرارها جزائي من موقع الأنترنيت الخاص بها , هذا القرار صدر بعد الطعن المقدم من شخصين تعرضا لجزاء من قبل AMF)) وقد طلبا الحكم ببطلان القرار , وقد صدر القرار بالبطلان مع إلزام (AMF) بان تنشر القرار الصادر من مجلس الدولة الفرنسي , مكان القرار الصادر منها , اعمالاً لحقهم في النسيان في العالم الافتراضي , وذلك لأن القرار بالإجراء كان مقروناً بالاعتداء على خصوصية الشخص مع ذكر اسمه بالكامل[18].
وبذلك نستطيع أن نقرر بأن القضاء الفرنسي والأوربي , يتجه بشكل صريح وبثبات وإصرار نحو الاعتراف بالحق في النسيان في العالم الافتراضي .
المبحث الثاني
الطبيعة القانونية للحق في النسيان
اختلف الفقهاء في تحديد الطبيعة القانونية للحق في النسيان , وذلك لأنّ المُشرّع سواء العراقي , أو المصري , أو الفرنسي لم يتطرق بشكل مباشر إلى تحديد الطبيعة القانونية للحق في النسيان , ولذا اختلف الفقه في تحديد الطبيعة القانونية لهذا الحق على ثلاثة آراء: الرأي الأول يقول بأنهُ حق ملكية , ورأي ثاني ذهب إلى أنه حق شخصي , ورأي ثالث قال بأنه حق مستقل , وللإحاطة بتفاصيل كل رأي من هذه الآراء , نقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب : المطلب الأول: انصار فكرة حق الملكية , المطلب الثاني: انصار الحق لصيق بالشخصية , المطلب الثالث: انصار فكرة الحق المستقل.
المطلب الأول: انصار فكرة حق الملكية
يرى انصار هذا الرأي ان الانسان يعتبر مالكا لحياته الخاصة , ومن ثم لا يجوز الاعتداء على خصوصيته باي صورة من صور الاعتداء , ويرى انصار هذا الاتجاه ان الحق في النسيان والخصوصية يعد من قبيل حق الملكية .
الحقوق العينية الأصلية واردة في القانون على سبيل الحصر[19] , أما الزيادة فيها بغير ما نص عليه قانوناً فإنه محل خلاف بين الفقهاء , فمنهم من يرى وجوب الوقوف عند ما جاء به القانون , والبعض من الفقهاء يرى جواز إحداث حقوق جديدة لم ترد في القانون , وحق الملكية هو من أكمل الحقوق العينية , والأصل إن المالك هو حر في التصرف في ملكه إلّا إذا قيد ذلك بنص في القانون أو العقد.
ولقد ذهب انصار هذا الاتجاه إلى إن الإنسان له الحق التصرف في شؤون حياته الخاصة كما يشاء , وله الحق في النسيان لأنه جزء من الحق في الخصوصية الذي يعد من قبيل حق الملكية , وأساس هذا الاتجاه يقوم على فكرة الحق في الصورة , الذي قيل بأنه يخضع لما يخضع له حق الملكية من أحكام , وتستند هذه الفكرة القائلة إن للإنسان حق ملكية على صورته , على النظرية التي تقول إن للإنسان حق الملكية على جسمه ولما كانت الصورة تعد جزءاً لا يتجزأ من الجسم الإنساني لذا يعد الحق في الصورة من قبيل الحق في الملكية , فالشكل يتكون شأنه شأن الجسم من مجموعة من العظام والجلد والأوردة والعضلات , فكل هذه الاجزاء مجتمعة تعطي شكلاً خاصاً لكل إنسان يتميز به من غيره من البشر[20] , وحق الانسان في صورته يمكن له التصرف فيها للبيع , إذ يستطيع الإنسان بيع صورته للغير كما في عمل الاعلانات مقابل مبلغ من المال , وكذلك يكفل هذا الحق لصاحبه مكنة التصرف في صورته كيفما شاء , فله الحق أن يغير في معالمها فيصبغ شعره , أو يغير في تصفيف شعره أو ذقنه , أو يقوم بعمليات التجميل لشكله , وباعتبار الإنسان هو مالكاً لصورته فله الحق أن يعترض على استخدام صورته أو نشرها أو تصويره بدون علمه[21] .
كذلك إن من خصائص الحق في النسيان , هو إمكانية صاحبه التصرف فيه بالبيع , من هنا يمكن القول إن الإنسان يعد مالكاً لحياته الخاصة , والمظاهر اللصيقة بشخصيته , فالإنسان يستطيع أن يبيع للمؤلف أو للكاتب أو للمؤرخ حياته الخاصة به وماضيه وسمعته مقابل مبلغ من المال , فالفنان مثلاً أو أي شخصية من المشاهير بوسعه أن يبيع مذكراته التي تتضمن خصوصيات حياته وأسراره الشخصية مقابل مبلغ معين , وهذا يدل على إنّ الحياة الخاصة والحق في النسيان يُعَد من قبيل الملكية[22] .
ونحن نتفق مع منْ يرى بأن الحق في الصورة , هو جزء من الحق في النسيان , وذلك لأنّ من حق الإنسان أن ينسى وأن لا يسمح لصوره الشخصية أن تنشر وتظهر إلى العامة , بعد إن دخلت في طي النسيان , فكل شخص له الحرية في حفظ ماضيه ووقائع حياته وتصرفاته السابقة دون تدخل وملاحقة الغير لماضيه وصوره , لأنّ من الممكن أن يكون للشخص صوراً منافية للحياء , أو تكون له صور برفقة أشخاص مجرمين أو أشخاص سيئون السمعة أو ما شابه ذلك , وبعد مرور مدة من الزمن تدخل هذه الصور في عالم النسيان , لذا لا يحق لأي صحيفة أو مؤسسة إعلامية أن تقوم بنشر الصور الشخصية للأفراد لغرض الإساءة لهم والنيل من سمعتهم ومكانتهم الاجتماعية[23] .
والسؤال الذي يطرح هنا: هل يمكن قبول الرأي القائل بأنّ الحق في النسيان يُعَدَّ من قبيل الحق في الملكية أو لا ؟
والاجابة عنهُ: إنّ الرأي المتقدم نظر إلى الصورة نظرة مادية , أي عدَّهُ حقاً مالياً يرتبط بالذمة المالية للشخص , وعليه أمكن تشبيه الحق في الصورة بحق الملكية , وكون الحق في الصورة جزء لا يتجزأ من الحق في الخصوصية والحق في النسيان , لذا اعتبر الحق في النسيان حق ملكية .
ومن الآثار القانونية المترتبة على الأخذ بهذا الرأي قدرة من يقع الاعتداء على حياته الخاصة في اللجوء إلى القضاء لوقف هذا الاعتداء , دون الحاجة إلى اثبات الضرر مادياً كان أو معنوياً , وذلك إعمالاً لحقوق المالك[24] .
لكن هذا الرأي كان محلاً للنقد من بعض الفقهاء , إذ استند هؤلاء في نقدهم إلى أساس رفض فكرة إنّ للشخص حق ملكية على ذاته , فضلاً عن إن خصائص وطبيعة الحق في الملكية , تختلف عن طبيعة الحق في النسيان , فخصائص الحق في النسيان تتعارض مع خصائص الحق في الملكية , فطبيعة الحق في الملكية تفترض وجود صاحب للحق , ومحلاً يمارس عليه صاحب الحق سلطاته بصفته المالك , فإذا اتحد صاحب الحق ومحله فإنه يستحيل ممارسة هذه السلطات على هذا المحل , وهو ما ينطبق على الحق في الخصوصية والحق في النسيان , وبمعنى آخر لا يجوز اللجوء إلى حق الملكية لأن طبيعة الإنسان لا تدخل في دائرة المعاملات القانونية , فلا يجوز أن يكون موضوع الحق في النسيان محلًا في حق عيني[25].
فإذا كان اعتبار الحق في النسيان من قبيل الحق في الملكية يكسبه حماية فعالة , فإن خصائص الحق في النسيان تتعارض مع خصائص الحق في الملكية , ولكن بالحقيقة نجد هناك تشابهاً بين الحق في النسيان وحق الملكية , وهو إن القانون أقر وسائل فعالة لحماية هذين الحقين , فكل من الحقين يستطيع صاحبه أن يحتج به في مواجهة الكافة , ولكن هذا التشابه ينتهي عند هذا الحد .
وعليه فإنّ الملكية كحق عيني يراد بها: ممارسة الشخص صاحب الحق سلطاته على موضوع الحق , وإذا اتحد صاحب الحق وموضوعه فانه يتعذر حدوث هذه الممارسة , فلا يكون للفرد حق ملكية على جسمه أو أي جزء من أجزائه , وقد أقرّ القضاء الفرنسي بأنه لا يجوز اللجوء إلى حق الملكية في مجال الحق في الخصوصية , فلا يمكن أن نجعل الخصوصية موضوعاً لحق عيني , فالإنسان لا يدخل في دائرة المعاملات القانونية[26] .
وعليه نرى أن الحق في النسيان هو أبعد ما يكون عن حق الملكية للأسباب التي تم ذكرها سابقاً , لكن هل يمكن عدَّهُ من الحقوق الشخصية اللصيقة بالإنسان ؟ هذا ما نجيب عنهُ في المطلب الآتي:
المطلب الثاني: انصار فكرة الحق لصيق بالشخصية
كان أنصار فكرة الحق الشخصي يُعَد الحق في النسيان من قبيل الحقوق اللصيقة بالشخصية , يعده حق غير مالي ولا يرتبط بالذمة المالية للشخص , وإنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكيان الشخصي للإنسان[27] , ويتجسد الكيان الشخصي للإنسان في عنصرين هما العنصر الطبيعي والآخر قانوني , أمّا العنصر الطبيعي فيتمثل في شخص الإنسان من الناحية العضوية والنفسية والعقلية , ويلحق بالكيان الشخصي للإنسان كل متعلقاته الشخصية من متاع وغير ذلك , جميعها ترتبط بكيان الإنسان وشخصه لوحده , إذ يمارس بها جميع نشاطاته ومن خلالها يودع أسراره في هذه الحياة , أما العنصر القانوني لكيان الإنسان فيتمثل بالحقوق اللصيقة بالشخصية التي يقررها القانون , كالحق في الاسم والحق في الصورة والحق في الشرف والسمعة والحق في النسيان , ذلك إن الكيان الشخصي للإنسان يضم في صميمه جميع الأسرار فهو يتمتع بالحرمة الخاصة به , فلا يجوز انتهاكها أو التعدي عليها قانوناً لما تحتويه من أسرار[28] .
وقد نَصّت المادة (17/ ثانياً) من الدستور العراقي لعام 2005 , على: «حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها أو التعرض لها , إلا بقرار قضائي ووفقاً للقانون «, ونَصّت المادة (45/ أولاً) من الدستور المصري لسنة 2019 , على: «لحياة المواطنين حرمة يحميها القانون» وقد اعترف المشرع الفرنسي صراحةً في نص المادة (9) من القانون المدني بأنّ: « للشخص الحق في الحياة الخاصة» .
وبذلك قد حَسَم المُشرّع الفرنسي منذ البداية خلافاً كان يُثار حول طبيعة الخصوصية , والحق في النسيان , فيما إذا كان هذا يعد حقاً أم رخصة أم حرية , فقد اعترف القانون المدني الفرنسي صراحةً بأن للإنسان الحق في احترام حياته الخاصة , وبالتالي فإن الحماية القانونية قد تقررت للحق وليس للرخصة أو الحرية , وإذا كان النسيان حقاً فهو من الحقوق الشخصية , رتب له القانون الحماية الكافية لحفظه من الانتهاك والاعتداء عليه , وقد أوجب الدستور له الحرمة لتبقى هذه الحياة مصونة , ولا يجوز التعدي عليها , وعليه يمكن القول بأن أساس هذا الحق قائم على وجود حق شخصي للإنسان في حرمة حياته الخاصة , وهذا الحق الشخصي يعد من الحقوق اللصيقة بالإنسان[29] .
وقد رتب الفقه نتائج قانونية على اعتبار الحق في النسيان من الحقوق الملازمة لصفة الإنسان , إذ إن المعتدى عليه يستطيع اللجوء إلى القضاء لمنع أو لوقف التعدي الواقع عليه , دون الحاجة إلى اثبات عنصري الضرر أو الخطأ , وهذه الحماية القانونية للحق في النسيان تعطيه قوة وفعالية اكبر مما لو تركت حماية هذا الحق لقواعد المسؤولية المدنية , إذ إن المسؤولية المدنية لا تقوم إلّا إذا اثبت المتضرر أركانها الثلاثة (الخطأ , والضرر , والعلاقة السببية) , وفضلاً عن صعوبة اثبات هذه الأركان , فإن هذه الحماية قليلة الفعالية لأن الحماية سوف تتوفر ولكن بصورة لاحقة , أي بعد إتمام الاعتداء وتحقق الضرر وانتهاك الحق , فالتعويض لا يفيد في إزالة كل أثر الضرر الذي أصاب صاحب الحق , ولكن الحماية الفعالة المباشرة تكون عن طريق الوقاية من الاعتداء على الخصوصية , وهذا النوع من الحماية لا يتحقق , إلّا إذا كان الحق في النسيان يعد من الحقوق الملازمة واللصيقة بالإنسان[30] .
كما إنْ عَد هذا الحق من الحقوق اللصيقة بالشخصية يوفر حماية قانونية لصاحبه في مواجهة الكافة , فيستطيع الشخص أن يلزم الجميع باحترام حقه في عدم التجسس والتحري عن أخباره أو كشف ماضيه أو نشر ما يتعلق به , لأن صاحب الحق يستأثر وحده بأسراره وماضيه , فلا يحق للغير أن يطلع عليها أو ينشرها إلا برضائه مسبقاً , لكن إذا كشف صاحب الحق عن أسراره الخاصة بمحض اختياره فسوف يعطي الحق للغير في الاطلاع عليها دون قيد أو شرط , فذلك هو التنازل الحقيقي عن الحق الشخصي , وهذا التنازل هو الذي يزيل عن السر طابع النسيان , فبعض الأفراد يسمح للغير أنْ يطلع على أسراره برضائه مستقبلاً وأياً كانت وبدون تحديد , فهذا يعد تنازلاً من الفرد عن حقهِ الشخصي , رغم إنّ الحقوق اللصيقة بالشخصية لا يجوز التنازل عنها قانوناً .
ونجد للدستور العراقي والمصري وبعض النصوص القانونية موقفاً واضحاً من الحق في الخصوصية, فقد كفلت حرمة الحياة الخاصة ، كما في المادة (17) من الدستور العراقي لعام 2005 بنصها في الفقرة الأولى على « لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية ...» وفي الفقرة الثانية على: «حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولها ...» , كذلك المادة (45) من الدستور المصري لسنة 2019 بنصها على: « لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون ...» ، ونص المادة (57) من نفس الدستور المصري على «كل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية أو المدنية الناشئة عنها بالتقادم ...» , كذلك نص القانون المدني المصري في المادة (50) على: « أن الحق في الحياة الخاصة من الحقوق اللصيقة بالشخصية «, كذلك سار المُشرّع الإجرائي على نفس النهج , وقرر مبدأ عدم تقادم الدعوى المدنية الناشئة عن جريمة الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة , ونلاحظ إنّ جميع هذه النصوص لم تقر إلّا بحق وحرمة الحياة الخاصة للإنسان , دون التطرق إلى الحق في النسيان , فالقانون العراقي والمصري مثل باقي القوانين العربية , لم تتعرض إلى الحق في النسيان , إذ تركت أمرُهُ إلى أحكام الحق في الخصوصية , إذ أقرت هذه النصوص الحق للشخص الذي يقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة للشخصية , أن يطالب بوقف هذا الاعتداء دون اللجوء إلى اثبات الضرر الناشئ عنه , وله حق طلب التعويض عن الاضرار التي لحقته من الغير[31].
فإذا نظرنا إلى النتائج القانونية التي يرتبها الاعتراف بالحقوق الشخصية الملازمة لصفة الإنسان , نجد من أهم هذه النتائج , هو امكانية وقف الاعتداء دون الحاجة لا ثبات الضرر , وهي نفس النتائج التي تترتب على الاعتراف بحرمة الحياة الخاصة للإنسان مدنياً وجنائياً , وحرمة الحياة الخاصة تقتضي وجود حق للإفراد في النسيان , فهذه المكنات لا يفسرها ولا يبررها إلا وجود الحق , ولا يمكن القول أنها مجرد تطبيق لقواعد المسؤولية[32] .
وبذلك نرى إنّ الحق في النسيان , يدخل ضمن نطاق الحقوق اللصيقة بالشخص , أي الملازمة لصفة الإنسان وذلك تأسيساً على أنّ لكل انسان دوره الاجتماعي الخاص به , فلا يمكن له أن يؤدي هذا الدور كاملاً , إلّا في إطار من طبيعته الإنسانية الخاصة به , وأي أنكار أو اجحاد لهذه الطبيعة سوف يقلل من كفاءة وقدرات صاحبها في النشاط الاجتماعي , وعليه فيجب حماية حقوق الإنسان ويجب بلورتها بشكل ايجابي في أطار اجتماعي , لكي يتمكن الشخص من مباشرتها في وضوح تام , فحماية حقوق الافراد واحترام الواجبات الاجتماعية كلاهما تُعَد دعامتان للفرد والمجتمع . وبذلك نخلص إلى إن الحق في النسيان هو أقرب إلى كونه حقاً شخصياً للإنسان , وليس من قبيل حق الملكية , فالحقوق المادية (كحق الملكية) لا تكفي لعيش الإنسان وإنما يلزمه للعيش الحر أن يمارس حقوقاً ملتصقة بشخصية مرتبطة بكيانه الإنساني المعنوي , ومن أهم هذه الحقوق هو الحق في النسيان أي حقه في إسدال ستار النسيان على تصرفات ووقائع ماضيه خاصة به , ومن ثم منع الغير من كشف الستار عنها أو نشرها في المجتمع[33] .
فلا يمكن بسط الحماية الكافية والفعالة للحق في النسيان , إلّا يعدَّهِ حقاً من الحقوق اللصيقة بالشخصية , ولا يمكن الاعتداد بالقول بأن الحق في النسيان يدخل ضمن نطاق حق الملكية , لأن القائلين بأن الحق في النسيان يدخل ضمن نطاق حق الملكية , يقصدون من ذلك تحقيق الحماية القوية والفعالة لهذا الحق, في وقت كان فيه حق الملكية يُعَدْ من أقوى الحقوق قاطبة , لذلك فقد نسبوا الحق في النسيان اليه لكي يتمتع الحق في النسيان بمزايا حق الملكية , أما في الوقت الحاضر فقد نمت وتبلورت الحقوق الملازمة واللصيقة بالإنسان واصبحت اكثر قوة وفعالية من الحق في الملكية .
المطلب الثالث: انصار فكرة الحق المستقل
تُعرف الحقوق المستقلة بأنها الحقوق التي تنشأ مستقلة بذاتها , دون أن تكون تابعة لحق آخر, أو تستند في وجودها عليه , وقد ذهب جانبٌ من الفقه إلى القول بأن الحق في النسيان هو حق مستقل بذاته وهو حق مستقل عن حرمة الحياة الخاصة , مستنداً في ذلك إلى إن له خصائص وسمات خاصة به فضلاً عن إنّ نطاق تطبيقه يكون أوسع بكثير من نطاق تطبيق الحق في حرمة الحياة الخاصة[34] .
وقد أكّد على ذلك المُشرّع الفرنسي , إذ نَصّت المادة (35) من قانون الصحافة الفرنسية, الصادر في 29 يوليو لعام 1881, على: «عدم جواز إثبات صحة وقائع القذف المنسوبة للشخص إذا مضى عشر سنوات على واقعة القذف»، وكان المُشرّع قد نصّ في المادة (34) من هذا القانون على:
« لا يجوز بأي حال من الأحوال إثبات الوقائع التي تتعلق بالحياة الخاصة « , ولو لم تكن فكرة النسيان مختلفة عن فكرة الخصوصية , لما أفرد المُشرّع حكماً خاصاً مستقلاً لكل منهما .
وقد استند الفقه الفرنسي القائل باستقلال حق الإنسان في أن يدخل في عالم النسيان عن الحق في الخصوصية على ما يأتي :
أولاً :- نطاق الحماية القانونية أوسع لحق الإنسان في أن يدخل ماضيه في طي النسيان , والحق في النسيان لا يأتي عن طريق الحق في الخصوصية , وذلك لأن الوقائع والأحداث المراد حمايتها والتستر عليها قد أعلنت للجمهور , وعرضت على العامة وهذا مما يجعلها تتنافى مع صفة الخصوصية , ومن ناحية أخرى قد تتعلق الوقائع الخاصة , بأحد الشخصيات الشهيرة أو التاريخية وتقتضي المصلحة التاريخية الخوض في هذه الخصوصيات , وعليه يجب أن يستقل الحق في النسيان عن الحق في الخصوصية , فالحق في النسيان يحمي الوقائع المتصلة بالحياة العامة والخاصة على السواء متى دخلت في عالم النسيان , فمهما كانت شهرة الفرد , فيجب أن لا يكون حاله أسوأ من حال المذنب الذي كفر عن جريمته حتى لا تظهر في صحيفته الحالة الاجرامية التي قام بها .
ثانياً :- أن الوقائع تتقادم بالسكوت , فمادام أسدل ستار النسيان على وقائع حياة الأشخاص , فلا يصح رفعه بدون رضا الشخص , فهذه الوقائع تتقادم بالسكوت عنها , ومتى أكتمل هذا التقادم لا يجوز قطعه , فالكشف عن هذه الوقائع يعد بمثابة محاولة لاعادة التقادم , ومن ثم يعد اعتداء على حقوق الفرد[35] .
ثالثاً:- لقد أفرد المُشّرع الفرنسي ومَيّز الحق في النسيان عن الحق في الخصوصية , وذلك في نَص المادة (35) من قانون الصحافة الصادر عام1881 التي قرر فيها «عدم جواز إثبات صحة وقائع القذف المنسوبة لشخص , متى مضى عليه عشر سنوات على واقعة القذف» , فهذا دليل واضح على الاعتراف وتمييز الحق في النسيان عن الحق في الخصوصية , إذ أكد المُشرّع الفرنسي في المادة (34) من هذا القانون على: أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال إثبات الوقائع المتصلة بالحياة الخاصة , ولو لم تكن فكرة الحق في النسيان مختلفة عن فكرة الخصوصية , لما أفرد المُشرّع لكل منهما حكماً مستقلاً عن الآخر[36].
وقد أخذ القضاء الفرنسي في بعض أحكامه بهذا الرأي , وذلك في حكم لمحكمة باريس بتاريخ 15/5/1970 , إذ قررت المحكمة إن سبق النشر في الأخبار بوجود علاقة غرامية تربط فنانة بفنان لا يمنع من توافر المساس بالحق في الخصوصية , إذا ما كانت اعادة النشر قد تمت بعد أربع سنوات من حصولها , وكان من الواضح أنهما كانا يرغبان في إسدال ستار النسيان عليها ودخولها في طي النسيان في مواجهة الجمهور , وفي هذا الحكم تبني لوصف الحق في النسيان بانه حقٌ مستقلٌ ولا يدخل في نطاق الحياة الخاصة [37].
كذلك نجد إن القضاء الفرنسي أكد على ذلك في قضية أخرى , وهي قضية (فليكس أوكنيل) إذ أكد أن رجال الأعمال والمشاهير من الناس لهم أن يتمتعوا بعد موتهم بسرية الأمور التي كانت في صميم حياتهم الخاصة أثناء حياتهم , إذ قررت المحكمة وهي في صدد الحديث عن الأشخاص المشهورين
« أنهم يستطيعون أن يتخيروا لأنفسهم الموت في الخفاء لأنهم قد عاشوا في المجد ... فالرجل المشهور له الحق في أن يموت في الخفاء «, فالسكوت عن إثارة الوقائع التي تخص الحياة الماضية لفترة طويلة يعد تقادماً لها , وعليه فلا يجوز نشرها إلا بأذن الأشخاص المتواجدين في تلك الحقبة من الزمن , فلا يجوز حرمان الشخص من حق الدخول في النسيان بسبب شهرته , لأن هذا النشر يعد تعدياً على الحق المراد دخوله في طي النسيان , وذلك لأن مرور الزمن على الوقائع كان كفيلاً بأن يدخلها ضمن حدود التاريخ , وقد استشهد هذا الحكم بالمادة (35) من قانون الصحافة الفرنسي الصادر في عام 1881 [38] .
وبلا شك في إن الحق في النسيان يدخل في مضمون الحياة الخاصة من حيث حاضرها ومستقبلها ولكن قد يوجد هذا الحق مستقلاً فيما يتعلق بوقائع الحياة العامة , ولكن هذه التفرقة قد تفقد أهميتها إذا علمنا بأن القانون المدني المصري على خلاف القانون المدني العراقي قد كرس صراحةً نظرية الحقوق الملازمة للشخصية , ووضع القواعد الكفيلة لحمايتها , تاركاً للقضاء عناية تحديد هذه الحقوق , وعليه فإن الجدال الذي ثار في فرنسا لا أهمية له حول مدى استقلال الحق في النسيان عن الحق في الخصوصية , وذلك لأنه وفي جميع الأحوال سَيُعد حقاً من الحقوق الملازمة للشخصية , سواء كان حقاً مستقلاً أو كان مظهراً من مظاهر الحق في حرمة الحياة الخاصة , ولعل السبب في انقسام الفقه الفرنسي إلى آراء متعددة , هو إنّ فكرة الحقوق الملازمة للشخصية لم تظفر بنص صريح وخاص بها في القانون الفرنسي , إلّا أنّ الحق في حرمة الحياة الخاصة , له نص صريح في المادة (9) من التقنين المدني الفرنسي , لهذا نجد إنّ الفقه قد أدخل الحق في النسيان ضمن الحقوق المرتبطة بالحياة الخاصة , حتى يتمتع الحق الأول بمزايا الحماية التي تتمتع بها حقوق الحياة الخاصة , وعلى مستوى الدساتير الوطنية والأوربية والدولية أيضاً[39] .
وبالرغم من أن هناك اختلافاً حول , هل يدخل الحق في النسيان ضمن نطاق الحقوق المرتبطة بالشخصية أو لا ؟
إلّا إننا نتفق مع الرأي القائل بأنه من الملائم تكريسه في نص خاص مستقل ضمن إطار قانون خاص بحرية تداول المعلومات والمعلوماتية , يراعي تصرفات وخصوصيات وماضي الإنسان , كي يستطيع الشخص المعني أن يمارس حقه في الخصوصية وفي الدخول في طي النسيان على نحو حقيقي وفعال بعيداً عن تدخل الآخرين .
الخاتمة
في ختام بحثنا لموضوع (التكييف القانوني للحق في النسيان) نعرض أهم النتائج التي توصلنا إليها والمقترحات التي نأمل من المشرع العراقي الأخذ بها ، ونجملها بالآتي:
اولاً : النتائج
في ضوء دراستنا للحق الدخول في طي النسيان , يمكن ان نعرض أهم النتائج التي خرجت بها الاطروحة وكما يأتي :-
الحق في النسيان هو: حق الانسان في عدم الكشف عن الامور التي تسببُ لهُ الحرج أمام الغير عند ذكرها، والتي يحرص دوماً على اخفائها . وهو فكرة نسبية مرنة ومتغيرة , فما هو خصوصي لشخص ليس من قبيل الخصوصية لآخر, وايضاً يختلف باختلاف المجتمعات والثقافات والعادات والتقاليد ، ويضيق ويتسع من دولة إلى اخرى حسب درجة التطور والتقدم.
ان فكرة حماية الحق في النسيان والحق في الخصوصية كانت محل اهتمام كثير من الدساتير , ومحل اهتمام دولي وقد تناولت بعض الدساتير هذا الحق بشكل مباشر وصريح في فصل الحقوق , ومنها بشكل ضمني غير مباشر في فصل الحريات , واعترفت به الاتفاقيات الدولية , وتزعمت الأمم المتحدة الدعوة إلى احترام الحق في النسيان , وهذا يدل على اهتمام الدول عموما باختلاف مذاهبها ونظمها السياسية والقانونية بشخصية وكرامة الانسان , ذلك ان الاعتراف بالحق في النسيان , يعد بلا شك وسيلة هامة لحماية حقوقه اللصيقة بشخصه ومنع الآخرين من التدخل في شؤونه وكشف ماضيه .
ان الدستور العراقي لسنة 2005 نص صراحةً على الحق في الخصوصية والحق في حرمة الحياة الخاصة في المادة (17) منهُ، لكن القانون العراقي لم ينص صراحةً على الحق في النسيان, لكن يمكن المطالبة بالتعويض عن الضرر الناشئ عن الاعتداء على الحق في النسيان استناداً للمادتين (202) و (204) من القانون المدني العراقي ،التي يمكن القول انها تقرر ضمناً الحماية لجميع الحقوق الخاصة بالحياة الخاصة للأفراد ومنها الحق في النسيان . وتبين لنا انه في فرنسا ومصر توجد نصوص قانونية ذات صلة بحق النسيان بشكل ضمني غير مباشر , وهذه النصوص نجدها في القوانين التي لا تسمح لأي شخص الوصول الى البيانات الشخصية التي تمس الحياة الخاصة بالأفراد إلا وفقاً للقواعد والاجراءات المعقدة المنصوص عليها بمقتضى أحكام هذه القوانين , كما في قانون المعلوماتية والحريات الفرنسي الصادر في 6 اكتوبر 1978 وقانون الثقة في الاقتصاد الرقمي الفرنسي , وفي قوانين الاحوال الشخصية المصري المرقم 143 لسنة 1994, علماً انهُ لا يوجد مقابل لهذه النصوص في القانون العراقي ، وكان على المشرع النص صراحةً على الحق في النسيان بشكل مستقل.
اعترف القضاء الفرنسي والمصري بالحق في النسيان لكي يعيش الأنسان بعز وكرامة داخل المجتمع , كون هذا الحق لهُ مساس مباشر بحياة الإنسان , إذ يحرص كل شخص على حياته الخاصة فيحيطها بستار من الغموض والكتمان , فالحق في النسيان يحافظ على حرمة الحياة الخاصة بعيدا عن النشر والاعلان. كذلك اعترف القضاء الأوربي بشكل صريح بالحق في النسيان في العالم الافتراضي (البيئة الرقمية) .
تبين لنا إنّ الطبيعة القانونية للحق في النسيان أثارت اختلافاً بين الفقهاء, فتارة يعده البعض منهم حقاً من حقوق الملكية , والبعض الآخر يعده من الحقوق اللصيقة بالشخصية , أما الرأي الغالب فيعده حقاً مستقلاً بذاته ذا طبيعة وأحكام خاصة به.
ثانياً:- المقترحات
على ضوء النتائج نقترح الآتي :-
نظراً لأهمية الحق في النسيان , بوصفه من الحقوق اللصيقة والملازمة بشخصية الأفراد , نقترح تكريس الحق في الدخول في النسيان بنص صريح في القانون المدني العراقي ، بوصفهِ حق مستقل بذاتهِ , وليس بوصفه صورة من صور الحق في الخصوصية , كما نقترح النص على حق النسيان الرقمي عند تشريع القانون الخاص بحرية تداول المعلومات (قانون المعلوماتية) .
ندعو مشرعنا إلى تنظيم الحقوق المتصلة بحرمة الحياة الخاصة بنصوص خاصة بها في القانون المدني , فضلاً عن ايراد نص يكفل حمايتها من الانتهاكات ، ونقترح أن تكون صياغة هذا النص كالآتي : « لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق المتصلة بحرمة الحياة الخاصة أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد أصابه من ضرر» .
إضافة نصوص إلى قانون العقوبات أو سن قانون خاص (قانون جرائم المعلوماتية) , لتجريم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والحق في النسيان بواسطة شبكات الانترنيت ، لتحقيق التوازن بين هذه الحقوق وبين الحق في حرية تداول المعلومات الشخصية , وحرية الصحافة والنشر والإعلام , مع مراعاة اعتماد آليات تقنية فنية لتكريس حماية هذا الحق , ويمكن أن يسترشد المشرع العراقي بالآليات التي اقرها المشرع الفرنسي في قانون المعلوماتية والحريات لسنة 1978.
المراجع
اولاً:- الكتب القانونية
احمد السعيد الزقرد , النظرية العامة للحق , , دار ام القرى , المنصورة، 1993.
احمد محمد حسان , نحو نظرية عامة لحماية الحق في الحياة الخاصة, دار النهضة العربية، القاهرة ,2001.
اسامة عبدالله فايد , الحماية الجنائية للحياة الخاصة وبنوك المعلومات،ط3, دار النهضة العربية، القاهرة ,1994.
اشرف توفيق شمس الدين , الصحافة والحماية الجنائية للحياة الخاصة , دار النهضة العربية، القاهرة , 1999 .
باسم محمد فاضل , الحق في الخصوصية بين الاطلاق والتقييد , دار الجامعة الجديدة للنشر, الاسكندرية، 2018 .
جعفر محمود المغربي و حسين شاكر عساف , المسؤولية المدنية عن الاعتداء على الحق في الصورة بواسطة الهاتف المحمول , ط1 , دار الثقافة للنشر والتوزيع ، الاردن / عمان , 2010.
حسام الدين كامل الاهواني , الحق في احترام حرمة الحياة الخاصة الحق في الخصوصية , دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1978.
د. حميد حنون خالد , حقوق الانسان , دار السنهوري , بغداد , 2012 .
خالد مصطفى فهمي , المسؤولية المدنية للصحفي , دار الفكر الجامعي ,الاسكندرية، 2012 .
رضا محمد عثمان دسوقي , الموازنة بين حرية الصحافة وحرمة الحياة الخاصة , ط2 , مؤسسة الوحدة الاقتصادية , القاهرة 2011 .
عبد الهادي فوزي العوضي , الحق في الدخول في طي النسيان على شبكة الأنترنيت, ط1، دار النهضة العربية ، القاهرة ،2014.
عصام احمد البهجي , حماية الحق في الحياة الخاصة في ضوء حقوق الأنسان والمسؤولية المدنية ، دار الجامعة الجديدة ، القاهرة , 2005 .
عماد حمدي حجازي ,الخصوصية ومسؤولية الصحفي , دار الفكر الجامعي، القاهرة ، 2008 .
ماهر صبري كاظم , حقوق الانسان والديمقراطية والحريات العامة , ط2 , دار الكتب والوثائق , مطبعة الكتاب , بغداد , 2013 .
نبيل فزيع , الحماية الجنائية للحق في الصورة , ط1 , دار النهضة العربية، القاهرة , 2016.
ثانياً:- الرسائل والاطاريح
بشير احمد صالح، مسؤولية الصحفي المدنية في حالة المساس بسمعة الشخص العام، اطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/ جامعة المنصورة ، 2001 .
ربيع محمود نجيب العمور , النظام القانوني للحق في النسيان , اطروحة دكتوراه , كلية الحقوق, جامعة القاهرة , 2017 .
د. ممدوح خليل العاني , حماية الحياة الخاصة في القانون الجنائي , اطروحة دكتوراه , كلية الحقوق ، جامعة القاهرة , 198.
ثالثاً:- الابحاث
بن عزة محمد حمزة , الحق في النسيان الرقمي , مجلة القانون والاعمال الدولية ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية , جامعة الحسن الأول (المغرب) , العدد 33 ، ابريل 2021.
[1] د. خالد مصطفى فهمي , المسؤولية المدنية للصحفي , ط1, دار الفكر العربي , الاسكندرية , 2012 , ص44.
[2] ربيع محمود نجيب العمور, النظام القانوني للحق في النسيان, اطروحة دكتوراه، كلية الحقوق ـ جامعة القاهرة، 2017, ص 38
[3] د. بن عزة محمد حمزة , الحق في النسيان الرقمي , مجلة القانون والاعمال الدولية ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية= =والاجتماعية , جامعة الحسن الأول (المغرب) , العدد 33 ، ابريل 2021, ص 199.
[4] د. عبد الهادي فوزي العوضي , الحق في الدخول في طي النسيان على شبكة الأنترنيت, ط1، دار النهضة العربية ، القاهرة ،2014 ، ص45.
[5] نقلاً عن د. عبد الهادي فوزي العوضي , المرجع نفسه , ص 42 .
[6] د. بن عزة محمد حمزة , الحق في النسيان الرقمي , المرجع السابق , ص 192.
[7] د. بن عزة محمد حمزة , الحق في النسيان الرقمي , المرجع نفسهُ , ص 194 .
[8] د. بن عزة محمد حمزة , الحق في النسيان الرقمي , المرجع السابق ، ص196 .
[9] د. ماهر صبري كاظم , حقوق الانسان والديمقراطية والحريات العامة , ط2 , دار الكتب والوثائق , مطبعة الكتاب , بغداد , 2013 , ص 26 .
[10] نقلاً عن: د. عبد الهادي فوزي العوضي , الحق في الدخول في طي النسيان على شبكة الأنترنيت , المرجع السابق , ص55 .
[11] د. عبد الهادي فوزي العوضي , الحق في الدخول في طي النسيان على شبكة الأنترنيت , المرجع نفسه, ص24 .
[12] د. حميد حنون خالد , حقوق الانسان , دار السنهوري , بغداد , 2012 , ص 222.
[13] ممدوح خليل العاني, حماية الحياة الخاصة في القانون الجنائي, اطروحة دكتوراه, كلية الحقوق، جامعة القاهرة, 1983،ص233.
[14] د. رضا محمد عثمان دسوقي , الموازنة بين حرية الصحافة وحرمة الحياة الخاصة , ط2 , مؤسسة الوحدة الاقتصادية , القاهرة 2011 ، ص69.
[15] ربيع محمود نجيب العمور , النظام القانوني للحق في النسيان , المرجع السابق , ص 44 .
[16] د. رضا محمد عثمان دسوقي , الموازنة بين حرية الصحافة وحرمة الحياة الخاصة , المرجع السابق , ص 43 .
[17] ربيع محمود نجيب العمور , النظام القانوني للحق في النسيان , المرجع السابق , ص 42 .
[18] د. عبد الهادي فوزي العوضي , الحق في الدخول في طي النسيان على شبكة الأنترنيت , المرجع السابق , ص63.62.
[19] تنص المادة (68/1) من القانون المدني العراقي على: «الحقوق العينية الاصلية هي حق الملكية وحق التصرف وحق العقر وحقوق المنفعة والاستعمال والسكنى والمساطحة وحقوق الارتفاق وحق الوقف وحق الاجارة الطويلة».
[20] د. نبيل فزيع , الحماية الجنائية للحق في الصورة في القانون المصري , ط1 , دار النهضة العربية، القاهرة , 2016 , ص56 .
[21] د. اسامة عبدالله فايد, الحماية الجنائية للحياة الخاصة وبنوك المعلومات ط3, دار النهضة العربية ، القاهرة , 1994، ص 89 .
[22] د. نبيل فزيع , الحماية الجنائية للحق في الصورة في القانون المصري , المرجع السابق , ص 58 .
[23] د. احمد محمد حسان , نحو نظرية عامة لحماية الحق في حرمة الحياة الخاصة في العلاقة بين الدولة والأفراد ، دار النهضة العربية ، القاهرة , 2001 ، ص 42 .
[24] د. احمد السعيد الزقرد , النظرية العامة للحق , دار ام القرى , المنصورة ، 1993 , ص 160 .
[25] د. عماد حمدي حجازي , الخصوصية ومسؤولية الصحفي , دار الفكر الجامعي ، القاهرة ، 2008, ص 65 .
[26] نقلاً عن: د. عصام احمد البهجي , حماية الحق في الحياة الخاصة في ضوء حقوق الانسان والمسؤولية المدنية , ادار الجامعة الجديدة ، القاهرة ، 2005 , ص 168 .
[27] د. جعفر محمود المغربي و حسين شاكر عساف , المسؤولية المدنية عن الاعتداء على الحق في الصورة بواسطة الهاتف المحمول , ط1 , دار الثقافة للنشر والتوزيع ، الاردن / عمان , 2010 , ص 73.
[28] بشير احمد صالح ، مسؤولية الصحفي المدنية في حالة المساس بسمعة الشخص العام ، اطروحة دكتوراه ، كلية الحقوق , جامعة المنصورة ، 2001, ص 294 .
[29] د. باسم محمد فاضل, الحق في الخصوصية بين الاطلاق والتقييد, دار الجامعة الجديدة للنشر, الاسكندرية، 2018 , ص96 .
[30] د. باسم محمد فاضل , المرجع نفسه , ص 121 .
[31] ربيع محمود نجيب العمور , النظام القانوني للحق في النسيان , المرجع السابق , ص 89 .
[32] د. باسم محمد فاضل , الحق في الخصوصية بين الاطلاق والتقييد , المرجع السابق , ص 291 .
[33] ربيع محمود نجيب العمور , النظام القانوني للحق في النسيان , المرجع السابق, ص98- 99 .
[34] د. عصام احمد البهجي , حماية الحق في الحياة الخاصة ، المرجع السابق، ص170 .
[35] د. حسام الدين كامل الاهواني , الحق في احترام حرمة الحياة الخاصة الحق في الخصوصية , دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1978, ص 95 .
[36] د. خالد مصطفى فهمي , المسؤولية المدنية للصحفي , المرجع السابق , ص 235.
[37] د. حسام الدين كامل الاهواني , الحق في احترام حرمة الحياة الخاصة الحق في الخصوصية , المرجع السابق ، ص97
[38] نقلاً عن: د. خالد مصطفى فهمي , المسؤولية المدنية للصحفي , المرجع السابق , ص 235 .
[39] د. اشرف توفيق شمس الدين, الصحافة والحماية الجنائية للحياة الخاصة, ط1, دار النهضة العربية، القاهرة, 1999 ، ص212.