حقوق الطباعة محفوظة لدى مجلة كلية القانون والعلوم السياسية في الجامعة العراقية
حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمؤلف
حقوق النشر محفوظة للناشر (كلية القانون والعلوم السياسية - الجامعة العراقية)
CC BY-NC-ND 4.0 DEED
Printing rights are reserved to the Journal of the College of Law and Political Science at Aliraqia University
Intellectual property rights are reserved to the author
Copyright reserved to the publisher (College of Law and Political Science - Aliraqia University)
Attribution – Non-Commercial – No Derives 4.0 International
For more information, please review the rights and license
حق الدائن الذي يطالب بعدم نفاذ تصرف المدين بشأنه
د. درع حماد
جامعة الفلوجة
مقدمة:
يمثل الضمان العام الوسيلة التي يستطيع الدائن من خلالها الحصول على دينه ، وهذا الضمان العام ليس شيئا غير الذمة المالية للمدين، والذمة المالية هي مجموع ما للشخص من حقوق وما عليه من التزامات في الحال أو في الاستقبال، فالذمة تتكون من نوعين من العناصر: عناصر ايجابية وهي حقوق الشخص سواء كانت حقوقا مباشرة على الشيء كالحقوق العينية أو حقوقا من خلال ذمة شخص اخر ويطلق عليها الحقوق الشخصية وعناصر سلبية تمثل الديون التي على الشخص لصالح غيره، ويتحدد محتوى الذمة المالية من تفاعل عناصرها الايجابية مع عناصرها السلبية، فاذا زادت العناصر السلبية على العناصر الايجابية كانت الذمة المالية فقيرة لا تسطيع الوفاء بحقوق الدائنين جميعا، فيقتسمون عناصر هذه الذمة قسمة غرماء، واذا كان العكس بحيث كانت العناصر الايحابية أكبر من العناصر السلبية كانت الذمة المالية مليئة وقادرة على سداد حقوق حميع الدائنين، فتكون العناصر الإيحابية في الذمة المالية هي التي تضمن عناصرها السلبية، فاذا لم يقم المدين بالوفاء بالتزامه جاز للدائن أن يطلب التنفيذ على العناصر الايجابية في ذمة المدين واستيفاء حقه منها، ولهذا كانت مصلحة الدائن أن تبقى ذمة المدين في حالة امتلاء فلا تزيد عناصرها السلبية على عناصرها الايجابية.
لكن المدين قد يعمد بوسيلة أو أخرى الى إضعاف ذمته المالية لتكون بعيدة عن متناول دائنيه مادام المدين حر بالتصرف بأمواله، ذلك أن مديونية المدين لدائنيه لا تغل يده عن التصرف، بل ومن الأفضل أن يبقى يتصرف في عناصر ذمته المالية، لأن من شأن تصرفه أن يزيد من العناصر الايجابية لذمة المدين على نحو يخدم دائنيه في نهاية المطاف، بل ويبقى تصرف المدين صحيحا نافذا بحق دائنيه حتى لو ترتب على التصرف إنقاص الضمان العام، ذلك أن فكرة الضمان العام تنصرف الى ذمة المدين وقت الحجز عليها، أما الاموال التي تصرف فيها قبل ذلك فليس للدائنين الاعتراض عليها.
بيد أن هذا الاصل العام لا يعمل به على اطلاقه اذا اختلت أحوال المدين وبان سوء تصرفه وقصده السىء وترتب على ذلك عدم وجود أموال في ذمته المالية تكفي لسداد حقوق دائنيه، فنحن هنا أمام مدين سيء النية يعمد الى تهريب أمواله بعيدا عن متناول دائنيه فلا يجدوا في ذمته المالية ما يكفي لسداد ديونهم ، فيمنح القانون للدائن في هذه الحالة دعوى يطلق عليها دعوى عدم نفاذ تصرف المدين في حق دائنه، فالغرض من الدعوى هو المحافظة على الضمان العام من تصرفات المدين الضارة بدائنيه ، وبقول آخر هي تهدف الى حماية الدائن من تصرفات المدين ومحاولته تهريب أمواله بعيدا عن دائنيه حتى لا يظفروا بها والتنفيذ عليها. ويشير الواقع العملي أن دعوى عدم نفاذ التصرفات كانت من اكثر الدعاوى رواجا وفاعية في الحفاظ على الضمان العام من بين الوسائل الى ضمان ما تتأدى به حقوق الدائنين رغم صعوبة شروطها وخصوصا تلك الشروط المتعلقة بالجانب النفسي وهو سوء النية.
أولا: الوقائع.
تتحصل وقائع الدعوى كما عرضها الحكم التمييزي ، بأن المدعي (خالد) اقام دعواه أمام محكمة بداءة المسيب مدعيا انه مشتر لسهام في العقار المرقم ( ؟ ) وانه حصل على إقرار بذلك أمام القضاء وقد سدد ثمن تلك السهام الى المدعى عليه الاول، وان عقد الشراء ثابت التاريخ من تاريخ تصديقه في 11/12/2012 وان المدعى عليه الاول قام ببيع سهامه في العقار المذكور الى المدعى عليه الثاني لذا طلب الحكم بعدم نفاذ تصرف المدعى عليه الاول للمدعى عليه الثاني بحقه ، فأصدرت محكمة بداءة المسيب حكمها برد الدعوى، فتم الطعن بالحكم المذكور استئنافاُ، فقضت محكمة استئناف بابل بفسخ الحكم البدائي والحكم بعدم نفاذ تصرف المستأنف الاول الى المستأنف الثاني (المدعى عليه الاول والمدعى عليه الثاني) وإعادة تسجيل السهام المباعة بأسم المستأنف الاول بعد اكتساب القرار الدرجة القطعية، فطعن المستأنف عليه بالحكم المذكور تمييزا فاصدرت حكمها كما سيرد في الفقرة الاتية.
ثانيا: الحكم محل التعليق
الحكم الصادر من محكمة التمييز بالعدد: 1733/الهيئة الاستئنافية عقار/2023 في 20/8/2023 والذي تضمن الاتي «.... إنه صحيح وموافق لأحكام القانون وجاء اتباعا لقرار النقض الصادر عن هذه الهيئة بالعدد 4015/الهيئة الاستئتافية عقار/ 2022 في 30/11/2022 وقد تأيد للمحكمة من خلال التحقيقات التي أجرتها أن المدعي اشترى من المدعى عليه الاول وبعقد خارجي سهامه في العقار المرقم 11/10 مقاطعة 26 جويه وحصل على اقرار قضائي بالبيع المذكور أمام محكمة بداءة المسيب باضبارة الاقرار المرقمة 36/ق م/2017 في 11/12/2017 الا ان المدعى عليه المذكور باع سهامه الى المدعى عليه الثاني بعقد خارجي محرر بتاريخ 9/1/2018 وتم نقل ملكية السهام بأسم المدعى عليه الثاني بالقيد 41 ت2/2018 حيث أن إقرار المدعى عليه الاول بيع سهامه الى المدعي ثابت التاريخ بموجب اضبارة الاقرار المرقمة 36/ق م/2017 في 3/12/ 2017 وهو تاريخ اسبق من تاريخ بيع سهام المدعى عليه الاول الى المدعى عليه الثاني وبذلك فان شروط المادتين 263 و264 من القانون المدني متوفرة في دعوى المدعي مما يستوجب الحكم بعدم نفاذ تصرف المدعى عليه الاول والمتضمن بيع سهامه في العقار المرفم (11/10 ) مقاطعة 26 الجوية الى المدعى عليه الثاني وهذا ما قضى به الحكم المميز فقرر تصديقه ورد الطعن التمييزي.....».
ثالثا: التعليق
يمثل الحكم التمييزي الذي جاء مصدقا لحكم محكمة الاستئناف مرتبكا في صياغته وأسبابه وانطوى على خطأ في فهم نصوص القانون التي تنظم دعوى عدم نفاذ تصرف المدين في حق دائنه وعلى النحو الاتي:
إن المدعي اقام دعواه على أساس قيام المدين بالتصرف بسهامه ونقل ملكيتها الى شخص آخر مطالبا بعدم نفاذ التصرف المبرم بين الاثنين بحقه مستندا في ذلك أن التعهد الصادر من المدعى عليه جاء بتوقيع قاض بموجب اضبارة معدة لهذا الغرض، وأنه بموجب هذا الإقرار أصبح التصرف ثابت التاريخ ومن ثم يكون حجة على الغير بما تضمنه، وثبوت تاريخ المستند على النحو الوارد في الشرح لا خلاف عليه ، فاحدى وسائل ثبوت التاريخ هو توقيع قاض عليها رغم انه ليس من مهام القضاة توثيق العقود أو أخذ إقرار المتعهد عليها الا على سبيل القضاء المستعجل وقد أشارت اليه المادة (145) من قانون المرافعات المدنية رقم (111) لسنة 1969 اذ تقضي في فقرتها الاولى بأنه « 1- يجوز لمن بيده سند عادي أن يطلب من القضاء المستعجل دعوة من ينسب اليه هذا السند ليقره أنه يخطه أو بضمة ايهامه ولو كان الالتزام به غير مستحق الاداء». اذ الغاية من من أخذ اقرار الطرف الاخر حرمانه من آنكار السند الصادر من قبله اذا نشب النزاع بين الطرفين بشأن العقد، ومع ذلك تبقى هذه المسألة غير ذات قيمة بالنسبة لدعوى عدم نفاذ التصرفات.
ما القيمة القانونية لتأشير القاضي على التعهد بنقل ملكية عقار .
سادت ظاهرة في السنوات الاخيرة وهي الحصول على توقيع القاضي على المستندات العادية، ويشيع عند عمليات ترويج بيع العقار الذي لم تنتقل ملكيته بعد الى وجود توقيع قاض على الورقة ، بما يوحي أن هذه الورقة صارت ورقة رسمية وان المتعهد لا يمكنه التملص من التزاماته بموجب الورقة، فما نصيب هذا القول من القانون؟
إن وضع القاضي توقيعه على ورقة عادية ليس من شأنه أن يضيف قوة اثبات مضافة الى السند العادي، فهو يبقى سندا عاديا ولا يتحول الى سند رسمي، كما ان هذا التوقيع ليس من شأنه أن يصحح عيوب التعهد بنقل الملكية إن كان معيبا كعدم تحديد المبيع تحديدا نافيا للجهالة أو عدم ذكر الثمن رغم أن الطرفين يريدان البيع، لكن الاثر الوحيد لتصديق الاقرار من قبل القاضي هو تحديد ثبوت تاريخ المستند العادي ، اذ السندات العادية لا يحتج بها في مواجهة الغير من تاريخها الا اذا كان هذا التاريخ ثابتا، فالتصديق أو الإقرار لا يزيد من القوة الثبوتية للسند ولا ينقصها ، وانما يجعله نافذا بحق الغير من هذا التاريخ الثابت. والواقع أن القاضي لا يملك سلطة توثيق التصرفات العقارية ، بل حتى الكاتب العدل لا يملك مثل هذه السلطة، لأن الكاتب العدل لا يجوز له توقيق أي تصرفات أو مستندات حدد القانون جهة معينة لتوثيقها، والتصرفات العقارية حدد القانون دائرة التسجيل العقاري جهة رسمية لتوثيق التصرفات المنشئة لحق عيني على عقار، وهو معنى الشكلية التي تطلب القانون استيفائها لاكتساب التصرف ركن الشكلية.
هل التعهد بنقل ملكية عقار استوفى الشكلية القانونية بالتصديق عليه من قبل القاضي؟
إن عقد بيع العقار خارج دائرة التسجيل العقاري باطل قانونا، ذلك لأن التسجيل في دائرة التسجيل العقاري هو الشكل الرسمي الذي تطلبه القانون لقيام عقد بيع العقار، ولا يغني عن ذلك أي شكلية اخرى، فلو تم توثيق العقد أمام القاضي أو أمام الكاتب العدل ، فان هذا التوثيق لا يقدم ولا يؤخر في العقد، فيكون عقدا باطلا لا يولد حقا ولا التزاماً، لأن ركن الشكلية لم يتم الايفاء بمتطلباته.
واذا كان قد قام جدل مستفيض لدى الشراح العراقيين بشأن أساس التعويض الذي نص عليه المشرع العراقي في المادة (1127) من القانون المدني، فذهب فريق الى اننا أمام عقد غير مسمى، وهذا العقد غير المسمى أما انه نشأ ابتداءً على هذا النحو أو أنه تحول من عقد مسمى الى عقد غير مسمى، فيما ذهب فريق آخر الى أن التعهد بنقل الملكية ليس الا واقعة قانونية يرتب القانون عليها اثرا وهوالتعويض، فعند من يرى انه عقد غير مسمى ابتداءً أو أنه تحول الى ذلك لاحقا ، فان هذا العقد هو الذي يفسر التعويض المشار اليه في المادة (1127) لكنه لا يفسر التعديلات التي جرت على النص المذكور أذ حل محل النص المتقدم قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (1198) لسنة 1977 اذ يبقى حق المشتري ( الدائن ) في طلب تملك العقار عند توفر شروط معينة لم يجد له أساس عند هؤلاء، بل ويغالي البعض في القول بإدعاء أن التعهد بنقل ملكية عقار أصبح عقدا رضائيا وأن تمليك العقار للمشتري اذا توفرت شروطه هو تنفيذ عيني جبري للالتزامات الناشئة عن هذا العقد، وقد سبق لنا أن اشرنا الى عدم صواب هذا التوجه رغم أنه يمثل الرأي الغالب لدى الشراح، لأن هذا العقد الرضائي غير قادر الى انتاج اثاره وترتيب حكمه الا اذا توفرت شروط معينة، مما يعني أن مثل هذا التكييف محل نظر وان المشرع العراقي عندما قرر التعويض أو طلب التمليك عند التعهد بنقل ملكية عقار نظر اليه على أنه واقعة قانونية وليس تصرفا قانونيا بدليل عدم قدرة المتعهد له على طلب تملك العقار استنادا الى مجرد العقد، وانما لابد أن يكون قد أحدث منشات أو غراسا عليه وأن يكون إحداث المغروسات وتشييد المنشات قد تم بدون معارضة تحريرية من المتعهد. وفي كلتا الحالتين لا قيمة قانونية للتاشير على التعهد بنقل الملكية .
إن القضاء وضع المسألة في تصور مقلوب، وكان أس المشكلة أن التعهد بنقل ملكية العقار كان نافذا بحق المشتري الثاني ومن ثم فان اسبقية ثبوت حقه تعطيه الاولوية على المشتري، والامر على خلاف ذلك تماما ، فلدينا عقد بيع تم استيفاء متطلباته وانتقلت الملكية الى المشتري الثاني، أما المشتري الاول فلديه التعهد بنقل الملكية فقط، وهذا التعهد لا يغني ولا يسمن بالنسبة له في هذه الظروف حتى لو كان التعهد الذي لديه ثابت التاريخ، واذا راجعنا نصوص قانوننا المدني لا نجد فيها أي شرط يتضمن وجوب أن يكون سند الدائن ثابت التاريخ للطعن بتصرفات مدينه، وقد يكون لثبوت تاريخ السند العادي أهمية في دعوى نفاذ التصرف اذا تضاربت أقوال ذوي الشأن بخصوص اسبقية حق الدائن على التصرف الذي صدر من المدين وأن التاريخ الثابت يحسم النزاع حول هذه المسألة، أما ما عدا ذلك فليس لثبوت التاريخ أي أهمية وهي مسألة فرعية تتعلق بتفصيلات دعوى عدم نفاذ التصرف وفي هذه الحدود الضيقة فقط.
إن دعوى عدم نفاذ التصرف تشترط أن يكون حق الدائن مستحق الاداء، ولا يمكن القول أن حق الدائن مستحق الاداء استنادا الى التعهد مجردا من أي ظروف أخرى، فقرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 1198 لسنة 1978 يشترط لحق المتعهد له بطلب تملك العقار المبيع أن يكون قد أحدث فيه منشات أو غرس مغروسات أو يكون قد سكن العقار اذا كان المبيع من العقارات السكنية ، ومعنى هذا أن هذه الشروط اذا لم تتحقق ليس للدائن أن يطلب تملك العقار، بل حتى إن توفرت هذه الشروط وكان المشتري قد اقام المغروسات أو المنشات بعد أن وجهت له معارضة تحريرية من المتعهد، فان شروط التمليك تكون قد تخلفت، فاذا لم يكون بمقدور المشتري طلب تملك العقار، فان معنى ذلك أن حقه غير مستحق الاداء ايأ كان الأساس الذي تقوم عليه دعوى التمليك، لكن لم نلحظ من حيثيات الحكم التمييزي أي بحث في مدى توفر شروط التمليك وهو الشرط الضروري لقبول دعوى عدم نفاذ تصرف المدين بحق دائنه.
بل العكس من ذلك كان مدار بحث القضية هو أسبقية التعهد بنقل ملكية العقار على التصرف بالعقار بيعا الى المشتري من خلال دائرة التسجيل العقاري وهي مسألة ليست ذات أهمية في سياق الدعوى المنظورة اذ يمكن اثبات أسبقية تصرف المدين للدائن بوسائل الاثبات المعتبرة قانونا وهذا يكفي قدر تعلق الامر بهذا الشرط ولا نحتاج الى ثبوت تاريخ التصرف بحق المتصرف اليه الثاني.
إن دعوى عدم نفاذ التصرف غايتها الضرب على المدين المتلاعب الذي يريد تهريب أمواله عن متناول دائنيه والمتصرف اليه الذي تواطأ مع المدين وهو يعلم ان التصرف يترتب عليه عجز المدين عن الوفاء بالتزامه، فكل من المدين ومن تصرف له المدين اشخاص يحدوهم التلاعب لابعاد أموال المدين عن متناول الدائنين، فيعقدون التصرف لتحقيق هذه الغاية، وهذه الغاية غير النبيلة تنزع من المتصرف اليه أي حماية يتمسك بها ولا حاجة للقول أن التعهد نافذا بحقه، كما نعلم أن دعوى عدم نفاذ التصرف بحق الدائن دعوى دقيقة فيها خروج على الأصل العام وهو حق المدين في التصرف بعناصر ذمته المالية، فليست المديونية سببا لغل يد المدين عن التصرف، بل وربما كان ابرام المدين للصفقات من شأنه أن يقوي ذمته المالية بمقدار ما يكسبه من الصفقات التي يبرمها، ولهذا لم يرد من بين شروط الدعوى أن يكون التصرف الذي أنشأ المديونية للدائن نافذا بحق المتصرف اليه على أساس أنه ثابت التاريخ بتوقيع قاض أو كاتب عدل أو موظف عام مختص عليه، فيكون القرار التمييزي بحث في مسائل لا تستحق البحث فيها، بل ولا تستحق مجرد الاشارة اليها وأهمل بحث المسائل الجوهرية التي يتعين أن تكون عقدة النزاع بين الطرفين .
إن الغاية من اشتراط القانون أسبقية حق الدائن على التصرف المطعون فيه، هو أن هذا تاريخ نشوء حق الدائن يحدد ما اذا كان المدين يريد اضعاف عناصر ذمته المالية لحرمان الدائن منها عند التقدم الى الضمان العام أو لا ، فليس بوسع الدائن أن يشتكي من تصرف المدين وادعاء تهريب أمواله اذا لم يكن حقه سابقا على التصرف، فالدائن غير موجود وقت تصرف المدين، ولا يمكن حرمان المدين من التصرف بعناصر ذمته المالية لاحتمال ترتب دين عليه لبعض الدائنين، فلا شك أن حرمان المدين من التصرف بذمته المالية في مثل هذا الظرف يخالف العقل والمنطق، ولهذا فان المشرع عندما وضع شرط أسبقية نشوء حق الدائن، فانه راعى مثل هذا المنطق، فوجود دين بذمة المدين يرتب عليه مرعاة كل الحالات التي من شأنها أن تضعف ضمان دائنية وأن يمتنع عن أي تصرف يؤدي الى الحيلولة بين الدائنين واستيفاء حقوقهم، فاذا عمد الى التصرف بعناصر ذمته المالية تهربا من حقوق دائنيه وأدى هذا التصرف الى اعساره أو زيادة إعساره، حق على القانون أن يحمي الدائن من مغبة تصرفات المدين المتلاعب.
وفضلا عما تقدم، فانه حتى لو توفرت شروط دعوى منع التصرف من حيث اسبقية حق الدائن واستحقاقه ، فان ذلك لا يكفي لرفع دعوى عدم نفاذ التصرف ، فشرط الدعوى هو أن يؤدي التصرف الى اعسار المدين أو زيادة اعساره، ومفهوم الاعسار هنا له معنيان ، الاول، معنى عام وهو زيادة ديون المدين على حقوقه ، أو انه يكون بالاصل معسرا لكن يترتب على التصرف زيادة حالة الاعسار لديه، وهذا النوع من الاعسار يتعلق بالديون التي تترتب في الذمة بحيث تكون هذه الذمة ضامنة للوفاء بها، أما المعنى الثاني للإعسار فهو الاعسار الذي يتعلق بالاعيان ، بمعنى عندما يكون المدين قد تعهد باعطاء شيء معين وتصرف في هذا الشيء المعين ، وكان هذا الشيء من الاشياء القيمية، فان تصرف المدين بهذا الشيء واخرجه من ذمته المالية وادخاله الى ذمة الغير بأي تصرف ناقل للملكية يعتبر تصرفا مؤديا الى الاعسار اذ يتعذر على المدين الوفاء باعطاء العين التي تعهد بها وابرز امثلته التعهد موضوع الدعوى ، فالمدين تعهد بنقل ملكية عقار، لكنه تصرف بالعقار للغير على نحو اخرجه من ملكه، فاصبح مستحيلا عليه أن يفي بالتزامه، ولهذا يكون المدين معسرا بهذا المعنى، لانه تعذر عليه الوفاء بالتزامه وهذا هو الاعسار بمعناه الخاص بالنسبة لدعوى عدم نفاذ التصرف.
واذا كانت المحكمة لم تطرح هذا المسألة على بساط البحث فانها تعتبر من المسائل المفروغ منها خصوصا وان الخصوم لم يطرحوا دفعا بشأنها. فضلا عن أن القضاء العراقي استقر ومنذ أمد بعيد على الأخذ بفكرة المعنى الخاص للاعسار وإن لم يشر اليه صراحة ، فالمعنى الخاص للاعسار في دعوى عدم نفاذ التصرف لا يقوم على أساس حساب ما للمدين من حقوق وما عليه من التزامات، وانما مدى قدرة المدين على الوفاء بعين ما التزم به اذا كان المدين قد تصرف بهذا الشيء واخرجه من ملكه حتى لو كانت حقوق المدين تزيد على التزاماته بعد أن تصرف بذلك الشيء، فيكون شرط الاعسار قد توفر فيه.
قضى الحكم التمييزي بتأييد الحكم الصادر من محكمة استئناف بابل “... بفسخ الحكم البدائي والحكم بعدم نفاذ تصرف المستأنف الاول الى المستأنف الثاني (المدعى عليه الاول والمدعى عليه الثاني) وإعادة تسجيل السهام المباعة بأسم المستأنف الاول .....”، والحقيقة أن هذا الحكم يتضمن فقرتين متناقضتين لا تشبه أحدحما الاخرى فشتان ما بين دعوى عدم نفاذ التصرف وبين اعادة تسجيل السهام المباعة بأسم المدعى عليه الاول (البائع) ومعنى اعادة التسجيل أن المحكمة تقرر بطلان التصرف ، فكيف يستوى عدم نفاذ التصرف وبطلانه في نفس الوقت، فدعوى عدم نفاذ التصرف يترتب عليها نوعين من الاثار حسب مركز أطرافها في الدعوى، فبالنسبة للدائن، فان التصرف المطعون فيه كأنه لم يقع ويظل المال الذي انتقلت ملكيته الى المتصرف اليه جزءأ من الذمة المالية للمدين ويستطيع الدائن التنفيذ عليه واستيفاء حقه منه وهذا هو الاثر الجوهري للدعوى، لكن عدم اقتصار الخصومة على المدين وإدخال المتصرف اليه فيها فلأن اثر الدعوى يمس كلا من المدين ومن تصرف اليه المدين، فيكون الحكم نافذا بحق المتصرف اليه أيضا. أما اثر الدعوى بالنسبة للمدين ومن تصرف اليه المدين، فانه يبقى تصرفا صحيحا، فدعوى عدم نفاذ التصرف ليست دعوى بطلان التصرف، بل يقتصر أثرها على جعل الدائن بعيدا عن التأثر بتصرفات المدين، واثر الدعوى على هذا النحو تمثل وضعا إشكاليا اذ كيف يكون التصرف صحيحا بين طرفيه وغير نافذ بحق الغير (المشتري- المدعي)، لكن الغير هنا ذي مركز خاص ، فلا يخلص للمتصرف اليه حقه – رغم انتقال الملكية اليه- الا بعد يستوفي المدعي حقه من العين المبيعة، لان البيع بالنسبة له يعتبر كأن لم يكن، واذا اتخذ المدعي الاجراءات التنفيذية على المال المبيع وانتزعه منه لا يكون أمام المتصرف اليه الا الرجوع بضمان الاستحقاق على من باعه (المتصرف) ، فدعوى عدم نفاذ التصرف ليست دعوى بطلان فيكون الحكم فيما قضى به من عدم نفاذ التصرف وفي نفس الوقت بطلان أمر ينطوي على مأخذين:
المأخذ الاول، أن المدعي لم يطلب بطلان التصرف وانما اقتصرت طلباته على عدم نفاذه، فيكون الحكم ببطلان التصرف قضاءً بأكثر مما طلبه الخصوم والقاضي رهن طلبات ودفوع الخصوم.
والمأخذ الثاني، أن الحكم بالبطلان يجب الحكم بعدم نفاذ التصرف، فاذا ابطل البيع بين المتصرف والمتصرف اليه عاد المال الى الذمة المالية للمدين وأصبح جزءا من الضمان العام وأصبح الحكم بعدم نفاذ التصرف عديم الجدوى بوجود الحكم بالبطلان.
قصور التسبيب. أشرنا آنفا الى أن الحكم التمييزي بحث في أسبابه وحيثياته مسائل لا تستحق البحث ولا جدوى منها، وهي المسألة المتعلقة بنفاذ تصرف الدائن بحق المدين ومن تصرف اليه المدين ، بحسبان أن المتصرف اليه من الغير وان التعهد بنقل الملكية اصبح نافذا بحق المدين بتأشيره من قبل القاضي، وعند هذه الحيثية أصدرت المحكمة حكمها بعدم ببطلان تصرف المدين بحق الدائن.
والرأي عندنا أن مثل هذا التسبيب لا يجد مكانا مناسبا في الدعوى كما اوضحنا انفا ـ فكان يتعين على المحكمة بحث امرين: الأول، أسبقية نشوء حق الدائن على تصرف وهذه المسالة ليست محل جدل او نقاش، والثاني وهو ما يجب أن يكون محل تمحيص وتدقيق ويتعلق بحق الدائن وفيما اذا كان حق الدائن الذي رفع الدعوى مستحق الاداء أو لا ، لأن دعوى عدم نفاذ التصرف تتضمن تدخلا في شؤون المدين بحيث لا تنفذ تصرفات ذلك المدين بحق الدائن وهذا أمر على قدر كبير من الخطورة، لأن معنى عدم نفاذ تصرف المدين بحق الدائن، أن تصرف المدين يعتبر كان لم يكن بالنسبة للدائن، ولهذا اشترط المشرع في حق الدائن أعلى مراتب القوة وهو أن يكون مستحق الاداء، وقوة حق الدائن هو ما يجب أن ينصرف اليه البحث والتقصي ليكون سببا لإجابة الدعوى أو رفضها، وبحث شرط الاستحقاق في حق الدائن تبدو مسألة في غاية التعقيد ، فالتعهد بنقل ملكية عقار لم يستوف الشكلية المقررة قانونا هو عقد باطل، فكيف يمكن أن نتحدث عن موعد أستحقاق؟
الواقع أن عقد بيع العقار غير المسجل هو عقد باطل، لكن قرار مجلس قيادة الثورة المشار اليه انفا أجاز للمتعهد له طلب تملك العقار بشروط معينة، فاذا توفرت هذه الشروط يمكنه رفع دعواه أمام القضاء لطلب تملك العقار، فالتحقق من أستحقاق حق الدائن يقتضي بحث توفر شروط التمليك في دعواه وهي أن يكون لديه تعهد بنقل ملكية عقار صادر من المتعهد (البائع) وان المتعهد له (المدعي) قد أحدث منشات أو غراسا أو سكن العقار بدون معارضة تحريرية سابقة على تشييد المنشات أو غرس الاشجار أو سكنى العقار، وهي النقطة الجوهرية مدار بحث الحكم القضائي، لكنه أغفل عنها وبحث في مسائل غير جوهرية ولا تقدم شيئا للحكم القضائي اثباتا أو نفيا، لكن السؤال هو هل يمكن بحث الشروط الموضوعية للحق الذي يستند اليه المدعي في دعواه؟
أن البحث في حق المدعي هو لغرض ثبوت توفر شرط الاستحقاق، وهذا الثبوت يتعلق بتوفر شرط التمليك في طلب المدعي، لان شروط التمليك اذا لم تكن متوفرة ما جاز للمتعد له طلب التمليك ومن ثم لا يجوز له رفع دعوى عدم نفاذ التصرف .
لكن بحث توفر شرط الاستحقاق ببحث توفر شرط التمليك ينقلنا الى منطقة نقاش أخرى تتعلق بمدى حجية الحكم الصادر في دعوى عدم نفاذ التصرف في بحثه شروط التمليك، فمن المعلوم أن المدعي لم تنتقل اليه ملكية العقار ولم يرفع دعوى التمليك بعد وقام المتعهد بنفل ملكية العقار الى شخص اخر بغية حرمان المتعهد له من طلب تملك العقار، فبادر المتعهد له الى رفع دعوى عدم نفاذ التصرف، فهل الحكم الصادر في الدعوى الذي اثبت توفر شروط التمليك من عدمه للتحقق من توفر شرط الاستحقاق في الدعوى يكون حجة بما فصل فيه من الحقوق بين الطرفين نفيا أو اثباتا بحيث يمكن الدفع في مواجهة المتعهد له أن حكما سابقا اثبت عدم توفر شروط التمليك أو العكس أن يقدم المدعي الحكم القضائي الصادر بدعوى عدم نفاذ التصرف في دعواه طلب تملك العقار، فلا يحتاج الى اثبات جديد؟
نعتقد ان الحكم الصادر في دعوى عدم نفاذ التصرف في بحثه توفر شرط الاستحقاق من خلال بحث توفر شروط التمليك ليست له حجية في الاثبات على أساس قوة الامر المقضي به ، فموضوع شروط التمليك ليست اصلا في دعوى عدم نفاذ التصرف الا بالقدر الضروري للتحقق من توفر شرط الاستحقاق، كما أن هذا البحث لم ترتبط به فقرة حكمية في المنطوق تؤسس عليه، وانما مسألة عارضة جاءت في الحكم للتحقق من توفر شرط الاستحقاق ، ولهذا على المدعي أن يقدم ما يثبت توفر شروط التمليك، قد يكون من بيان ادلته الثبوتية هو الحكم الصادر بدعوى عدم نفاذ التصرف يقدمه لتستأنس المحكمة به ويساعد في تكوين قناعتها، لكن هذا الحكم لا يحوز حجية الامر المقضي به. ولما كانت المحكمة الموقرة لم تلتفت الى ذلك وبحثت في أمور غير منتجة في الدعوى وأهملت ما هو منتج وضروري ومع ذلك أصدرت حكما في الدعوى فان حكمها جاء معيبا بالقصور في التسبيب، لأن الأسباب التي عرضتها المحكمة لا ترقى لأن تكون أسباباً صحيحة، بل يمكن القول ان التسبيب الوارد في الحكم ينزل منزلة الانعدام، فالاسباب غير المنتجة في الدعوى لا تعد أسباباً ناقصة أو غير مكتملة ، بل أسباباُ منعدمة تنال من سلامة الحكم القضائي.